
سؤال القرن عن ضمانات حماية القضية الفلسطينية في خطة ترامب
الآمال معلقة على استمرار "ضمانات القوة الواقعية" لحماية الحقوق "غير القابلة للتصرف"
تتفق تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع البيانات الرسمية الصادرة من الوسطاء على أهمية العمل المكثف للبدء مباشرةً في مفاوضات المرحلة الثانية من خطة إنهاء الحرب في غزة. حديث ترامب أول أمس عن ثقته في "القدرة على تثبيت وقف إطلاق النار" يقطع الطريق أمام أي محاولة مباشرة لاستئناف العدوان وممارسات الإبادة، وقد انعكس بالفعل في نفي وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر نيَّة بلاده "تجديد الحرب بعد إفراج حماس عن المحتجزين".
ومن المقرر أن تبدأ خلال ساعات مفاوضاتُ المرحلة الثانية من خطة ترامب المكونة من 20 بندًا يتسم معظمها بالغموض، حتى بعد تسريب مسودة من البرنامج التنفيذي الذي وضعته لجنة تضم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ومستشارَي ترامب المقربين جاريد كوشنر وستيف ويتكوف. فالعديد من المقترحات ما زالت محل تحفظ من جانب حماس والفصائل الفلسطينية، فضلًا عن القاهرة وربما عواصم عربية أخرى، لما ترتبه من تغيرات جذرية على واقع القضية الفلسطينية وطبيعة قطاع غزة، وحتى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بشأن سيطرة إسرائيل عسكريًا على محور فيلادلفيا وكذلك على المعابر.
لا يمكن لأي قوة على وجه الأرض، مهما امتلكت من نفاذ الرؤية، توقّع ما سيتحقق وما سيُهمل من خطة ترامب في المستقبل، الذي تكتنفه علامات استفهام قد تمتد عقودًا، بعد التدمير الشيطاني لقطاع غزة، وإغفال الخطة للعلاقة بين القطاع والضفة وهما المكونان الرئيسيان للدولة الفلسطينية، والحديث عن "تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة" نتيجةً "محتملةً" لا "حتميةً" على ضوء "التقدم في إعادة الإعمار وبرنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بإخلاص"، وكذلك النص الصريح على وجود "محيط أمني مؤقت" حول القطاع "حتى لا تمثل تهديدًا إرهابيًا متجددًا لإسرائيل".
سؤال الساعة بين رؤيتين
يرى البعض أن المرحلة الأولى من الخطة دفعةٌ إلى الأمام، أيًّا كانت المخاوف الحالية على ضوء مؤشرات عدة. كونها تراجعت عن سيناريو التهجير القسري للفلسطينيين من غزة، ونصَّت صراحة على حظر احتلال وضم القطاع ما يعتبر مكسبًا بعد أسابيع قليلة من التصعيد الصهيوني الحثيث لتنفيذ الضم، قبل أن تعرقله التحركات الإقليمية والدولية.
من هذا المنظور، أُنقذت القضية الفلسطينية من التصفية بالحفاظ على عنصري الشعب والأرض. وطالما بقي الشعب بقيت المقاومة، وإن أدَّت الخطوات الحالية إلى نزع السلاح أو تسليمه بشكل مؤقت، أو تدمير البنى التحتية العسكرية للفصائل. بل إن هذا يتماشى مع وصف ترامبِ حماسَ أمس الأول بـ"القوة والذكاء ومهارة التفاوض" قائلًا "لا يريدون أن يتعرضوا للتدمير الشامل، ولا أحد يريد ذلك أيضًا".
في المقابل، يرى آخرون أن الخطة تضع القضية على شفا جرف، مدفوعين بحقيقة غياب التوازن عن الاتفاق.
فكل الالتزامات الصارمة تقع على عاتق حماس والفصائل، مقابل تفويض غير محدد الوقت أو المراحل لإسرائيل في مسألة الانسحاب، مبقية على 53% من مساحة القطاع تحت نير الاحتلال الفعلي إلى أجل غير مسمى، ثم عدم تحديد شكل العلاقة بين الاحتلال -حكومةً وجيشًا- والهيكل المقترح لحكم وإدارة غزة تحت إشراف ترامب وبلير، الذي يبدو على الورق سابحًا في خيالات التعاون الكامل مع جميع الأطراف.
فالآلية المنصوص عليها في الخطة لتأمين القطاع تحت هيئة "مجلس السلام" خليط بين القوات الدولية والإقليمية والعناصر الأمنية الفلسطينية، وصلاحياتها غير واضحة، مما يسمح بتكرار انتهاكات الاحتلال وربما العدوان. وقبول مصر بهذه الآلية مؤخرًا بعد تحفظ طويل، يشير إلى استمرار الجدل حول تشكيلها ودورها.
يفرض هذا التناقض الواضح بين النظرتين الإيجابية والسلبية للخطة أهم سؤال للسنوات العشر المقبلة، وربما في القرن الحالي للشأن الفلسطيني: ما الضمانات؟ ليس لخطة ترامب فقط، بل أيضًا لحماية القضية من التصفية ولعدم تجدد حرب الإبادة.
وهذا المنظور الواسع للضمانات المأمولة لا يقتصر على تأمين شروط الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، ولا إدخال كميات أكبر من المساعدات الإنسانية أو البدء سريعًا في إعادة الإعمار والترفيق وأعمال البنية التحتية وإيواء النازحين العائدين، وحوكمة شؤون السكان والأراضي، لكنه يشمل كذلك وضع أساس قوي لمنع العدوان، وأي محاولات للالتفاف على مكتسبات الخطة بهدف تحويل غزة إلى منطقة صفرية مستباحة أمام الاحتلال، شأن الضفة الغربية حاليًا، لنصحو بعد بضع سنوات على واقع تمزيق أوصال الأرض وتقطيع أرزاق المواطنين والسيطرة الكاملة على مقدّراتهم.
ضمانات لأهداف طويلة الأمد
يمثل توافق الرؤى الوطنية في مصر والعالم العربي والإسلامي على ضرورة الحيلولة دون انزلاق غزة إلى هذا المصير التعيس القاعدة الأولية لضمان ثلاثة أهداف؛ إنجاح المراحل المبكرة من خطة ترامب، بما في ذلك الانسحاب الكامل من القطاع، وإعادة بناء القطاع بما يجعله مكانًا صالحًا للحياة من جديد ثم يضمن ازدهاره اقتصاديًا، وأخيرًا حماية الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني ككل، على رأسها تقرير المصير والدولة المستقلة بل ومقاومة العدوان أيضًا.
يجب أن تعمل ضمانات القوة الواقعية في مرحلة لاحقة على وضع إسرائيل في الزاوية
والضمانات المنشودة لتحقيق تلك الأهداف لا يمكن كتابتها أو توثيقها، فأي اتفاق سياسي أو عسكري، مرحليّ أو دائم، يعكس حالة الصراع في لحظة معينة، سواء بالتوازن الكامل بين الأطراف أو توزيع الغنائم والأضرار، أو حتى باستسلام طرف وخضوعه بشكل نهائي. بالتالي فإن تغيُّر الوضع يسمح واقعيًا للطرف المتضرر بالسعي لتعديل موقف في الاتفاق، إمّا بانتهاكه وخرقه، أو الضغط لتغيير بنوده، أو التحلّل منها وإلغائه من طرف واحد، فيصبح الاتفاق في خبر كان.
حتى الاتفاقات المستندة إلى القانون الدولي والمعتمَدة من أجهزة الأمم المتحدة يمكننا تصنيف ضماناتها إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى ضمانات قانونية قابلة للتوثيق والمتابعة كاللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدولي أو مجلس الأمن أو فرض عقوبات، والثانية قيم معنوية مثل المكانة العالية للزعماء والوفاء بتعهداتهم ليتذكرهم التاريخ، أو الحرص على السمعة والظهور في صورة الدولة الممتثلة لأحكام القانون الدولي، والاقتناع بأهمية حسن الجوار والتعاون المشترك.
الواقع أن لا مكان للمجموعتين السابقتين من الضمانات في خطة ترامب، الفاقدة لأي أساس قانوني بل تتحدث بلغة القوة الشرسة وتفرض ما يشبه الاستسلام على المقاومة، وتتبنى نظرية نتنياهو لفرض سلام الردع، كما أن إسرائيل تجاوزت منذ زمن مسألة الشعور بالحرج أو الحرص على الظهور كدولة ملتزمة بمبادئ الإنسانية والقانون.
لذا لن يكون أمامنا إلّا المجموعة الثالثة من الضمانات التي يمكن وصفها بـ"ضمانات القوة الواقعية"، وهي خليط واسع من الضغوط المتقدمة، سياسيًا ودعائيًا واقتصاديًا، لانتزاع دعم دولي واسع ومستدام لحماية مصالح الشعب الفلسطيني. وحضور ترامب وزعماء العالم إلى مصر نموذج على ذلك. ثم تسيير المفاوضات القادمة في إطار واضح من الالتزامات على الاحتلال لمنع إهدار السيادة، وإجهاض أي أفكار لاستباحة غزة وفصل حدودها عن مصر، فضلًا عن استغلال الظرف الراهن في إعادة اللّحمة إلى الفصائل.
ويجب أن تعمل ضمانات القوة الواقعية في مرحلة لاحقة على وضع إسرائيل في الزاوية تحت ضغط حشد عالمي متعدد الصور، لإلزامها بوقف الإبادة والعدوان المستمر والفصل العنصري والاستيطان، من خلال رفع تكلفة تلك الانتهاكات عبر المحاكم الدولية، واستمرار الأنشطة المناهضة وتطوير أسلحة الملاحقة القضائية والمقاطعة الاقتصادية والثقافية.
ضمانات القوة الواقعية بيد من؟
يمكن الجزم بأن العملية الإسرائيلية في الدوحة واتفاق الدفاع المشترك السعودي الباكستاني لعبا دورًا مهمًا في تسريع التدخل الأمريكي لتثبيت مصالحها في المنطقة ومعالجة قلق حلفائها من عربدة صهيونية خرجت عن السيطرة.
غير أننا لم نصل إلى النقطة الراهنة -بعد عامين كارثيين- إلّا عندما تصدت مصر بكامل طاقاتها لقيادة عملية الوساطة الإيجابية، قافزةً إلى الأمام، لتأخذ خطة ترامب شكل مفاوضات لإنهاء الحرب بدلًا من أن تكون مجرد وثيقة استسلام وإذعان، بالتوازي مع تكثيف جهودها الإنسانية على الأرض.
ولم نصل إلى هنا إلّا بعد تضافر جهود الدول العربية والإسلامية في محطتين مهمتين، أولاهما الحشد الدولي لدعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليصرخ ترامب في وجه نتنياهو "لن تحارب العالم كله وحدك"، لا سيما في ظل تراكم خطوات التضامن من الشعوب اللاتينية والأفريقية والأوروبية. والثانية إظهار الإرادة الجماعية أمام ترامب لإنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن.
تأخرت تلك التحركات وشابتها خلافات ونزاعات على الفضل والقيادة. والواجب الآن إزالة تلك التوترات -أو تقليلها إلى الحد الأدنى- كشرط جوهري لإنقاذ القضية من التصفية. فواهمٌ من يتصور أن المراحل المقبلة ستكون أقل حساسية أو أسهل من الناحية الإجرائية، لأن ضمانات القوة الواقعية هي الوحيدة التي يمكن الرهان عليها، ولن تؤتي ثمارها إلّا بتوحيد الجهود والاستمرارية والنفس الطويل، وتوافر الإرادة لاستخدام كل الوسائل الممكنة للضغط على إسرائيل.
أعادت حرب الإبادة التذكير بقائمة من القواعد كدنا ننساها في عقود التيه، أهمها أن إفشال المخططات الإسرائيلية للهيمنة على المنطقة بأسرها مرهون بدعم الشعب الفلسطيني وحقوقه حتى انتزاع النصر الذي لن يُمنح طواعيةً أبدًا.