
حوار| جيرمي كوربن: اليسار الأوروبي خذل فلسطين تاريخيًا وعليه أن يتعلّم أكثر
لم يكن الوصول إلى ساحة ManiFiesta 2025 في مدينة أوستند مجردَّ وجودٍ في أحد أكبر المهرجانات الفنية السياسية الأوروبية؛ فعبور الساحة الواسعة التي كانت مضمارَ خيلٍ في عصر سابق يشبه الانتقال من صيف جاف وحار إلى قلب عاصفة خريفية، تحمل رياحُها القادمة من بحر الشمال إيقاعاتِ الموسيقى، وضجيجَ ندوات الخيام، وكأنَّ ذلك كله شريطُ صوتٍ مصاحبٌ للمطر الغزير الذي انهمر على تلك المدينة الساحلية الصغيرة.
ManiFiesta تعني مهرجانًا احتجاجيًا، وهو مصطلحٌ مركبٌّ من كلمتي manifestation/احتجاج وfiesta/مهرجان. ومن مفارقات التاريخ أن هذا المهرجان الاحتجاجي الاشتراكي السنوي ينظمه حزب العمال البلجيكي على مضمار خيل أسسه ملك بلجيكا ليوبولد الثاني، أحد أبشع قادة الاستعمار على الإطلاق، لدرجة أن هناك من يذهب إلى أن ردود الفعل على جرائمه في الكونغو، التي امتلك أرضها الشاسعة ملكيةً خاصةً، ساعدت على تشكّل وصعود حركة حقوق الإنسان الحديثة.
بعد دقائق قضيتها في وحلِ مضمار الخيل أبحث بين الخيم المتطابقة عن خيمة جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال البريطاني السابق قبل تأسيس حزبه الجديد حزبكم، وجدتُها أخيرًا، وقد تسرّبت مياه الوحل الباردة ببطء إلى قدمي. هناك، ناقشنا كيف نالت بريطانيا سمعة سيئة بشأن طقسها، رغم أن الأجواء في بلجيكا وغيرها من دول شمال أوروبا ليست أفضل كثيرًا، بل ربما أسوأ.
ورغم أننا لا نزال -رسميًا- في فصل الصيف، فإن هذا التجمع السياسي الفني الاشتراكي جرى في أجواء خريفية، مع انخفاض درجة الحرارة إلى ما دون العشرين، واستمرار هطول الأمطار ست ساعات متصلة، ما أثار تساؤلات المتحدثين في الندوات عمّا إذا كانت هذه الحشود الكثيفة مهتمةً بالمضمون، أم أنها تبحث فقط عن سقف تحتمي تحته من العواصف المطيرة.
اجتمعت إذن حركات يسارية من مختلف أنحاء أوروبا والعالم بحثًا عن لغة مشتركة لمقاومة الحروب والتفاوت الاجتماعي والانهيار الإيكولوجي وصعود اليمين المتطرف. لكن فلسطين، كما بات الحال في كل المحافل المماثلة، فرضت نفسها على الأجندة قضية مركزية لم تعد تخص شعبًا يبحث عن حقه في الأرض والحياة، بمعناهما الأساسي، ضد حرب إبادة طاحنة، بل أصبحت تخص أجيالًا بأكملها حول العالم.
إرهاب يحميه قانون الإرهاب
كوربن أحد أبرز وجوه اليسار البريطاني. أُقصي في 2020 من زعامة حزب العمال المعارض آنذاك، بعد أن "هوّن من شأن" تقرير عن انتشار معاداة السامية في أوساطه، وذلك استنادًا إلى رصد حالات لم يثبت أنها ممنهجة، مما دفع كثيرين، بينهم يهود، للاعتقاد بأن هذه هجمة سياسية يمينية للحيلولة دون سيطرة أقصى اليسار - ممثلًا في شخص كوربن - على الحزب. المفارقة، أن بحثًا قبل ثلاث سنوات من هذا الإقصاء كشف أن معاداة السامية أكثر انتشارًا في دوائر وأحزاب اليمين.
عندما عرف كوربن أنني مصري، تحدث بصوته الهادئ الذي خفف من وطأة الطقس العاصف عن ذكريات طفولته التي تخص مصر؛ مع صعود عبد الناصر وتأميم قناة السويس ثم العدوان الثلاثي، الذي شكَّل لحظة كاشفة عن هبوط المملكة المتحدة قوةً استعماريةً وصعود الولايات المتحدة وحركات التحرر الوطني في الجنوب العالمي. ثم انتقلنا للحديث عن أمور أكثر معاصرة مثل السياسة المرتبطة ببناء سد النهضة، ثم إلى أمور تقنية مثل تأثير بناء السدود على جودة التربة.
ثم، وبسبب جدوله المزدحم، انتقلنا سريعًا من الحديث الودي الممتع عن مياه النيل وتأثير السدود على الزراعة، إلى الحوار الرسمي المسجّل الثقيل عن أنهار الدم التي تسقي مجاعة غزة الناجمة عن الحصار الإسرائيلي المحكم وانهيار الزراعة في القطاع الذي يقطنه أكثر من مليوني شخص.
حين بدأت الحوار الرسمي بالسؤال عن إدراج مجموعة Palestine Action منظمةً إرهابيةً في بريطانيا، لم يُخفِ كوربن غضبه وهو يعيد التذكير بتجربته في البرلمان قبل ربع قرن، حين حذّر وزير الداخلية آنذاك، جاك سترو، من أن قانون الإرهاب لعام 2000 قد يُساء استخدامه ضد الحركات الشعبية السلمية. يومها قيل له: لا تقلق، لن يحدث ذلك.
يعتقد كوربن أن الإجراءات الهادفة إلى الإضرار بالحركة المناهضة للإبادة "أتت بنتائج عكسية"
يتذكر كوربن "في 1999، حين كان حزب العمال بصدد تمرير ما أصبح لاحقًا قانون الإرهاب لعام 2000، كنت في البرلمان. سألت وزير الداخلية حينها جاك سترو؛ أليس في خططكم لإدراج جماعات على لوائح الإرهاب خطرٌ بأن يُستخدم ذلك لمنع التظاهر السلمي والعمل المباشر، كما حدث مع الحركات المناهضة للأبارتهايد؟ جاك سترو أجابني: لا. على الإطلاق. في تقاليد الديمقراطية البريطانية هناك دائمًا مكان للاحتجاج الشرعي. لا داعي لقلقك. لن يُسلب هذا الحق أبدًا".
ثم رأى كوربن مخاوفه تتحقق "الآن، بعد 25 سنة، حدث ما حذرت منه: إدراج Palestine Action في قوائم الإرهاب".
المفارقة التي التقطها كوربن أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي خلال سنوات حكم رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت تاتشر "كانت لديه مكاتب في دائرتي الانتخابية في لندن. لأنها كانت آنذاك مكانًا يمكن أن تُجرى فيه مؤتمرات سلام أو وساطات".
ويلفت كوربن إلى أن الحكومة الحالية "بقيادة محامٍ مختص في حقوق الإنسان كما يصفونه (يقصد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر)، أدرجت Palestine Action في قوائم الإرهاب لمجرد أنهم نفذوا عملًا ضد طائرات في قاعدة سلاح الجو البريطاني. لم يؤذوا أحدًا. لم يهددوا أحدًا. ولم يقتلوا أطفالًا. بينما الحكومة الإسرائيلية، التي تقصف غزة، هي المنظمة الإرهابية الحقيقية".
ومنذ ذلك الحين "اعتُقل أكثر من ألف شخص خلال أسبوعين فقط بسبب Palestine Action. هذا الرقم يفوق بعشر مرات عدد المعتقلين بموجب قانون الإرهاب منذ إقراره قبل 25 عامًا. كثير منهم أطباء متقاعدون، وقضاة، وقساوسة، وبعضهم في التسعينيات من عمرهم. هذه مهزلة. وأنا بانتظار المراجعة القضائية في المحكمة العليا الأسبوع المقبل".
يعتقد كوربن أن هذه الإجراءات التي كانت تهدف إلى الإضرار بالحركة المناهضة للإبادة "أتت بنتائج عكسية؛ لقد أدخل إلى الحركة شرائحَ جديدةً تمامًا. صحيح أنه أخاف البعض، لكنه فضح عبثية موقف الحكومة التي تدافع عن شركات السلاح أكثر مما تدافع عن حقوق الإنسان".
فلسطين رابطة الأممية
هل بإمكان فلسطين أن تصبح القضية الجامعة لليسار العالمي ولأممية جديدة بعد عقود من التشتت والضعف، تحديدًا في ظل الصعود الكبير لقوى اليمين المتطرف؟ كوربن يرى أن التاريخ يجيب بنعم: من إسبانيا إلى فيتنام إلى العراق، دائمًا ما كانت هناك قضية تُلهم كل جيل يساري "في ثلاثينيات القرن الماضي، شهدنا زحف الفاشيين إلى إسبانيا من شمال إفريقيا بقيادة فرانكو ثم الحرب الأهلية الإسبانية، وفي النهاية انتصر الفاشيون. تبنى اليسار في أوروبا قضية الجمهورية الإسبانية، والتقى والداي بالفعل وهما يدعمانها. لذا، بمعنى ما، نشأتُ على هذا التقليد".
ويمضي أكثر عارضًا رؤيته "في الأربعينيات والخمسينيات، عارض آخرون الأسلحة النووية، وفي الستينيات كانت حرب فيتنام، وفي السبعينيات، مناهضة الأبارتهايد، وفي الثمانينيات، مرة أخرى، نزع السلاح النووي، انتقالًا إلى حرب الخليج، والعراق، وأفغانستان، وليبيا، وسوريا، وما إلى ذلك. كانت هناك حركة قوية مناهضة للحرب، التي أصبحت في عام 2003 حركة عالمية ضد حرب العراق. كانت هذه هي قضايا ذلك الوقت".
يُذكّر كوربن بأنه كان أحد مؤسسي تحالف أوقفوا الحرب عام 2001، و"كنتُ أحد منظمي أكبر مظاهرة في تاريخ بريطانيا عام 2003. هناك الآن عددٌ أكبر من الناس يقومون بأنشطةٍ لدعم فلسطين، مقارنةً بما كان عليه الحال حتى في العراق".
لكن في الوقت نفسه، يرى كوربن أن المواقف التاريخية لليسار الأوروبي من فلسطين لا تدعو للفخر "علينا اليوم أن نُقرَّ بأن تاريخنا كيسار لم يكن ناصع البياض فيما يتعلق بفلسطين"، ويضيف "في عام 1936، لم تحظَ الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني وضد سلوك بريطانيا وضد المستوطنات الصهيونية بالتضامن الذي كان ينبغي أن تحظى به. لم أجد أحدًا فعل شيئًا لدعم فلسطين في أي مكانٍ في أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي. لقد تم تجاهلهم"، يقصد الفلسطينيين.
ويتابع "إذا قرأ المرء النقاشات في الحركة العمالية البريطانية، وربما في جميع الحركات الأخرى في أربعينيات القرن الماضي، حول مصير الشعب الفلسطيني فيما يتعلق بإقامة دولة إسرائيل ووعد بلفور، لوجد أن الفلسطينيين وُصفوا بأشدّ العبارات عنصرية في ذلك الوقت. لذا أعتقد أن اليسار ككل سيدرك تاريخنا أيضًا. لم يكن كل شيء جيدًا".
أكثر من مجرّد ظلم!
كوربن، الذي ساهم في إطلاق Stop the War Coalition قبل أكثر من عقدين، يواصل اليوم نشاطه عبر مشروع العدالة والسلام Peace and Justice Project، حيث نظّم مؤخرًا محكمة غزة في لندن، بمشاركة أطباء وشهود عيان تحدّثوا عن عمليات جراحية على الأطفال بلا تخدير، وعن مرضى يموتون جوعًا بعد أن أنقذهم الأطباء من إصابات القصف. "هذا ليس مجرد ظلم"، يقول كوربن، "هذا شرّ يجب أن نوقفه".
ويمضي في سرد ما شهده بنفسه "زرت غزة والضفة الغربية وغور الأردن كثيرًا، ورأيت أماكن كثيرة، وذهبت إلى مدارس كثيرة. أنظر إلى الدمار، فأغضب وأُصدم، وهذا ما يجب أن يشعر به العالم أجمع. لكن ما يزيد من صدمتي هو أكاذيب ونفاق الحكومات البريطانية والفرنسية والألمانية والأمريكية. جميعهم واصلوا التجارة الطبيعية مع إسرائيل، وجميعهم زودوا إسرائيل بالأسلحة أو مكوناتها في أوقات مختلفة، وجميعهم سهّلوا ذلك".
لهذا وجد أنه من الضروري عقد محاكمة شعبية تضع الجميع أمام مسؤولياتهم "على مدار يومين من الأسبوع الماضي، ومن خلال مشروع السلام والعدالة، عقدنا محكمة غزة في لندن. كان لدينا 29 شاهدًا خبيرًا على مدار يومين. وكانوا أطباء، منهم الدكتور نيك ماينارد، وغيرهم. تحدث عن مدى فظاعة أن يكون جراحًا كبيرًا يُجري عمليات جراحية للأطفال دون تخدير أو مطهر، وقال إن هذا كل ما تعلم ألا يفعله كطبيب. قال إنه اضطر إلى القيام بذلك لأنه وسيلة لإنقاذ الأرواح".
ينوي كوربن الحشد لـ"مظاهرة ضخمة في لندن الشهر المقبل، ستكون ضخمة جدًا"، ضمن الجهود العالمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني ودعمه. وبينما أشاد بالتظاهرة الحاشدة يوم السابع من الشهر الحالي في بروكسل، المدينة التي تستضيف مقر الاتحاد الأوروبي، استبعد حضور أيٍّ من المسؤولين الأوروبيين الذين يعيشون في المدينة.
ويؤكد جيرمي كوربن أهمية "تضامن شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع الشعب الفلسطيني، لسنا بحاجة إلى حكومات تُشترى، كما في جنوب السودان، لتأخذ أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين الذين تُجبرهم إسرائيل على النزوح. ما نحتاجه هو تضامن الشعوب في كل مكان لدعم الشعب الفلسطيني وحقه في البقاء بغزة، وحقه في البقاء بفلسطين وتطوير مجتمعه. أنا متضامن معهم. ليس من شأني أن أخبرهم كيف يُنظّمون مجتمعهم في المستقبل. التضامن كلمة قوية لا تعني سيطرةً أو وصاية".
"حزبكم".. لنا جميعًا
حين انتقلت بالأسئلة إلى موضوع حزبه الجديد الذي أعلن تأسيسه في يوليو/تموز الماضي، هنأته قائلًا "مبروك على حزبك الجديد"، ليردّ ممازحًا بخفّة "إنه ليس حزبي الجديد. إنه حزبكم، إنه حزبنا". بعدها، وفجأة، بدأ يغني مقتطفًا من أغنية البوب الشهيرة It's my party، التي غنّتها ليزلي جور عام 1963.
بهذا الفاصل الغنائي؛ أكد كوربن أن الحزب لا يخصه وحده، بل يخص الجميع حتى خارج حدود بريطانيا، قبل أن يواصل قائلًا "حزبنا للجميع. سيكونون يهودًا، وهندوسًا، ومسيحيين، ومسلمين، وملحدين، وسودًا، وبيضًا، وآسيويين، وأمريكيين لاتينيين. مع ذلك، فهو لا يزال حزبًا بريطانيًا. مقره بريطانيا. يجب أن يكون له مقر في مكان ما. وأنا أعيش في لندن، هذا كل ما في الأمر".
وتابع "لدينا حوالي 800 ألف شخص مسجلين وهم متشوقون جدًا وموزعون بالتساوي في جميع أنحاء المملكة المتحدة وسيأتون من جميع الخلفيات. من الواضح أننا نستقصي هوياتهم، لأننا لا نعرفهم جميعًا. نعقد اجتماعات تعبئة، ثم ما نسميه جمعيات إقليمية لوضع الهياكل الأساسية وأفكار التنظيم، تُختتم بمؤتمر إطلاق. ثم ستكون الاختبارات الانتخابية الأولى العام المقبل في انتخابات السلطات المحلية في مايو/أيار في جميع المدن الرئيسية تقريبًا في إنجلترا، بالإضافة إلى البرلمانات الوطنية في اسكتلندا وويلز".
https://youtu.be/mtCIdpnQoWk?si=_yBmbHmr0W7DPOrSالتشبيك مع الجنوب العالمي
في هذا الجزء من الحوار، بدأ النقاش يلامس واحدةً من أكثر القضايا إلحاحًا في زمننا؛ الاستعمار الاقتصادي بأدواته الجديدة، وسلاسل القيمة العالمية التي تُبقي شعوب الجنوب في موقع التابع والمستنزف. كباحث اقتصادي؛ لم أُخفِ حماسي حين طرح كوربن مقترحًا قريبًا جدًا من فرضيةٍ تُشكِّل محورَ مشروعي البحثي الحالي، عرضتها في مقالي الأخير على المنصة، عن ضرورة بناء تحالفات سلعية بين دول الجنوب العالمي.
من هنا جاء حديثه عن أهمية التشبيك مع الجنوب العالمي، ليس فقط في السياسة بل أيضًا في الاقتصاد، وعن ضرورة أن تكون هناك بدائل حقيقية للنهج القائم الذي يعتبر المواد الخام سلعًا رخيصةً متاحةً إلى ما لا نهاية.
يقول كوربن "لقد كرّستُ وقتي وجهدي للتواصل مع الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم. لهذا السبب، يعود وجود مشروع السلام والعدالة جزئيًا، ولكن أيضًا إلى ثمانينيات القرن الماضي مع توني بن، الذي أسس ما يُسمى بحملة عدم الانحياز، والتي كانت تهدف إلى تطوير سياسة خارجية بديلة. أنا أيضًا منخرط في منظمة التقدم الدولية/Progressive International. أنا عضو مجلس إدارتها، وهي القوة المحركة وراء مجموعة لاهاي" بوصفها تكتلًا عالميًا من ثماني دول على رأسها جنوب إفريقيا وكولومبيا تنسق "إجراءات قانونية ودبلوماسية" دفاعًا عن القانون الدولي وتضامنًا مع الشعب الفلسطيني.
بنهاية فعاليات ManiFiesta، يتوجه كوربن "في وقت لاحق من هذا الشهر إلى جنوب إفريقيا للقاء العديد من المنظمات غير الحكومية هناك، وكذلك إلى ناميبيا، وذلك جزئيًا لدعم جنوب إفريقيا في مبادرتها الممتازة في تولي قضية محكمة العدل الدولية، ولكن أيضًا لبناء تلك الروابط". كما يعقد مشروع السلام والعدالة "الذي أنشأناه بعد تنحيتي عن زعامة حزب العمال، مؤتمره الدولي في نهاية الأسبوع المقبل، والذي سيشارك فيه متحدثون إما حضوريًا أو عبر الإنترنت من جميع أنحاء العالم".
يعتقد كوربن أن اليسار ككل اليوم "بحاجة إلى القيام بأمرين؛ الأول هو تحدي أجندة الحرب والأجندة العسكرية. ولكن أيضًا هناك أجندة عالمية تفترض فيها الدول الصناعية، ومعظمها دول شمالية، أن المواد الخام التي تحتاجها، سواءً كانت خام الحديد أو التيتانيوم أو الكوبالت أو الليثيوم، أو أيًا كان، ستأتي دائمًا بأسعار منخفضة من المبيعات العالمية".
ويضيف "ما نحتاجه أساسًا هو تأسيس منظمة على غرار أوبك لكل واحدة من هذه السلع. لقد غيّرت أوبك مصير دول الخليج تمامًا. على سبيل المثال. للأسف، لم تجلب لها الكثير من الديمقراطية، لكنها جلبت المال وغيّرت ديناميكية العالم من النظرة العنصرية المتعالية للشرق الأوسط، إلى أن أصبح كل هؤلاء الممولين في فرانكفورت وباريس ولندن وواشنطن ونيويورك الآن خائفون من دول الخليج".
عندما نبهني آرتين مرافق كوربن إلى أن وقتنا شارف على نهايته، أردت أن أطرح سؤالًا أخيرًا بدا لي محوريًا: هل يمكن للحركات الاجتماعية في أوروبا أن تتعلم هذه المرة من الجنوب العالمي، بدلًا من أن تكون المعادلة دائمًا معكوسة؟ فواقع اليوم يُظهر أن أمريكا اللاتينية، وربما حتى بعض بلدان إفريقيا، تعيش موجة يسارية أوسع مما نشهده في أوروبا.
جاءت إجابة كوربن بترشيحات فكرية، أقرب إلى خارطة طريق للوعي التاريخي والنقدي. لم يكتفِ بالحديث عن الحاضر، بل عاد إلى نصوص أساسية تكشف البنية العميقة للاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي "أعتقد أنه يجب علينا أن نجعل من قراءة عدد من الكتب أمرًا إلزاميًا، ومن بينها كتاب كيف أضعفت أوروبا تنمية إفريقيا لوالتر رودني. وبالمثل، أعتقد أن كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية لإدواردو جاليانو كتاب رائع، لأنه يكشف التاريخ الاستعماري بأكمله، بالإضافة إلى كتاب هوارد زين تاريخ شعبي للولايات المتحدة الأمريكية".
وشدد على أن على اليسار في الشمال أن يتحلّى بالتواضع ويستعد ليتعلم من تجارب الجنوب "عندما ننظر إلى تاريخ النضال الاستعماري وكيف حشد كوامي نكروما الناس فيما كان معروفًا وقتها بالساحل الذهبي (غانا حاليًا) دون أي دعم إعلامي على الإطلاق، فعل ذلك، وقد حدث ذلك في أماكن أخرى كثيرة. أعتقد أننا بحاجة إلى مزيد من التواضع من اليسار الأوروبي والأمريكي الشمالي لنتعلم من دول الجنوب العالمي".
كان كوربن -المعروف بتشجيعه لأرسنال- مرتبطًا باجتماعٍ تالٍ لحوار المنصة معه، لكنه لم ينصرف إليه قبل أن يسأل عن نتيجة مباراته مع نوتنجهام فورست التي لُعِبت أثناء إجراء الحوار. فتح هاتفه سريعًا، ابتسم حين لمح فوز فريقه بثلاثية، ثم غادر بعدها بلحظات لحضور لقائه التالي، كمن حصل على دفعة طاقة صغيرة من انتصار فريقه قبل أن يعود إلى معاركه السياسية الأثقل.