
المشهد القبيح
إنه نموذج الرجل الثرثار بامتياز. لا يخجل من إشهار جهله وصفاقته. يتباهى بتجاوز آداب السلوك والحديث. يتقمص شخصية الأراجوز الذي يرفض النزول من على خشبة المسرح ولو للحظة، متحولًا إلى ماكينة هائلة لضخ أقذر ما يمكن أن يقوله أو يفعله البشر، مُجسدًا أسوأ النماذج التي عرفناها في قصص الرعب، المتخيلة أو التاريخية. يعيد إحياءها على مسرح الحياة الواقعية، ليقول للجميع، للعالم، إن الوحش الذي كانوا يخيفوننا به صغارًا، حاضرٌ في الحياة الحقيقية.
وكأنه خارج من غابة ليدخل أخرى، جائعًا، مُطلقًا أكثر شهواته بدائية للافتراس والقتل، عبر امتلاكه، كفرد، أي سلطة نتخيل وجودها، منتقمًا من عالم كامل، محاولًا معاقبة الجميع، مستخدمًا أسلحة الضوضاء والتهديد والضربات المتتالية، والتصريحات والقرارات المتضاربة، ليُغرق كل الممتنعين عن الاصطفاف وراءه في الفوضى. فلا يتمكنون ولو من التقاط أنفاسهم للتفكير في كيفية مواجهته، أو تحجيم شروره، أو إيقاف طمعه، وطمع شريحة المغامرين العقاريين التي يمثلها، بالتهام العالم.
في شرم الشيخ، وبعبارات مبعثرة، تفتقد لأي منطق ينظمها، أراد ترامب امتداح الحكم المصري، الرئيس السيسي تحديدًا. فلم يجد من آيات المديح سوى القول بأن لا جريمة هنا، فالحكم المصري يقضي على الجريمة قبل أن تحدث.
أطفال فلسطين وقوارب فنزويلا
يستطيع المتابعون لأحوال شرقنا، ولممارسات الإدارة الترامبية في العالم، أن يروا هذا المديح من ثلاث زوايا مختلفة؛ أولها أن ملف حقوق الإنسان المصري شديد الثقل منذ 2013. وأكتفي هنا بتعبير "شديد الثقل" تجنبًا للمساءلة أو للعقاب. ورغم أن لمجتمعنا حظه الوافر من الجرائم؛ فما يثير إعجاب ترامب على الأغلب أن الحكم المصري يحقق جانبًا من منهجه في حكم الولايات المتحدة؛ القضاء على المعارضة، وعلى أي طرف لا يقبل الانسحاق أمام النظام الحاكم.
قبل ساعات قليلة من هذا التصريح المعجب بالحاكم المصري في شرم الشيخ، تفاخر الحاكم الأمريكي في الكنيست الإسرائيلي، بـ"شطارة" نتنياهو في القتل بالسلاح الأمريكي. وحجة القتل معروفة منذ 1948، وليس منذ السابع من أكتوبر، حتى وإن كان الضحايا أطفالًا؛ إنهم "إرهابيون فلسطينيون".
إنها الزاوية الثانية لرؤية مديحه للحكم المصري، التي تستدعي الزاوية الثالثة؛ استمراره في التباهي بعمليات القتل العمد في البحر الكاريبي، بقصف قوارب فنزويلية، بحجة أنها تُستخدم في تهريب المخدرات. فيذيع على جمهور مصفقيه فيديوهات تفجيرها بالصواريخ وقتل من عليها، دون حاجة لتقديم أي دليل على أنها قوارب لتهريب المخدرات، أو بذل أي جهد في ملاحقتها والقبض على طواقمها والتحقيق معهم لإثبات تورطهم في جريمة التهريب.
ترامب، ومجموعة السفهاء من مساعديه، لا يكتفون بأن يقرروا منفردين هوية المتهم، ونوع التهمة، والعقاب المستحق، وكيفية تنفيذه، "للقضاء على الجريمة قبل أن تقع". بل إنهم، ومن جديد، ومن دون تحقيق أو أدلة، يؤكدون أن المسؤول المباشر عن هذا التهريب هو الحكومة الفنزويلية، لذا ينبغي إنهاء وجودها. تتسع دائرة الاتهام، لتطال الرئيس المنتخب لكولومبيا، واصفينه بأنه تاجر مخدرات.
لا تتوقف الصفاقة هنا، فيعترف الحاكم الأمريكي بعد عودته لواشنطن من منتجع شرم الشيخ، ورغم هوسه بجائزة نوبل للسلام، ولأول مرة في تاريخ التدخلات والاعتداءات الأمريكية على شعوب وبلدان العالم بأنه أصدر أوامره لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتنفيذ عمليات اعتداء على فنزويلا من داخل البلد، وأن تُنهي وجود حاكمها، نيكولاس مادورو. وهو الاعتراف الجديد تمامًا، الذي تجنب كل الرؤساء الأمريكيين السابقين التفوّه به، وهم ينفذون اعتداءاتهم السابقة على بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وفي كل الانقلابات العسكرية التي دبروها ومولوها.
أثارت تصريحات ترامب الدهشة والفزع، فكيف يتباهى رئيس أقوى بلد في العالم، الذي تم تسويقه خلال أكثر من قرن باعتباره نموذج الديمقراطية الغربية الأكثر عراقة ورسوخًا، بعمليات إجرامية وانقلابية، بعد أن كانت تحدث في الخفاء ضد الأنظمة التي لا تُرضيهم!
لا مبرر للدهشة الآن، سوى أن يكون المندهشون جهلة تمامًا، لا يعرفون تاريخ الولايات المتحدة وحكامها وأجهزتها، ولا يتابعون ما يحدث في عالمنا من إبادة طيلة عامين، دون أي عقاب لممارسيها.
أو أن يكون المندهشون من السياسيين والدبلوماسيين والمراقبين ممن انتهت صلاحيتهم، فلم ينتبهوا إلى أن هناك عالمًا جديدًا تمامًا يُخلق منذ 7 أكتوبر، منذ لحظة التحريض العالمي لإسرائيل على القصاص، ودعم المؤسسات والحكومات لعملية القصاص الإجرامي تلك، ومن قبل أن تتحول لعملية إبادة.
مولد شرم الشيخ
شاهدنا خلال العامين الأخيرين مشاهد دالةً على أننا نعيش لحظة تحول مرعبة في تاريخ البشر. حيث ينهار النظام القديم تمامًا، ليتأسس على أنقاضه ما يمكن تسميته بـ"نظام اللانظام الفاشي". عالم يحكمه أمثال ترامب ونتنياهو وبوتين، يتكاثرون في هيئات بملامح مختلفة وبأحجام أصغر؛ ميلوني في إيطاليا، ميلاي في الأرجنتين، أوربان في المجر، وغيرهم. بل إن مشهد شرم الشيخ نفسه من ضمن هذه المشاهد الدالة على لحظة التحول المرعبة.
ما كان مثيرًا للدهشة حقيقة هو أن يحتفي مصريون وعرب بمشهد مولد شرم الشيخ
بالإمكان فهم احتفاء مصريين، وربما بعض العرب، بحفاظ مصر على حضور حماس في مفاوضات شرم الشيخ السابقة على التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار، المسماة كذبًا باتفاقية السلام. والاحتفاء بأن إخراج المشهد حدث دون أن تضطر حماس للخروج أمام الجميع رافعة الراية البيضاء. بالإمكان تفهم ذاك الاحتفاء برغم الصعوبة الناتجة عن غياب معلومات واضحة وموثقة تبين هذا الدور المصري الإيجابي. فيما عدا ما يخص نقطة واحدة؛ رفض مصر لتفريغ قطاع غزة وتهجير الشعب الفلسطيني، لتهديده الأمن القومي المصري بالدرجة الأولى، قبل أن يكون مراعاة للمصلحة الفلسطينية.
لكن، ما كان مثيرًا للدهشة حقيقة هو أن يحتفي مصريون وعرب بمشهد مولد شرم الشيخ، الضام لعدد واسع من الكومبارس متعددي الجنسيات، المتحلقين حول بطل وحيد، أراجوز وحيد، يداه ملوثتان بالدم، يتحدث عن السلام في العبارة نفسها التي يهدد فيها الفلسطينيين بالجحيم وبالقتل، إن لم ينسحقوا أمامه وأمام حليفته إسرائيل. يهددهم بالقتل إن لو يوافقوا صاغرين على هلاوسه، التي تبدأ بالاحتلال الدولي لغزة، تحت إشرافه ومجرم حرب آخر؛ توني بلير، وتنتهي بأن تصبح غزة ملهى ليليًا لأغنياء العالم.
إنه المشهد القبيح والمجنون بامتياز؛ مشهد احتفالي في سيناء المصرية، فوق الدم الفلسطيني، في غياب الشعب الفلسطيني، وبتقدير لبطل/قاتل آخر غائب، قاد واحدة من أبشع عمليات الإبادة في التاريخ الحديث. لكنه حاضر رمزيًا داخل ملابس النجم، الـone man show، الواقف على المسرح فيما يحيط به الكومبارس، موزِّعًا عليهم التهاني، أو التوبيخ، أو الإهانات، إن أراد.
لم ينتبه البعض لتجاهل الواقفين على خشبة الاستعراض شعبًا اسمه الشعب الفلسطيني، يجهلونه تمامًا، يحذفونه من اللغة، لا ينطقون اسمه. وإن حضر في المولد فيحضر بضمير الغائب مُهددًا بالقتل وبعودة الإبادة والجحيم. لكن هؤلاء البعض، غير المنتبهين لتغييب الشعب الفلسطيني، انتبهوا لغياب النساء عن المشهد، وحضور امرأة واحدة، تركوها عند طرف الصورة الاحتفالية، مهمشة، كي لا يراها أحد في هذا المشهد الذكوري بامتياز، الذي يحتل مركزه رجل العقارات المهووس بالقوة وبالجنس مدفوع الأجر، ترامب.
إنها جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا. فرحوا بوجودها المهمش، صنعوا الإيفيهات عن حوارها مع إردوغان، وتناسوا أنها عدوة اللاجئين والمهاجرين، وعدوة الفقراء من شعبها، ومن أهم حلفاء إسرائيل في العالم. وتناسوا الأهم، أنها تعبر عن أفكار الفاشية بوضوح، ومن دون خجل، ولم تتراجع أبدًا عما قالته سابقًا بأن موسوليني، سفاح أوروبا وسفاح شعبها، مثلها الأعلى.
كلمة الفاشية في هذا السياق ليست مبالغة، أو سُبة. بل تعريف دقيق للعالم الذي بدأنا نرى ملامحه منذ مساء السابع من أكتوبر، اليوم الأول الذي قتلت فيه إسرائيل الشخص الأول في غزة، ولم يحتج أصحاب السلطة. وبعد هذا التاريخ بعامين، يضطرون لوقف الإبادة، مستعيدين الضوضاء والأضواء المبهرة كأسلحة أساسية، لنغرق جميعًا في إحساس عميق بالهشاشة، وقلة الحيلة، وعدم الجدوى، وبأننا مهزومون دائمًا وأبدًا. وبأنهم -من بدأوا الإبادة- بمفردهم يوقفونها حين يريدون.
ربما ستصبح "صورة العائلة" في شرم الشيخ بعد أعوام رمزًا لزمن الفاشية؛ زمن خضوع العالم لحكم البربرية والقتلة، في غياب أي شرائع أو قوانين. إنه مشهد إيقاف الإبادة بصورتها الأكثر بشاعة مؤقتًا، سامحين بقتل الفلسطينيين إن لم يسيروا، وبالملّي، على هذا الطريق الضيق الذي يرسمه لهم القتلة، والمهاويس، والمفترض محاكمتهم بسبب جرائمهم ضد الإنسانية.
لا احتفال هنا، إنه الدم. دم الفلسطينيين، ودم شعوب أخرى ستدفع ثمن ألَّا يواجه أحد من ضيوف شرم الشيخ، أو غيرهم، القتلة، ليخبروهم بأنهم قتلة، وبأنهم يرفضون هذا المشهد القبيح.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.