تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
تبدو طريق العودة إلى فلسطين طويلة، لكنّها أوضح من أي وقت مضى

الذاكرة الفلسطينية| من دير ياسين إلى غزة

منشور الخميس 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

"أنت لا تعرف! إن أسوأ ما يحدث في هذه الحياة أن يجلس رجلان، أو رجل وامرأة، دون أن يجدا كلمة تُقال، فما بالك أن تجلس قرى بكاملها صامتة!". تنعكس بعمق فكرة الخواء الذي يعيشه الإنسان أو المجتمع حين تُفتَقدُ الكلماتُ والمعنى، فيُطبِق ما يُمثِّله هذا الصمت على قرىً كاملةٍ ويُفقِدها الذاكرة والوجدان الجماعي.

الاقتباس السابق من رواية طفل الممحاة لإبراهيم نصر الله، يؤكد ضرورة الكلام والحكي للحفاظ على الذاكرة، حمايةً للهوية وفرصةً لاستمرار الحياة والتواصل الإنساني والاجتماعي. الحديث عن الذاكرة الفلسطينية في الرواية ليس ترفًا أدبيًا، وإنما دعوة ملحة للمقاومة الثقافية والتاريخية بالسرد والتوثيق والمواجهة.

يحاول ذلك المشهد العميق، الذي سيكون استشهادنا الأخير من ملحمة الملهاة الفلسطينية في آخر مقالات هذه السلسلة، التعامل مع السؤال عن العمل الذي نستطيع -نحن المتضامنين من المنطقة العربية، بعيدًا عن النظم والحكومات- القيام به، في ظل حقيقة أن المعركةَ معركةُ ذاكرةٍ لا يمكن محوها كما قالت المُعلِّمة في الرواية.

قصيدتنا إلى العالم

إحدى سُفن أسطول الصمود العالمي تواصل إبحارها صوب غزة، 23 سبتمبر 2025

لم يتوقف المشروع الصهيوني منذ تأسيسه عن محاولة الانتصار في ساحة الوعي أكثر من الميدان. لذا بنى منظومته على أساطير أخلاقية وادعاءات تقدم وتحضّر وحداثة، يُخفي خلفها بنية استعمارية كلاسيكية. لكن مع كل جولة من العدوان تتآكل هذه الأساطير. وصور غزة الأخيرة لم تترك مجالًا لتجميل الجريمة أو تبريرها. ومع ذلك، لا يكفي أن تنهار سردية الخصم؛ يجب أن تقوم مكانها سردية بديلة.

على جيل اليوم في المنطقة العربية والشتات ألَّا يستعيد الخريطة فقط، بل يعيد تعريفها. ألَّا  يرسمها من الجغرافيا إلى المعنى، بل من المعنى إلى الجغرافيا. أن يخلق وعيًا نشأ في عالم رقمي لا يمكن احتلاله ولا عزله، ويعيد إنتاج الذاكرة بلغة جديدة. فالإبادة في غزة ليست حدثًا معزولًا عن سلسلة الجرائم الصهيونية التي بدأت حتى قبل النكبة ولم تتوقف. لكنّ الجيل الجديد، على عكس ما أراد المحتل، لا يتعامل مع النكبة باعتبارها ذاكرة هزيمة، إنما هي مصدر وعي وموقف. ومن هنا تأتي أهمية تحويل الوعي إلى فعل. فالوعي وحده، مهما كان جادًا، لا يغير الواقع ما لم يترجم إلى مسار عملي، يربط بين الإدراك الفردي والفعل الجماعي. أو كما يقول عبد الرحمن الأبنودي في الموت على الأسفلت؛

القصيدة توصف الدم الذكي

ما تشيلش نقطة

توصف آلام اللي ماتت بنتها قدام عينيها

بس وصف

وصف جيد

وصف خايب

وصف صادق

وصف كاذب

في النهاية

كله وصف

كل شعر الوصف

مايساويش في سوق الحق صرخة

الكلام عن كل ده

شيء من التطاول

إنما لازم نحاول

القصيدة توصف الدم الذكي

فلنحاول إذن بناء قصيدتنا التي سنُلقيها على العالم بأدوات جديدة: لغة إنسانية تخرج من عباءة الخطابات القومية والدينية الضيقة، دون أن تتجاهلها أو تتعالى عليها، بمحتوى متعدد اللغات، وشهادات حية تربط الماضي بالحاضر. محاولة لتثبيت الوعي الفلسطيني داخل الخطاب العالمي كقضية تحرر وعدالة.

جيل الشباب الذي يتحرك اليوم في الجامعات الغربية وفي الفضاء الرقمي لا ينتظر قيادة، ولا يعمل ضمن مؤسسات. لقد أظهرت الشهور الأخيرة أن الرأي العام العالمي، وخصوصًا بين الأجيال الشابة في أوروبا وأمريكا، يمكن أن يكون لاعبًا حقيقيًا في معادلة الصراع. فمظاهرات الجامعات في نيويورك ولندن وباريس وبرلين كانت أكثر من تضامن عاطفي. وعيٌ جديدٌ يرى في ما يحدث في غزة اختبارًا لقيم العدالة وحقوق الإنسان التي تأسس عليها النظام الدولي نفسه. لم تعد فلسطين "قضية بعيدة" تخص الشرق الأوسط، بعد أن نظر إليها هؤلاء الشباب باعتبارها مرآة تكشف تناقضات العالم الذي يعيشون فيه: عالم يرفع شعار المساواة لكنه يسكت على الإبادة، ويتحدث عن القانون الدولي لكنه يطبّقه بانتقائية.

من الإنساني إلى السياسي

مخيم التضامن مع غزة في جامعة كولومبيا، 23 أبريل 2024

من هنا تتجلى أهمية هذا الوعي العالمي الناشئ؛ كونه الوحيد القادر على تحويل التعاطف إلى ضغط سياسي مستقبلي، وإلى حركة مدنية مستمرة تُجبر الحكومات على مراجعة سياساتها تجاه الاحتلال. لكنّ مسؤوليتنا، نحن العرب والفلسطينيين، هي أن نُبقي هذا الوعي متصلًا بالجذور. أن نُذكّر دائمًا بأن ما يجري في غزة اليوم ليس استثناءً عمَّا يحدث في فلسطين منذ ثمانين عامًا من الاستعمار والاقتلاع والتمييز. فحين يدرك الرأي العام العالمي أن الإبادة ليست طارئة بل سياسة بنيوية، يصبح أكثر قدرة على رؤية فلسطين لا أزمة إنسانية آنية، بل قضية تحرر مستمرة منذ عقود.

تحويل التضامن إلى فعل سياسي يستوجب إعادة تأطير القضية الفلسطينية على أنها قضية تحرر إنساني شامل. فعندما تصبح فلسطين جزءًا من معركة العدالة العالمية، يمكن لكل ساحة جامعية ونقابية ولكل منصة إعلامية، وحتى المبادرات الفردية، أن تعمل ضمن المعنى نفسه، فيتحول ما كان متناثرًا إلى فعل منظم وكتلة ضغط حقيقية.

المعنى هنا هو تجاوز الرمزية إلى الفعل، بحيث يصبح التضامن وسيلة لإعادة إنتاج الوعي، لا مجرد طقس وجداني يتكرر مع كل حرب. مما يعني هنا إدامة هذا الزخم عبر سردية واضحة، تُروى بلغتنا نحن، وتستثمر ما هو قائم بدل البحث عن مؤسسات جديدة. المطلوب مسار طويل النفس من ذاكرة تُستعاد، إلى رواية تُحكى بلسان أصحابها، إلى تنظيم خفيف ومرن يحمل الفعل، إلى ضغط يتراكم دون أن يتحول إلى طقس موسمي. فعلٌ يُمارَس لذاته لا لتزيين المواقف أو لأغراض سياسية أخرى كخلق حراك في دولة أو مناهضة نظام سياسي في أخرى أو إدانة ثالثة. فكل ذلك إن كان حقًا سيحدث تلقائيًا ودون إقحام أو مغالاة.

جوهر هذا الفعل هو ربط الحاضر بالماضي، ربط مذبحة غزة بمذبحة دير ياسين، ليُدرك الوعي العالمي أن ما جرى في العامين الأخيرين ليس تفصيلًا استثنائيًا، وأن ينظر إليه باعتباره امتدادًا لسياسات استيطان واقتلاع عمرها أكثر من سبعين عامًا.

من هنا، تتحول موجات التضامن العاطفي إلى إدراك لحقوق حقيقية: من حق المقاومة إلى حق العودة، مرورًا بحقوق تقرير المصير والمساواة والعدالة. هذا التحول المعرفي يتطلب أيضًا هدم الأساطير التي شكّلت الصورة الدعائية لإسرائيل، من خرافة مساواة الصهيونية باليهودية، إلى أسطورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وصولًا إلى أسطورة التقدم التكنولوجي الذي يخفي وجهًا استعماريًا واقتصاديًا استغلاليًا.

اللغة الفلسطينية حين تُقدَّم كقضية إنسانية شاملة تُكسب الحكاية عالميتها

ولا بد من ربط المشروع الفلسطيني بقضايا العصر الكبرى كما أوضحت في المقال الرابع من هذه السلسلة، ووضعه في ساحة نضال عالمية أوسع، لخلق قواسم مقاومة ممتدة لمشروع كوكبي يرفض منطق السوق الاستغلالي، بدلًا من أن يقتصر العمل على حدود جغرافية محددة.

فكشف الغسيل الأخضر الذي تمارسه إسرائيل، حين تروّج لنفسها دولة مستدامة بينما تستنزف الموارد وتدمّر البيئة، وتستخدمها لتحقيق أغراض استيطانية توسعية، يرسّخ صورتها تجسيدًا مكثفًا للرأسمالية الاستخراجية التي تحوّل الأرض والإنسان إلى موارد قابلة للاستغلال، ويطرح فلسطين نموذجًا متقدمًا لما يحدث في أنحاء أخرى من العالم، من شركات تستولي على الأرض، موارد تُنهب، وبيئات تُدمر لصالح تراكم رأسمالي ضيق.

لنبدأ "من الأول"

هذه هي المنطلقات التي يجب أن تقوم عليها حملة يمكن أن نطلق عليها من دير ياسين إلى غزة أو شيء من هذا القبيل، لتحويل التعاطف اللحظي الذي فجّرته الإبادة الجارية إلى وعيٍ تاريخي ممتد، يرى في المجازر حلقة من مشروع استعماري متواصل لا ينتهي إلا بتفكيك بنيته. الهدف ليس فقط فضح الجريمة، بل تثبيت سرديةٍ متماسكةٍ في الوعي العالمي؛ تجعل من فلسطين مرجعًا أخلاقيًا في النقاش الإنساني، لا مجرد ملف إنساني آني.

في هذا الإطار؛ في كل منشور، في كل ترجمة، في كل صورة تُعيد سرد الحكاية، ستتحول فلسطين من قضية إلى وعي متحرك، لا يمكن عزله أو حصاره. ورغم ذلك، تبقى المعضلة الكبرى: كيف نحمي هذا الوعي من الذوبان في العاطفة؟ كيف نمنع المأساة من أن تتحول إلى مشهد متكرر يفقد أثره؟ الإجابة لا تأتي من اللغة وحدها، بل من التنظيم والفعل. فالتاريخ لا يُكتب بالتعاطف بل بالإصرار. والذاكرة، كي تبقى حيّة، تحتاج إلى ممارسة، لا إلى بكاءٍ متجدد.

لهذا، لا بد أن يُدار هذا الوعي كمعركة طويلة النفس، تستخدم أدوات الثقافة والفن والإعلام، دون الوقوع في فخ التكرار أو الخطاب الدعوي. فاللغة الفلسطينية حين تُقدَّم على أنها قضية إنسانية شاملة، تُكسب الحكاية عالميتها، وتربطها بكل حركة مقاومة في أي مكان من العالم.

تبدو الطريق طويلة، لكنّها أوضح من أي وقت مضى. فالمعركة بين جيش الاحتلال والمقاومين، أصبحت معركةً بين سرديتين: واحدة تُبرر الإبادة باسم الأمن، والأخرى تُدافع عن الحياة كقيمة مطلقة. وما يحدث اليوم من انكشاف عالمي ليس صدفة؛ فهو نتيجة تراكم طويل من الوعي والعمل والإصرار. قصة فلسطين لن ترويها مجددًا أفواه السياسيين، وإنما شاشات الشباب، وأصوات الميادين، وحكايات الأحياء الذين يكتبون تاريخهم بأنفسهم.

كما بدأتُ بالأدب أختم به. حين يعود يونس بطل رواية باب الشمس لإلياس خوري إلى الكهف بعد الغياب قائلًا "نبدأ من هنا"، لا تبدو الجملة نهاية رواية بل بداية سياسة. "هنا" هذه هي اللحظة الراهنة بكل ما تحمله من وجعٍ واحتمال، من انهيارٍ وبدايةٍ جديدة. أو كما صوّرها يسري نصر الله في فيلمه المأخوذ عن الرواية، حين يضرب يونس الأرض بعد كل معركة مرددًا "من الأول".

علينا أن ننهض كل مرة، مهما كانت الخسائر، ونبدأ من جديد. فـ"من الأول" بعد السابع من أكتوبر هو إعلان عن زمنٍ جديد تتشكل فيه الذاكرة الفلسطينية من صمود غزة، ومن وعيٍ عالميٍّ حر يردد مع فيروز: اقتربت عودتنا نهار.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.