
بريطانيا وحرب الإبادة.. ذئب في ثوب حمل
على لندن الاعتراف بتواطؤها
في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الحالي؛ اليوم التالي لوقف إطلاق النار في غزة، احتشد نصف مليون شخص وسط لندن في "المسيرة الوطنية من أجل فلسطين"، مطالبين بوقف واضح وحاسم للدعم العسكري والسياسي البريطاني لإسرائيل.
تردد صدى الهتافات في شوارع لندن فاضحًا ازدواجية الخطاب البريطاني وكاشفًا تمسك داوننج ستريت بطقوسها المتناقضة.
فبعد عامين من الدمار الشامل في قطاع غزة ومع صمت القنابل الناتج عن اتفاق وقف إطلاق النار برزت التناقضات البريطانية على السطح، فالحكومة التي تتحدث الآن عن السلام وإعادة الإعمار، كانت قبل أيام شريكًا في الإبادة التي تدعي اليوم الحزن على ضحاياها.
تمسك المتظاهرون في الشارع بموقفهم، مؤكدين أن وقف إطلاق مجرد فترة راحة، لكنه لا يحقق العدالة.
إرث هذه الحكومة سيكون تواطؤها مع واحدة من أفظع جرائم العصر
منذ عام 2023، حافظت الحكومة البريطانية على ولائها ودعمها لإسرائيل، عبْر صفقات سلاح، ومشاركة معلومات استخباراتية ودعم دبلوماسي سخي، لكنها في الوقت نفسه واصلت سيل التصريحات المنددة بقتل المدنيين، بينما تموِّل آلة القتل بشكل مباشر.
وبينما صوّت أعضاء حزب العمال الذي يتزعمه رئيس الوزراء كير ستارمر في سبتمبر/أيلول الماضي على اعتبار أفعال إسرائيل في غزة "إبادةً جماعيةً"، واصلت الحكومة إنكار دورها في تمكين تلك الإبادة، ما اعتبره السياسي البريطاني زعيم المعارضة الأسبق جيرمي كوربن "إرثًا بريطانيًّا".
كتب كوربن على صفحته في إكس "بريطانيا مسؤولة أيضًا عن تلك الإبادة. إرث هذه الحكومة سيكون تواطؤها مع واحدة من أفظع جرائم العصر".
اعتراف بدون مسؤولية
في الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي، تصدرت بريطانيا العناوين بعدما أعلنت رسميًا اعترافها بدولة فلسطين، في خطوة وُصفت بـ"التاريخية".
غير أن هذا الاعتراف كان "فارغ المضمون"، فقد جاء مشروطًا بأن تنهي إسرائيل حربها على غزة، وأن توافق على وقف إطلاق النار، وأن تلتزم بخطة سلام طويلة الأمد.
بدا الاعتراف وكأنه مناورة دبلوماسية أكثر منه إقرارًا بحق طال انتظاره، وهو ما أبدى حسام زملط، سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة، دهشته بشأنه، وقال في مقابلة مع بي بي سي؛ "السؤال ليس لماذا يجب على بريطانيا الاعتراف بدولة فلسطين، بل لماذا لم تعترف بها من البداية؟".
أثارت إدانة ستارمر في خطابه لـ"التجويع والدمار" في غزة موجة من الاتهامات بالنفاق والازدواجية، فكيف يمكن لحكومة التنديد بالمجازر بينما تواصل تسليح مرتكبها؟
اعتبر كوربن في بوست على إكس اعتراف بلاده بدولة فلسطين "بلا معنى، طالما تواصل بريطانيا تسليح من يرتكبون الإبادة الجماعية".
سلاح بريطانيا في خدمة الاحتلال
تتقن بريطانيا فنّ التظاهر بالندم؛ يكرِّر ستارمر وأعضاء الحكومة الآخرين الدعوة إلى ضبط النفس ويعبرون عن قلق عميق إزاء تصرفات إسرائيل، بينما يواصلون التوقيع على صفقات التسليح ويقرون تسليم شحنات جديدة.
التواطؤ البريطاني ليس خطابًا سياسيًا بلاغيًا فحسب، بل أمر مادي يقاس بعقود من الدعم المادي والتنسيق العسكري وتبادل المعلومات الاستخباراتية والولاء الثابت لإسرائيل.
فبعد أيام قليلة من هجوم 7 أكتوبر 2023، نشر رئيس الوزراء البريطاني السابق ريتشي سوناك قوات بريطانية في شرق البحر المتوسط دعمًا لإسرائيل.
وحسب الجارديان، أصدرت المملكة المتحدة بين أكتوبر 2023 ومايو/أيار 2024، نحو 108 تراخيص لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، استخدم العديد منها في عمليات عسكرية.
500 شحنة من مكونات طائرات "إف 35" توجّهت من بريطانيا إلى إسرائيل عبر أمريكا
وفي سبتمبر 2024، أعلنت الحكومة البريطانية تعليق 29 ترخيصًا فقط لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، معتبرةً أنها "قد تُستخدم في انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي"، وذكرت حينها أن التعليق يشمل تحديدًا بيع "العناصر المستخدمة من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية".
ورغم دعوة منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمات مجتمع مدني أخرى الحكومة البريطانية في فبراير/شباط من هذا العام إلى وقف جميع صادرات الأسلحة إلى إسرائيل فورًا بسبب انتهاكاتها للقانون الإنساني الدولي، فإن 347 ترخيصًا بقيت سارية حتى يوليو/تموز 2025، منها 167 مصنّفة على أنها "عسكرية"، كما أفادت الجارديان.
شملت هذه التراخيص عناصر مثل قاذفات القنابل اليدوية والمتفجرات ومكونات القذائف الصاروخية والهاون ومعدات الاستهداف. وكما يظهر من بيانات وزارة الأعمال والتجارة البريطانية، المنشورة حتى 31 يوليو 2025، فإن تراخيص التصدير العسكرية وغير العسكرية تصل قيمتها إلى مئات الملايين من الجنيهات الاسترلينية.
علاوة على تراخيص تصدير الأسلحة، ووجود مقرات العديد من الشركات التي تُنتج أجزاء الأسلحة الموجهة لإسرائيل في المملكة المتحدة، فإن نحو 15% من طائرة F-35 يُصنع في بريطانيا، وهي أكثر مقاتلات إسرائيل تطورًا. وفي ديسمبر/كانون الثاني 2024، أظهرت تقارير المراقبة المستقلة، من بينها ما نشره الموقع البريطاني Declassified، أنه منذ أكتوبر 2023 أُرسلت أكثر من 500 شحنة من مكونات طائرات F-35، التي تُصنع ضمن تحالف تقوده شركة الأسلحة الأمريكية لوكهيد مارتن، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة لتُشحن لاحقًا إلى إسرائيل.
إلى جانب الدعم العسكري، استمرت المملكة المتحدة في مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل، ويشير تقرير Declassified UK إلى أن سلاح الجو الملكي البريطاني نفذَّ مئات المهمات الاستطلاعية فوق غزة منذ ديسمبر 2023 دعمًا لإسرائيل.
وخلُص التقرير إلى أن هذه الطلعات رصدت حجم الدمار الهائل في غزة، ومع ذلك، لم تعتبر المملكة المتحدة أن تصرفات إسرائيل غير متناسبة.
وبينما ادعت الحكومة البريطانية أن هذه الطلعات الاستطلاعية تهدف إلى المساعدة في استعادة المحتجزين الإسرائيليين، فإن تقرير Declassified يشير لغياب الشفافية حول هذه الرحلات ما يثير الشكوك بأن المعلومات الاستخباراتية التي جُمعت ربما سهلت بشكل مباشر تنفيذ هجمات إسرائيلية على القطاع.
يبقى الكثير من المعلومات حول تورط المملكة المتحدة عسكريًا واستخبارتيًا في الإبادة الجماعية في غزّة غارقًا في السرية، وغائبًا إلى حد كبير عن التغطية الإعلامية الرئيسية.
الجذور الاستعمارية أصل التواطؤ
لاستيعاب الدور البريطاني في غزة، لا بد من العودة لجذورها الاستعمارية، لتظهر بريطانيا باعتبارها المهندس الأصلي للإبادة وتهجير الفلسطينيين منذ عقود.
في عام 1917، نصّت الوثيقة التي عُرفت بوعد بلفور على دعم بريطانيا إقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، مما مهد الطريق للانتداب البريطاني، ثم للنكبة عام 1948.
هذه السياسات كانت الأساس الذي بُني عليه نظام الاستعمار الاستيطاني القائم على الإقصاء والعنف، والذي لا يزال يشكّل ملامح المنطقة حتى اليوم.
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ساهمت بريطانيا في اعتبار أي نقد للصهيونية "معاداة السامية"، مانحةً غطاءً أخلاقيًا لتأسيس الدولة العبرية وإقصاء الأصوات الفلسطينية.
استمر هذا الخلط لعقود، وفي عام 2016، تبنّت الحكومة البريطانية برئاسة تيريزا ماي رسميًا تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) لمعاداة السامية.
وهو تعريف خلط عمدًا بين مناهضة الصهيونية ومعاداة السامية، ما أتاح اعتبار المعارضة السياسية خطاب كراهية، وفتح الباب لمعاقبة الأكاديميين والطلاب الذين ينتقدون إسرائيل، وأصبحت مناصرة فلسطين سببًا لفرض رقابة مهنية.
بدأت أصوات أكثر في بريطانيا تدرك الفرق بين نقد إسرائيل والصهيونية
تشكل منذ ذلك الحين توجهٌ قويٌّ داخل مؤسسات ومنظمات وحركات طلابية في المملكة المتحدة، مثل كلية لندن، انتقد التعريف، وحذر من تقييده الحرية الأكاديمية والسعي لإسكات التضامن مع الفلسطينيين، فيما عرف بـ"أزمة معاداة السامية".
هذا التوجه كان له دور أساسي في سقوط جيرمي كوربن سياسيًا في عام 2020، بوصفه أحد أبرز الأصوات المؤيدة لفلسطين، تكفّلت تهم "معاداة السامية" بإيقافه عن العمل في حزب العمال؛ الإجراء الذي وصف بأنه عقوبة على انتقاده لإسرائيل.
إسكات التضامن وتجريم الاحتجاج
رغم ما يواجهه المتضامنون مع فلسطين من رقابة متزايدة وقمع تحت مظلة ما يعرف بـ"معاداة السامية"، فإن الإبادة المستمرة في غزة ساهمت في إدراك المزيد من الأصوات في بريطانيا للفرق الجوهري بين نقد إسرائيل أو الصهيونية والهجوم على اليهود.
ومنذ أكتوبر 2023، شهدت بريطانيا تعبئةً شعبيةً غير مسبوقة، عبر مسيرات، ووقفات وحملات مباشرة مطالبة بإنهاء التواطؤ على الإبادة. أبرز تلك الحركات فلسطين أكشن، التي أسسها الناشطان هدى العموري وريتشارد برنارد عام 2020.
استهدفت الحركة الشركات المتواطئة مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي والإبادة الجماعية ولها مقرات في المملكة المتحدة، بما في ذلك شركات تصنيع الأسلحة مثل إلبِت سيستمز ولوكهيد مارتن.
حُوكم 138 من المعتقلين ووجهت التهم إليهم لدعمهم حركة "فلسطين أكشن"
وفي أغسطس/آب 2024، اقتحم ناشطون من الحركة مقر إلبِت سيستمز في بريستول بعد أن صدموا المبنى بشاحنة، وفي يونيو/حزيران 2025 تسللوا إلى قاعدة آراف برَيز نورتون الجوية وطلوا الطائرات العسكرية باللون الأحمر.
لم يتأخر الردّ الحكومي على مثل هذه التحركات الاحتجاجية، إذ أعلنت وزيرة الداخلية يفيت كوبر حظر الحركة بموجب "قانون الإرهاب لعام 2000"، ليصبح الانتماء إليها أو دعمها علنًا جريمة يعاقب عليها بالسجن حتى 14 عامًا.
أُقرّ القرار في مجلسي العموم واللوردات، ودخل حيز التنفيذ في 5 يوليو الماضي. وبحظر حركة "فلسطين أكشن" باعتبارها منظمة إرهابية، أصبح بالإمكان اعتقال أي شخص يعلن انتماءه لها، وهو ما أثار موجة غضب عارمة، واعتُبر نقطة تحول في تراجع حرية التعبير في بريطانيا.
ونظّمت مجموعة ديفند أور جوريس 7 احتجاجات في لندن و مدن أخرى في بريطانيا ردًا على الحظر، أسفرت عن أكثر من 2100 حالة اعتقال بين يوليو وأكتوبر 2025، وتم توقيف متظاهرين كثيرٌ منهم كبار سن أو ذوو إعاقة، لمجرد رفعهم لافتات كتب عليها "أنا أعارض الإبادة، وأدعم فلسطين أكشن".
وحُوكم 138 من المعتقلين ووجهت إليهم تهم لدعمهم حركة "فلسطين أكشن"، وهو ما أدانته منظمة العفو الدولية ووصفته بالـمقلق للغاية، فيما تساءل الصحفي أوين جونز في الجارديان "كيف ستحكم علينا الأجيال القادمة، بينما يتهم السياسيون من يحتجون على الإبادة بالتحريض على الكراهية، وهم يدعمون من يرتكبها".
ما بين الصور التي أظهرت كير ستارمر أمام مقر رئاسة الوزراء وهو يصافح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج، وبين خطابه الذي أعلن فيه اعتراف بلاده بدولة فلسطين، تتشكل صورة سياسات بريطانيا المتناقضة. لكن خلف هذه الازدواجية يبدو أن هناك تحولًا بطيئًا، فالاعتراف بفلسطين لم يكن نتاج صحوة ضمير، بل ثمرة ضغط شعبي متصاعد.
بدأت الأقنعة تتساقط بينما يظل السؤال في الخلفية، وهو لا يتعلق بما إذا كانت بريطانيا ستغير مسارها، بل كم من القنابل يجب أن تسقط وكم روحًا يجب أن تزهق قبل أن يعترف الذئب بجرمه ويخلع رداء الحمل.