شياطين جاريد كوشنر
وقف جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأسبوع الماضي، في المركز الذي أقامته الولايات المتحدة في إسرائيل لمراقبة وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ليعلن بكل عنجهية أن أعمال إعادة إعمار القطاع ستقتصر على المناطق الخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال، لا تلك التي تسيطر عليها حماس داخل "الخط الأصفر"، ويتكدس فيها نحو مليوني فلسطيني، بعد موجات متتالية من التهجير القسري على مدى عامين من حرب الإبادة الممنهجة الإسرائيلية.
وفقًا لخطة ترامب المكونة من 20 نقطة، انسحب الجيش الإسرائيلي من 50% فقط من مساحة قطاع غزة متناهي الصغر، بعد إطلاق الفصائل الفلسطينية كل من لديها من محتجزين إسرائيليين أحياء، وما استطاعت تسليمه من جثامين محتجزين ممن لقوا مصرعهم في هجوم السابع من أكتوبر، وأولئك الذين قضوا في قصف جيش الاحتلال أثناء وجودهم داخل غزة.
تربط الخطة، بإصرار إسرائيلي، انسحاب الاحتلال من أراضي القطاع بنزع سلاح حركة حماس وتدمير الأنفاق وانتشار قوة استقرار دولية تتلقى توجيهاتها من مجلس للسلام يترأسه الرئيس الأمريكي ترامب شخصيًا.
وبناءً على التقدم في تلك الخطوات، ستنسحب إسرائيل بعد ذلك لخط أزرق ثانٍ، ليتبقى خط أخير يشمل منطقة عازلة تطول وتقصر، على طول حدود القطاع مع إسرائيل ومصر. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن جيش الاحتلال سيبقى في تلك المناطق العازلة "في المستقبل المنظور"، وهو المصطلح الإسرائيلي الذي يشير لنيّتها البقاء للأبد، وعدم تسليم الحكم لأي سلطة فلسطينية.
"غزة غزتين"
لأن النقاط الخاصة بنزع سلاح حماس وتدمير الأنفاق ونشر القوة الدولية شديدة الحساسية والصعوبة، وسيستغرق الاتفاق عليها أسابيعَ إن لم يكن شهورًا، فإن ما طرحه كوشنر -الذي لا يحمل أي صفة رسمية- يعني عمليًا ترسيخ تقسيم قطاع غزة إلى نصفين؛ الأول تحت الاحتلال الإسرائيلي يشهد إعمارًا وتنميةً وتدفقًا للأموال من حلفاء ترامب المقربين في "الدول العربية الخليجية الثرية"، والثاني حيث يتكدس مليونا فلسطيني في ظروف مزرية وغير آدمية تحت حكم وإدارة حماس، سيظلون دائمًا عرضةً للضربات الإسرائيلية بمزاعم حماية الأمن والتخطيط لإعادة بناء قدراتهم العسكرية.
وفي إطار كرم أخلاق السيد كوشنر الذي كان من أول اقترح تحويل غزة إلى منتجع سياحي في فترة ترامب الأولى ثم روّج لاقتراحه مجددًا مطلع العام الحالي، أشار في تصريحاته الأسبوع الماضي إلى إتاحة الفرصة أمام سكان منطقة "الخط الأصفر" الخاضع لسيطرة حماس للانتقال لاحقًا إلى المناطق الخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال بعد إعادة تعميرها، مع البدء بمدينة رفح جنوب القطاع نموذجًا.
وعندما فاجأ ترامب العالم فور توليه منصبه بالترويج لمقترح امتلاك بلاده قطاع غزة وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" بعد تهجير سكانه، كان واضحًا ارتباط ذلك المقترح العبثي بأفكار كوشنر؛ المطور العقاري. ورغم إعلان كوشنر بعد فوز ترامب في الانتخابات أنه لن يلعب أدوارًا رسمية في الإدارة الجديدة؛ عاد فجأة ليتصدر المشهد مشاركًا في صياغة خطة العشرين نقطة التي تم الاحتفال بها في قمة شرم الشيخ، متجاوزًا دور مبعوث ترامب الرسمي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي ظهر في الصور يسير خلف كوشنر مستمعًا لتوجيهاته.
في مايو/أيار 2024، تجاهل نتنياهو كل التحذيرات التي وجهتها له الإدارة الأمريكية ومصر وكل العالم تقريبًا من اجتياح مدينة رفح، فأمر جيشه بهدمها بالكامل وتهجير كل سكانها حتى تحولت الآن إلى مدينة أشباح. أيضًا سيطر جيش الاحتلال على معبر رفح وكثف وجود قواته في تلك المنطقة، مُخالفًا معاهدة السلام مع مصر واتفاقية المعابر الموقعة مع السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي، بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من القطاع عام 2005.
لذلك فعندما يقترح كوشنر البدء برفح نموذجًا لإعادة الإعمار طارحًا مشروعه الجذاب، آملًا أن يُنسي الفلسطينيون مطالبهم بإنهاء الاحتلال والحق في تقرير المصير وإقامة دولتهم، والتخلي عن ما يصفه بالشعارات التي أضاعت المنطقة وأدت للفشل في التوصل لحلول، فإنه بذلك يؤكد أنه وترامب -المطوّر العقاري هو الآخر- لم يتخليا عن مشروع "ريفييرا الشرق الأوسط" وامتلاك "الموقع الرائع المطل على المحيط" على حد تعبير ترامب الذي ظن البحر المتوسط محيطًا، غالبًا لجهله بالجغرافيا، ونظرته للعالم بعدسة القارة الأمريكية المحاطة بالمحيطات.
https://www.youtube.com/watch?v=PslOp883rfIطموحات مطوّر عقاري
في هذا السياق بدت زيارات كبار المسؤولين الأمريكيين المتتالية لإسرائيل منذ التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار لافتة؛ بداية بكوشنر وويتكوف اللذين مكثا عدة أيام لمتابعة ملف الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين ولقاء أسرهم، ثم نائب الرئيس الأمريكي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، نهاية بوزير الطاقة كريس رايت، ومورجان أورتاجوس نائبة مبعوث الولايات المتحدة للشرق الأوسط.
لا يعكس هذا الكم من الزيارات فقط الحرص الأمريكي على تماسك اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ومنع نتنياهو من خرقه. لكن الأرجح أن هناك صفقةً شديدةَ السخاء طالما أشار ترامب ومؤخرًا نائبه فانس لها بمشاركة الدول العربية الخليجية الثرية، لا يريد الرئيس الأمريكي أو صهره كوشنر إضاعتها. ويمتلك ترامب شخصيًا من خلال شركاته الخاصة التي يديرها أبناؤه ومعهم كوشنر وويتكوف مصالح مالية كبيرة ومشاريع عقارية ضخمة مع قطر والإمارات والسعودية.
ورغم العلاقة القوية بين نتنياهو وترامب، والدعم السخي الذي قدمه الرئيس الأمريكي لإسرائيل منذ توليه منصبه، سواء بتوفير أسلحة بالمليارات، أو بضرب إيران، أو بمضايقة القضاة الدوليين الذين يلاحقون إسرائيل ومسؤوليها، بدأت الصحف الإسرائيلية نفسها تطرح تساؤلات عن تحوّل إسرائيل إلى جمهورية موز تديرها الولايات المتحدة. في مركز المراقبة الأمريكي داخل إسرائيل، واسمه الرسمي مركز التنسيق المدني العسكري، يُرفعُ العلم الأمريكي فقط رغم وجود القوات الإسرائيلية داخله، بجانب ممثلين لدول لم يكن نتنياهو يرغب في وجودها بكل تأكيد مثل فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، بعد اعترافها جميعًا بدولة فلسطين، بجانب الأردن والإمارات.
ولكن إذا كانت كعكة إعادة إعمار غزة تبدو كبيرة جدًا وصفقة لا يريد الرئيس الأمريكي تفويتها، فإن الشيطان يكمن في خطط كوشنر وطموحاته وليس فقط في التفاصيل. كما أن كوشنر الذي يفتخر بصهيونيته وتدينه كيهودي أقرَّ بأن قطاع غزة يبدو كما لو أنه قُصف بقنبلة نووية؛ فاته طبعًا أن يشير إلى الطرف الذي ألقى تلك القنبلة النووية.
لا يمانع المطور العقاري بقاء سكان غزة في وسط ذلك الدمار نووي الأبعاد الذي ارتكبته إسرائيل، ليبني مشاريعه العقارية الطموح والمدن الذكية الجذابة التي ستجعل من غزة دبي البحر المتوسط، من دون دولة فلسطينية، بدايةً من رفح ثم بتقسيم القطاع ما لم تسارع مصر وقطر وتركيا، التي شاركت ترامب في التوقيع على الاتفاق، بتذكير الرئيس الأمريكي بأن هذه وصفة سريعة للعودة لاستئناف الحرب، ولن تؤدي لأي سلام أو استقرار، ولن تتدفق معها المليارات والتريليونات التي ينتظرها هو وصهره كوشنر على أحرِّ من الجمر.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
