تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
يعود توني بلير، مفجر الحرب في العراق، إلى الشرق الأوسط سعيًا إلى استعادة إرثه.

توني بلير.. البحث عن خلاصٍ بين ركام الشرق الأوسط

منشور الخميس 2 تشرين الأول/أكتوبر 2025

نادرًا ما يمرُّ اسمُ توني بلير دون جدل. واليوم، وسط أنقاض غزة يقف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق على أعتاب عودة جديدة إلى مسرح أحداث الشرق الأوسط.

من ظلال السياسة إلى واجهة المشهد، يطلُّ كأحد أبرز المرشحين لعضوية مجلس السلام المقترح لإدارة قطاع غزة مؤقتًا ضمن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف حرب الإبادة.

يستحضر هذا المقترح تجربة بلير الطويلة كمبعوث اللجنة الرباعية الدولية، ويثير سؤالًا جوهريًا بشأن ما إذا كان سيدير الأمور هذه المرة بما هو أبعد من مجرد كونه مسؤول تكنوقراطي.

بلير الذي صوّر السياسة دائمًا على أنها رسالة أخلاقية، الذي وعد البريطانيين ذات يوم بـفجر جديد، يظلُّ شخصية متناقضة الأدوار؛ دبلوماسي، ومهندس حرب، وباحث عن الخلاص. فهل تكون المهمة الجديدة ختامًا لمسعاه الطويل عن إرث وخلاص في الشرق الأوسط، أم مجرد فصل يضاف إلى تاريخه المثير للجدل؟

إرث الـ"العمال الجديد"

صعود بلير إلى السلطة كان دراماتيكيًا وغير متوقع؛ في عام 1994 تركت وفاة جون سميث زعيم حزب العمال فراغًا كبيرًا. كان سميث الزعيم البراجماتي القادر على إعادة حزب العمال إلى الحكم، ليفتح رحيله المفاجئ الباب أمام بلير، السياسي المغمور، لاقتناص قيادة الحزب.

قدَّم بلير نفسه سياسيًا عبر خطة لإصلاحِ الحزب؛ ألغى المبدأ الرابع الذي كان يكرّس الملكية العامة، وأعاد تقديم ما سمي بـ "العمال الجديد/New Labour" كمشروع وسطي مهادن لرجال الأعمال. هذا التحوّل الاستراتيجي تُوِّج بفوز كاسح للحزب عام 1997 أنهى 18 عامًا من حكم حزب المحافظين. وببلوغه الثالثة والأربعين، أصبح  أصغر رئيس وزراء لبريطانيا منذ اللورد ليفربول عام 1812 مجسّدًا نقلة نوعية وبداية جديدة.

ثقافيًا، ارتبطت تلك المرحلة بشعار Cool Britannia/بريطانيا المرحة: انطلاق موسيقى الـBritpop؛ التفاؤل، والاقتصاد المزدهر أواخر التسعينيات. انخفضت معدلات الفقر بين الأطفال، ارتفعت نسب التوظيف، وتحول مقر الحكومة إلى منصة لالتقاط الصور مع النجوم مثل نويل جالاجر، بقدر ما كان ساحة لإطلاق السياسات.

توني بلير والملكة إليزابيث الثانية في ستاد الألفية، 31 ديسمبر 1999

رغم نفي مساعده الصحفي أليستر كامبل، وتأكيده أن "الدين لا يدخل في حساباته السياسية"، ظل الدين عاملًا أساسيًّا في تشكيل رؤية بلير. فكما هو متوقع، بمجرد انتهاء رئاسته للحكومة البريطانية عام 2007، غيَّر بلير مذهبه من الإنجيلية إلى الكاثوليكية بعد خمسة أشهر فقط من خروجه من السلطة.

في المقابل، لم يخلُ مساره السياسي من الجدل والفضائح؛ في عام 1997 برزت قصة تبرعات برني إكليستون التي عُرفت بفضيحة تبرعات التبغ، إذ منح سباق Formula One استثناء من حظر إعلانات التبغ، وهو ما اعتذر عنه لاحقًا.

عززت تقاطعات المال والسلطة في عهد بلير من الفضائح التي لم تتوقف بانتهاء ولايته، فسجّل عام 2006 الفضيحة المعروفة بـرسالة دعم رجل الأعمال لاكشمي ميتال بعد صفقة تبرعات كبيرة، وشهد العام نفسه الكثير من الجدل بقراره حفظ التحقيق الذي يجريه مكتب مكافحة الاحتيال في رشاوى شركة BAE لمسؤولين سعوديين.

إرث العراق

لا شك أن التحول الأكبر لبلير جاء بعد هجمات 11 سبتمبر، إذ ورط بريطانيا وربطها كليًا بحرب جورج بوش الابن على "الإرهاب". لم يستجب بلير للضغوط الشعبية وخروج الملايين في أكبر مظاهرة بتاريخ بريطانيا في فبراير/شباط 2003 ضد غزو العراق، ومضى قدمًا في الركاب الأمريكي، ليخلص تقرير تشيلكوت لاحقًا إلى أن بريطانيا خاضت الحرب "قبل استنفاد الخيارات السلمية"، اعتمادًا على معلومات استخباراتية مضللة ودون تخطيط كافٍ لمرحلة ما بعد الحرب.

صحيح أن التقرير لم يصف الغزو بأنه غير قانوني، لكنه دمَّر سمعة بلير. ورغم تعثر محاولات ملاحقته قضائيًا، فإنه أكد تحمله "المسؤولية الكاملة" وقال إنه تصرّف "بحسن نية".

سنوات الرباعية.. إدارة بلا سياسة

توطد ارتباطه بالشرق الأوسط عبر عقودٌ طويلةٌ. بدأت علاقته بالمنطقة بناءً على عقيدته الدينية، كما سبق وأشار كاتب سيرته الذاتية أنطوني سيلدن، ثم تطوّرت إلى روابط قوية تجمعه بزعماء المنطقة من القذافي في ليبيا وصولًا إلى ولي العهد السعودي الآن محمد بن سلمان.

كما ربطته علاقاتٌ قويةٌ بمصر. ففي 1998 زار القاهرة لدعم صفقات الغاز والسلاح، وأطلق مجلس الأعمال المصري البريطاني، وظل ضيفًا متكررًا على شرم الشيخ. وعند قيام ثورة 2011، أثنى على حسني مبارك واصفًا إياه بأنه "شجاع وقوة للخير"، ما سبب له انتقادات واسعة.

خبرة بلير وصلاته بالمنطقة أوصلتاه إلى اختياره مبعوثًا للجنة الرباعية الدولية: الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وروسيا. وكان ذلك في اليوم نفسه الذي انتهت فيه رئاسته للحكومة عام 2007.

ورغم الآمال التي تعلقت بالرباعية لإحياء عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين، فإن مهمة المبعوث لم تضف الكثير، لكون دورها انحصر في بناء مؤسسات فلسطينية، وتحسين الاقتصاد، وتسهيل الحركة، بينما جُمِّد المسار السياسي.

فشل بلير في فتح قناة اتصال مع خالد مشعل عام 2015 لتخفيف التصعيد في غزة

أنجز مكتب بلير في القدس مهام عملية محدودة، مثل تطوير محطات الصرف في غزة، وإزالة بعض الحواجز في الضفة، وتشجيع الاستثمار، ودعم مشروع روابي كأول مدينة فلسطينية مخططة.

وبحلول 2011، أشاد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بمؤسسات السلطة الفلسطينية باعتبارها "جاهزة لقيام دولة". كما يحسب له تسهيل الإجراءات على نقاط التفتيش، ومنح التجار الفلسطينيين حق الوصول للمناطق الصناعية، وغيرها من المكاسب القابلة للقياس، التي اعتبرت مؤشرات نجاح رغم ضاءلتها.

لكن في المقابل، توسع الاستيطان واستمر حصار غزة وتفاقمت البطالة. واندلعت حروب 2008 - 2009 و2012 و2014، لتُدمّر البنية التحتية وتتبخر وعود المانحين، ويقع بلير في مرمى اتهامات الكثيرين باعتباره تجسيدًا لخلل الرباعية عبر إحلاله "السلام الاقتصادي" بديلًا عن الحقوق السياسية. 

استمر تراجع دور الرباعية الدولية حتى دعت دراسة لمعهد بروكينجز عام 2012 إلى "زوال تلك الآلية (الرباعية) بهدوء"، فهي بلا أدوار حقيقية، ومبعوثها لا يملك من أمره الكثير.

فشل بلير في فتح قناة اتصال مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل عام 2015 لتخفيف التصعيد في غزة، ليستقيل في العام نفسه، ويصبح إرثه مدير مشروعات ناجح، وليس قيادي قادر على إتمام تسويات سياسية.

خلاص أم تكرار

الخبرة السابقة والصلات القديمة والروابط الجديدة هي المؤهلات التي أحيت بلير مرة أخرى وأعادته ليتصدر خطة ترامب كمرشح مناسب لإدارة غزة في نموذج أقرب إلى تجربته في الرباعية؛ السيطرة على المعابر، إدارة أموال الإعمار، والتنسيق مع القاهرة وتل أبيب.

ولكن تبقى شخصية بلير عاملًا حاسمًا، فالرجل يجيد الاعتذار عن مواقفه والإصرار عليها، يقدم قراراته باعتبارها واجبًا أخلاقيًّا ثم يدافع عنها بشراسة. ولنا في لجنة تشيلكوت مثال، اعتذر بلير وأكد أنه تصرف بـحسن نية وفي الوقت نفسه تمسك باتخاذ القرار ذاته لو عاد به الزمن.

يمتلك المبعوث السابق مهارة العمل في مثل هذه البيئات الإدارية، وبإمكانه إعادة إنتاج مشهد الرباعية سواء في إدارة المعابر أو تحسين الكهرباء والمياه، وجمع الأموال من المانحين. وهنا يبرز الخطر الأعظم؛ أن تتحول مهمة بلير إلى "احتلال تكنوقراطي" بوجه إداري، مثيلًا لما شهده الفلسطينيون ما بين عامي 2007 و2015.

لكن نجاح بلير ليس مضمونًا هذه المرة أيضًا، ويبقى مرهونًا بالصلاحيات والمهام الموكلة إليه؛ فإذا اقتصرت على إعادة الإعمار، سنكون أمام إعادة تجربة ثبتت محدوديتها. أما إذا تضمنت أفقًا سياسيًا جادًا وحرية حركة وطريقًا لتقرير المصير، فقد يقدم شيئًا مختلفًا.

بتتبع مسيرته يمكن التكهن بنهاية مساره الذي دائمًا ما يبدأ بالتفاؤل وينتهي بالجدل الأخلاقي؛ من إصلاح حزب العمال إلى الإدانة في حرب العراق، من رئاسة الوزراء إلى العمل مبعوثًا تكنوقراطيًا بسجل يحمل إنجازات صغيرة.

المقترح الجديد لـ"مجلس السلام" إذن سيكون تكرارًا لما سبق؛ سنكون أمام عملية تخلو من السياسة، أمام إعمار لا تصحبه حقوق. سنرى نسخة جديدة من بلير الذي يملك الخبرة والعلاقات لإدارة المشهد، لكن دون تغييرًا جوهريًا في طبيعة التفويض، لينتهي مصير غزة إلى ما كان عليه في سنوات الرباعية: إدارة بلا سيادة، مشاريع بلا خلاص.