لا رقص في حضرة الموت
في قاعة واسعة بمدينة مدريد، أُقيمت قبل أيام "احتفالية" فنية بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. استخدام تعبير "احتفالية"، وربطه بهذا اليوم، شائك. فاليوم المقصود هو 29 نوفمبر/تشرين الثاني، يوم صدور قرار الأمم المتحدة 181 بتقسيم فلسطين، أختير لأنه يوم مأساوي في تاريخ الشعب الفلسطيني، يستدعي التضامن معه، وليس الاحتفال بمفتتح النكبة والمأساة الفلسطينية.
قَرَأت الممثلة مقدمة الفعالية أمام الحاضرين، من بينهم السفير الفلسطيني، ونشطاء وفنانون ومثقفون، نصًا لتقديم فريق دبكة شبابي فلسطيني/إسباني. تضمَّن النص شرحًا لأهمية رقص الدبكة في التراث والثقافة الفلسطينية. ولتعظيم أهميتها في حياة الفلسطينيين على أمل أن نشاهد العرض بما يليق به من انتباه، قالت إن الدبكة تلعب دورًا أساسيًا في الحياة اليومية الفلسطينية، لدرجة أن أطفال غزة يرقصونها خلال القصف.
بالطبع لم يجرؤ أحدٌ على مقاطعتها، أو تصحيح هذه الصورة مستحيلة التحقق التي ترسمها في مخيلاتنا. فخلال القصف المتواصل، الذي لم يتوقف طيلة عامين، يحاول الأطفال والكبار الفرار، الاحتماء بأي شيء على أمل النجاة. أو ببساطة يُقتلون، لا يرقصون الدبكة.
رومانسية القتال والحب في الغابة
تذكَّرتُ لحظتها الصورة النمطية القديمة التي انتشرت عن الكوبيين، وأوجَدَت نوعًا من البشر يتفلسفون حولها، وحول علاقةٍ ما شديدةِ الحميمية تربط فن الرقص بالمقاومة والنضال. مفادُ الصورة النمطية أن الكوبيين والكوبيات كانوا يرقصون فيما يُطلقون الرصاص. صورة روِّجت منذ نهايات الخمسينيات، تُمجِّد العلاقة الوثيقة لهذا الشعب بالنضال والمجازفة والتضحية، وفي الوقت ذاته برقص السالسا، والبهجة، والمتعة، وربما الحب.
لكنها صورة نمطية تفتقد ولو لوثيقة تاريخية واحدة، أو شهادة شخصية، تثبتها وتؤكد صحتها، وتصف كيف كانت تتحقق. كيف كان المقاتلون والمقاتلات في أعوام الثورة الكوبية والنضال المسلح، قبل سقوط نظام باتيستا يوم 1 يناير/كانون الثاني 1959، أو خلال أزمة خليج الخنازير اللاحقة واعتداء الولايات المتحدة الأمريكية على بلادهم، يرقصون.
إنهما فعلان جسديان لا يجتمعان؛ إطلاق المقاتل والمقاتلة الرصاص فيما هما يرقصان. فإطلاق النار، والتحصن لحماية الجسد، والانتباه، أفعال تتناقض مع الرقص والحركة. وأن يصاب الزميل والزميلة المجاوران في الخندق، أو وراء جدار في حرب المدن، ويُقتلا، لا يستدعي عند الناجين أي رقص. المنطقي أن تُستدعى مشاعر الحزن، والألم، والخسارة.
في الحالة الفلسطينية المُتخيَّلة، التي تحدَّثتْ عنها مُقدِّمة الحفل، هناك فخاخ أكبر وأكثر خطورة من الكليشيه الكوبي القديم، وحدود المنطق، مع مراعاة اختلاف الأمكنة، والقصف الجوي، وأن الأطفال في هذه الحالة هم الراقصون، وكذلك العوامل الثقافية والاجتماعية والدينية التي تفرق بين الفلسطينيين والكوبيين. أولها أن الدبكة في بلاد الشام، بأشكالها المتنوعة، من بينها الدبكة الفلسطينية، رقص احتفالي حصريًا، يرتبط بإظهار الفرحة.
اكتسبت الدبكة في الحالة الفلسطينية تحديدًا حضورًا أكبرَ في نطاق ثقافتي المقاومة والثورة الفلسطينيتين، لأنها ضمن العناصر الثقافية والتراثية الكثيرة، التي يُشهرها الفلسطينيون للتأكيد على هويتهم وثقافتهم الخاصة كشعب يناضل ضد الفناء والمحو والشتات. وازدادت أهميتها مع محاولات إسرائيل سرقتها مع عناصر التراث والثقافة الفلسطينية الأخرى، ونسبتها إليها ضمن عملية افتعالِ هويةٍ ثقافيةٍ لشعب مُفتعل. هوية غير موجودة بالأساس، تضم اليهود الإسرائيليين، المنتسبين لثقافات وتقاليد مختلفة.
أطفال يرقصون خلال القصف في عملية إبادة لم يعيشوها من قبل، في جزء من فلسطين دُمِّر تمامًا، ولم يبقَ منه شيء! إنه رقص بين الأنقاض! والصورة في جوهرها مُحمَّلةً بسخافة بالغة، تُولِّد النفور فيما المقصود بها العكس، أن تكون صورة أسطورية، ورومانسية. إنها فانتازيا تتجاهل استحالة استدعاء فعل احتفالي في سياق مأساوي. وتُضخِّم من أهمية هذا الفعل الاحتفالي؛ الرقص، لدرجة أن يمارسه الأطفال/الضحايا في لحظة الموت.
روعة الزهرة النابتة بين الرماد
ينفر البعض من رؤية الصورة الحقيقية، الواقعية؛ أن الهدف الوحيد في غزة، الذي يجمع الأطفال والكبار، هو النجاة، البقاء، وليس تمجيدَ رقصِ الدبكةِ، أو تحدي الموت، أو إغاظة إسرائيل عبر فعل الرقص الجسدي، وكأنَّ الدبكةَ انتصارٌ على الإبادة. في حين أن الإبادة لا يستطيع تحديها أي فعل فني أو جسدي. ولا يمكن الاستهانة بكل هذا الموت، أو تجاهله، أو مراوغته.
تكمن هنا المشكلة الأساسية، التي نستطيع رصدها بسهولة في سياقات فنية وثقافية ودعائية كثيرة؛ رفض رؤية الواقع كما هو. فيتجدد مع كل مأساة فلسطينية جديدة نزوع قديم لتصوير الشعب الفلسطيني باعتباره الشعب الصانع للأسطورة. بل إنه الأسطورة في حد ذاته. حتى وإن كانت في صورة ياسر عرفات، هذا الصامد أبدًا، الجبل الذي لا تهزه ريح، البطل الخارج من تحت الركام أيًا كان موقع الخطر، في عمان أو بيروت أو تونس أو صحراء ليبيا، ليسير كبطل، لا يتوقف. ويولد من جديد مع كل يوم جديد، ليرى الضوء في نهاية النفق.
تتسع الأسطورة، التي ساهم أبو عمار نفسه في تضخيمها وتعميمها، مُحاولًا أن يكون شعبه على درجة عظمته هو، فيسميه "شعب الجبارين"، الذي لا يستطيع هزيمته أحد. فنُمنع من أن نراه ضحيةً، بل بطل مشكل من كتلة اجتماعية هائلة في الأراضي المحتلة في 1948، والأراضي المحتلة في 1967، والشتات. كتلة مُشكَّلة من ملايين الأبطال والبطلات الأفراد. وهي الصورة الحاضرة حتى بعد رحيله بعقدين.
معادلة صورة الأطفال الراقصين للدبكة مزدوجة ومركبة. من ناحية تمنح الدبكة أهمية لا وجود لها واقعيًا، بارتباطها بالمأساة الكبرى، بمحرقة الشعب الفلسطيني. ومن ناحية أخرى تتعاظم صورة شعب الجبارين، الذي يرقص أطفاله وكأنهم غير عابئين بالموت، لمجرد التباهي الثقافي. ومن ناحية ثالثة تسفه من المحرقة، وتقلل من بشاعتها في أذهاننا، فهي تتضمن الرقص الاحتفالي. وكل ذلك يتحقق بمجرد استعارة شاعرية، ليُغلف الواقع الملموس المقترن بالدم والموت، برقائق رومانسية حالمة. على أمل أن تتحول هذه الرقائق لجلد الواقع، فيصبح أقل بشاعة، ونتقبله بسهولة أكبر.
إنها من ضمن هذه الأوهام في المخيلة الغربية/الشمالية، التي تخلق أساطير وتلبسها لواقع لا تعرفه، من نوعية التصميمات التي انتشرت في بدايات الإبادة، تجسد الفلسطيني والفلسطينية الراقصَيْن، مرتديين الملابس التقليدية القديمة للسكان الأصليين لأمريكا اللاتينية، بعد تعديلها بألوان العلم الفلسطيني والأثواب التراثية الفلسطينية. رغم أن هذه التصميمات نفسها تجسد كابوس الفلسطينيين، الذين يرون مصيرهم على العكس تمامًا. لا يتماهون مع صور "الهنود الحمر". فمعنى التماهي معها الوصول للمصير ذاته؛ الفناء، وأن يرضى الباقون على قيد الحياة بدور المهمشين في مجتمعات معزولة، كبشر في طور الانقراض.
تتطور هذه الكليشيهات أكثر حين ترتبط بالهزيمة. فلأن الهزيمة مدويةٌ وهائلةٌ، وتتحقق بالإبادة والدمار الشامل، وليست مجرد هزيمة في معركة؛ فإنها تستدعي الأسطورة لأننا نحتاجها. نحتاج أن نحتفظ في مخيلاتنا بصورة للضحية مرتدية ملابس البطولة، ترقص الدبكة وقت الموت، لترضينا. ترضينا نحن، فالضحية لا تحتاج للإرضاء، قُتلت تحت القصف جائعة مثلما تقول الحقيقة. وهذا الإرضاء لذواتنا يقلل من كابوسية الإبادة وبشاعتها اللا نهائية، بخدعة؛ ها هي الضحية ترقص كبطلة. بدلًا من الاحتفاظ بحقها في أن تكون ضحية وفقط.
أردت في نهاية "الحفل" أن أقترب من الممثلة التي قَدَّمته، لأسألها من كتب هذا النص الذي قَرَأَتْه، وإن كانت تظن حقيقة أن الجائع تحت القصف، في الإبادة، المنتظر للموت، يستطيع الرقص، ولأخبرها بأن كوبا فرغت تقريبًا من راقصيها وراقصاتها المحترفين خلال العقد الأخير. وأن الشعب الكوبي، "شعب الجبارين" في أمريكا اللاتينية، هاجر أغلب راقصيه وفنانيه. تركوا البلد تحت وطأة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية صعبة الاحتمال. هربوا من قلة الطعام، وانقطاعات الكهرباء، وندرة المواصلات وفرص العمل، وانعدام الأمل في المستقبل. ذهبوا، لم يعد هناك من يحترف الرقص والنضال معًا.
لم أفعل. خرجت للشارع البارد متمنيًا أن يظل في فلسطين من هو قادر على الرقص بعد انتهاء الإبادة، إن انتهت.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.