الذاكرة الفلسطينية| في مواجهة مشروع الرأسمالية الأكثر جرأة
في رواية طيور الحذر للروائي الفلسطينية إبراهيم نصر الله، ضمن ملحمة الملهاة الفلسطينية التي ترافقنا في هذه السلسلة، يقول علي لأخته "كل الكلام خائن يا مريم، ما دام البلد ضاعت". ومريم التي كانت تنتظر الحبيب في المخيم وتنتظر الوطن في الحبيب ما زالت تنتظر.
في شرم الشيخ، بدا توقيع اتفاق وقف الإبادة بعد بدئها بعامين كأنه يسعى إلى إغلاق المشهد لا معالجته. كل شيء في طقوس التوقيع يُوحي بأن المطلوب صناعة لحظة صورية من النظام والهدوء، لحظة تصلح للكاميرا أكثر مما تصلح للحقيقة.
الأزمة الأساسية ليست في تفاصيل هذا الاتفاق أو ما سبقه، بل في أن مثل هذه الترتيبات لا تمس أصل المشكلة. لا ترى الصراع إلا مسألةً أمنيةً أو إنسانيةً جزئيةً، وتتجاهل بُعدَه الأساسي؛ أنه جزء من بنية أوسع لنظام اقتصادي عالمي يسميه الكثيرون النيوليبرالية، وأُفضل أنا نسبه للأصل: الرأسمالية.
لا يمكن فهم وجود إسرائيل أو سلوكها خارج هذا الإطار، فالدولة الصهيونية خرجت من رحم الحاجة الاستراتيجية للبرجوازية الإنجليزية التي كانت أول من دخل في مرحلة "مَرَكْزة رأس المال" بعد اكتمال التكوين الرأسمالي لديها. ومع توسّع رأس المال، كان ضروريًا فتح جغرافيا جديدةٍ، فجاءت فكرة إنشاء كيانٍ وظيفيٍّ يؤدي دور الذراع الاستعمارية، مغطى بخطاب ديني وأساطير قومية، لكنه في جوهره مشروع اقتصادي إمبريالي.
لذلك، فالصهيونية ليست مجرد حركة قومية أو دينية، بل ذراع للرأسمالية الغربية تؤدي وظيفة محددة في إعادة إنتاج السيطرة. وقد وصل الأمر ببعض الباحثين مثل علي القادري إلى وصفها بأنها أحد أكثر مشاريع الرأسمالية جرأةً في التاريخ، مستندًا في ذلك إلى مقولة كارل ماركس بأن التهجير الجماعي هو أحد أكثر الكوابيس قتامة في مستقبل البشرية.
الحياة مقابل الطاعة
ترتبط القضية الفلسطينية ارتباطًا وثيقًا بالبعد الاقتصادي، وتمثّل ذلك في مفهوم "السلام الاقتصادي" الذي ظهر بديلًا شكليًّا عن التحرير الوطني، مُفسحًا الطريق أمام التنمية الاقتصادية لتبدو بديلًا عمليًّا لتعويض غياب السيادة الفلسطينية الحقيقية، تجلى في بروتوكول باريس الاقتصادي (1994) الذي جعَل الاقتصاد الفلسطيني تابعًا للاقتصاد الإسرائيلي.
قلّص هذا البديل فرص الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني ومكَّن الاحتلال من التحكم في مقدرات الفلسطينيين ما أدى إلى اقتصاد هش يعاني من تبعية مدمرة مستندًا إلى الاستهلاك بدلًا من الإنتاج والتنمية الذاتية التي من شأنها بناء دولة حقيقية. ولم يكن المشروع الذي طرحه ترامب قبل أشهر بتحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط إلا واحدًا من تمثلات هذا الاستبدال.
لا يمكن فهم القضية الفلسطينية ضمن حدود قُطْرية ضيقة لأنها جزء من صراع إقليمي على الموارد والقرار السياسي
يتوّج ذلك كله مشروعًا نيوليبراليًا أُطلق عقب اتفاق أوسلو، تشكّلت فيه السلطة الفلسطينية الجديدة على أسس إدارية واقتصادية تخدم مصالح الاحتلال، متخليةً عن رؤى التحرر الوطني الفعلي منه. لأن الصهيونية في النهاية تحمل بعدًا اقتصاديًا محوريًا كونها ذراعًا للرأسمالية الغربية، تحوك خططها "تحت غطاء الدين والأسطورة القومية". بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر إسرائيل قوة تهدف لتفكيك المجتمع العربي ودوام تخلفه، بما يضمن هيمنة الشركات الإمبريالية الكبرى واحتكارها.
لتعمل هذه المنظومة بلا مقاومة، استوجب الأمر إحكام الخناق الاقتصادي وإعادة تشكيل الحياة اليومية للفلسطينيين بما يتناسب مع منطق السيطرة. على هذه الأساس؛ صاغت إسرائيل البنية الاقتصادية الفلسطينية بطريقة تحرمها من أي سيادة حقيقية. لم يعد الأمر مجرد احتلال للأرض إنما تفكيك للبنية الإنتاجية ومنع تشكل اقتصاد مستقل.
استُخدم الإغلاق والحواجز أدوات اقتصادية ممنهجة ليُصبح المرور من مدينة إلى أخرى قرارًا سياسيًا تتحكم به الإدارة العسكرية. كما جرى تقنين ثلاثة أنواع من الريع؛ السياسي والاقتصادي والأمني لمنح الامتيازات والرواتب والتصاريح والوظائف بصورة تجعل العيش نفسه مشروطًا بالطاعة. خلقت إسرائيل أزمات مالية متكررة للفلسطينيين بتجميدها عوائدهم الضريبية، لتولد بيروقراطية ريعية مرتبطة بالمساعدات الخارجية ومكبّلة عن اتخاذ أي قرار مستقل. بذلك أصبح الاقتصاد الفلسطيني يعيش في حالة صدمة دائمة، تدار بالأزمة لا بالمؤسسات، وبالتمويل لا بالإنتاج، وبالمانحين لا بالمشاركة الشعبية.
ولم يقف المانحون الدوليون خارج هذه المنظومة، وتحولوا إلى دَرَكٍ لمراقبة المجتمع وضبطه عبر التمويل والمنح والتقارير والتدقيق، أصبحت المساعدات أداة لإعادة تشكيل الوعي، وترسيخ فكرة أن التحرر لم يعد مشروعًا واقعيًا، وأن الممكن الوحيد هو تحسين شروط الحياة تحت السيطرة لا خارجها.
ولأن هذا النموذج قائمٌ على منطق السوق والهيمنة المالية، لم يكن غريبًا أن ترتبط الإبادة في غزة بالأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام 2008 في الولايات المتحدة ثم اجتاحت أوروبا والعالم، لتكشف خللًا بنيويًا في منطق الرأسمالية. كان أحد حلولها إشعال حروب حول العالم أكثفها في منطقتنا وأعنفها في غزة. فمع اشتداد الأزمات تشتد المنافسة بين الرأسماليات العالمية على الموارد وتوسيع الأسواق، ومع احتدام هذه المنافسة تظهر الحرب كوجه واضح للرأسمالية بوصفها نظامًا لا يُنتج السلام لكن يديره كاستثناء مؤقت.
جرح الملاجئ عمره ما يتلم
من هنا، لا يمكن فهم القضية الفلسطينية ضمن حدود قُطْرية ضيقة، لأنها جزء من صراع إقليمي على الموارد والقرار السياسي، لدرجة تجعلها مزعجة ليس لإسرائيل وحدها بل لمصالح الغرب وللحكام العرب الذين ربطوا نفسهم بهذه المنظومة الإمبريالية. وعليه، يرى المفكر الفلسطيني سلامة كيلة أن حل المسألة الفلسطينية ليس ممكنًا ضمن إطار محلي، وأي تصور للتحرر يجب أن يرتبط بمشروع عربي ديمقراطي.
بالإضافة إلى التهديد الاقتصادي الذي تمثله القضية الفلسطينية للرأسمالية الغربية، فإنها تمثل أيضًا تهديدًا قيميًا، فالمقاومة الفلسطينية تواجه إلى جانب قوة الاحتلال العسكرية المنطق الذي يُقاس الوجود الإنساني في إطاره بمعايير الربح والخسارة. وتواجه الخطاب الذي يشكك في جدوى المقاومة ويبشر بنعيم التبعية تحت شعار الواقعية والعقلانية.
يجمع المشروع الصهيوني -كتعبير مكثف عن الإمبريالية العالمية- بين منطق التطهير العرقي ومنطق السوق في آنٍ واحدٍ. وفي ظل النيوليبرالية الدولية، تحولت فكرة بناء الدولة الفلسطينية إلى تأسيس مشروع اقتصادي-إداري ممول خارجيًا يخدم الاحتلال، وصارت التجربة الفلسطينية جزءًا من النيوليبرالية كظاهرة عالمية في الجنوب العالمي، وأصبح تحديها تحديًا للمنطق ككل. فعلى سبيل المثال تنفي الحربُ نفسُها فرضية ضمان الرأسمالية للاستقرار الدولي، وتدحض المقاومة الأفكار التي لا تعترف بالفداء والتضحية وتقيس صحة المواقف فقط بمقدار الاستفادة والربح.
وهنا تظهر الأبعاد الثقافية والرمزية بوصفه جبهة أخرى للصراع. فالقضية الفلسطينية لا تفضح فقط السياسات الغربية، بل تعري الخطاب الأخلاقي الليبرالي ذاته وتكشف زيف منطقه. وقوة الإمبريالية في فلسطين هي تمظهر مكثف لقوتها في العالم، مع اجتماع الربّ التوراتي والدولة العلمانية في مشهد واحد، يتم التطهير العرقي فيه باسم "الأمن"، وتُقصف المستشفيات باسم "التحرير"، ويُقلب المعنى حتى يصبح الجلاد ضحية والضحية تهديدًا للنظام العالمي.
لذلك يرى سلامة كيلة أن الدفاع عن فلسطين يرتبط بالدفاع عن الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. كما تشير الكاتبة والأكاديمية ريبيكا جولد إلى أن الدفاع عن فلسطين يرتبط اليوم بالدفاع عن حرية التعبير عالميًا؛ فمع اشتداد القبضة الإمبريالية، جرى تكريس الصمت حول فلسطين باعتباره موضوعيةً أو حيادًا، بينما هو في الحقيقة شكل ناعم من أشكال قمع الوعي. لأن فلسطين في النهاية أكثر من قضية محلية أو إقليمية، بالنظر إلى ارتباطها بقضايا عالمية كحقوق الشعوب الأصلية ومقاومة العنصرية العالمية.
كما أن أحداث 7 أكتوبر 2023 أسست نقاشًا عالميًا جديدًا حول شرعية النظام الصهيوني، منح القضية الفلسطينية بُعدًا تحرريًا وإنسانيًا عالميًا. حتى على المستوى الحركي مع ارتباطها بنضالات الشعوب الأصلية، والسود، والحركات المناهضة للاستعمار. باتت الشوارع الأمريكية والجامعات الأوروبية ساحات للتضامن مع الجنوب العالمي، وكلها ترى فلسطين نقطةَ التقاء الحركات التي تواجه النظام الإمبريالي برمّته، لا ملفَ "نزاعٍ إقليميٍّ" فقط. وكلما انتصر الفلسطينيون والعرب على الصهيونية، ضعفت قبضة الإمبريالية على شعوب العالم، التي أصبحت كلمات فؤاد حداد تعبِّر عن ذاكرتها الجماعية التي تتشكّل شيئًا فشيئًا، وهو يقول:
يا رب علمني العطش والجوع
واجعل لعيني دموع
واجعل لقلبي ضلوع
واجعلني صوت الشهيد
في النبض والتنهيد
شريان فلسطيني شجر مزروع
في الأرض جدر وفي الليالي فروع
يسمعني خال في كل بلدة وعم
جرح الملاجئ عمره ما يتلم
تفنى الليالي ولا يبور الدم
بناءً على ما سبق؛ جاءت لحظة السابع من أكتوبر 2023 لتعيد تعريف الصراع، لا عسكريًا فقط، بل على مستوى رمزيته عالميًا، لتضع إسرائيل أمام أزمة سردية بعد أن بدأ العالم يرى الصورة من زاويةٍ أخرى. لذلك كان طبيعيًا أن يصل اتفاق شرم الشيخ إلى نتيجة لا تتجاوز إيقاف الإبادة دون حل لجذور المشكلة، فإسرائيل ليست دولةً طبيعيةً يمكن التفاوض معها، بل مشروع إمبريالي مرتبط بالهيمنة الرأسمالية.
هنا تحديدًا، يصبح سؤال "ما العمل؟" هو الانتقال المنطقي للمقال التالي. فبعد الإبادة ووقف النار، لا يكفي أن نصف الواقع دون أن نحدد مفاتيح التعامل معه. لذا، سينتقل المقال الرابع من هذه السلسلة من تفكيك منطق البنية القائمة إلى تحديات تفكيكها ماديًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
