ممداني وتداعي نظرية "الوسطية" سر النجاح
حقق زُهران ممداني فوزًا تاريخيًا صعبًا بمنصب عمدة نيويورك، فهو الأصغر سنًا بين المرشحين، وأول مسلم يفوز بهذا المنصب في مدينة تقطنها ثاني أكبر جالية يهودية مؤثرة في العالم بعد إسرائيل، وهو أيضًا اشتراكي ديمقراطي على رأس عاصمة الرأسمالية العالمية.
لم يكن الفوز صعبًا فقط لكل ما ذكرتُ من أسباب، لكن أيضًا لأن القيادة المحافظة للحزب الديمقراطي التي تصف نفسها بالوسطية والاعتدال والتي يفترض أن تدعمه كونه مرشح الحزب، كانت تتحفظ على انتخابه مثلها مثل الجمهوريين والرئيس دونالد ترامب.
زعمت قيادة الحزب الديمقراطي أن خطاب ممداني الراديكالي سيخيف الناخب الأمريكي المحافظ، ويرسِّخ الصورة التي يرسمها اليمين للحزب الديمقراطي، باعتباره حزبًا يساريًا متطرفًا، بالتالي ستتقلص فرص فوز باقي مرشحي الحزب في انتخابات الكونجرس النصفية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني 2026، إلى جانب المنافسة في انتخابات الرئاسة عام 2028.
الخطأ الديمقراطي القديم
القيادة التقليدية لمؤسسة الحزب، التي تمثلها شخصيات مثل هيلاري كلينتون وزوجها الرئيس السابق بيل كلينتون وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وإلى حد ما الرئيس السابق باراك أوباما، بقيت مترددة حتى اللحظات الأخيرة في إعلان دعم ممداني رغم فوزه بشكل رسمي بترشيح الحزب الديمقراطي وهزيمة منافسه أندرو كومو الذي تجاهل هذه النتيجة وخاض الانتخابات بصفته "مستقلًا".
نفس هذه القيادات الديمقراطية كانت هي من وقفت بضراوة ضد ترشح عضو مجلس الشيوخ المستقل بيرني ساندرز في الانتخابات الرئاسية عام 2016 التي خسرتها هيلاري بشكل مفاجئ أمام الرئيس الحالي ترامب.
ورغم تقدم ساندرز في العمر (75 سنة عام 2016/ 84 سنة حاليًا) فإنه يظل الأكثر شعبية بين صفوف الشباب المؤيدين للحزب الديمقراطي، بسبب أفكاره التقدمية في نقد القواعد الراسخة للرأسمالية الأمريكية التي تتجاهل الفقراء والأقليات ومصالحهم وأوضاعهم الاجتماعية، وانحيازه لقضايا الحريات وحقوق الإنسان، سواء داخل أمريكا أو على مستوى العالم، بما في ذلك دعمه حق الشعب الفلسطيني في التخلص من الاحتلال الإسرائيلي العنصري وإقامة دولته المستقلة.
وإذا كان التعاطف مع فلسطين بلغ مداه الآن على مستوى العالم وفي الولايات المتحدة بعد عامين من حرب الإبادة التي تعرض لها قطاع غزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن ترديد ساندرز مثل هذه المواقف قبل نحو عشر سنوات كان من قبيل الانتحار السياسي.
تآمرت هيلاري بكافة الوسائل لتشويه صورة ساندرز، وسعت لإلصاق تهمة الشيوعية ومعاداة السامية به (رغم أنه يهودي)، وتولت حملتها تسريب المعلومات المغلوطة لوسائل الإعلام حول مواقفه لضمان خسارته للانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
كان ساندرز حالة متفردة لدرجة أن دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة وقتها أبدى إعجابه به، متمنيًا فوزه بترشيح الديمقراطيين، ليس فقط بسبب كراهيته العميقة لهيلاري، لكن لاعتقاده أن هزيمته ستكون أسهل بسبب آرائه ومقترحاته الثورية التي لن يقبلها الناخب الأمريكي "العادي" أو "الوسطي".
وكانت النتيجة أن الشباب الأمريكي المؤيد للحزب الديمقراطي قاطع الانتخابات الرئاسية في 2016، وتلقت هيلاري هزيمةً مذهلةً لم يتوقعها أحدٌ، ذلك لأنهم رأوا فيها مجرد سياسية تقليدية أخرى تغوص في مستنقعات الفساد والصفقات والعمولات كغالبية الساسة الأمريكيين من أعضاء الكونجرس والمؤسسات الحاكمة ممن يُوصفون بـ"الدولة العميقة".
وبغض النظر عن الانتماء الحزبي. وطالما أن هؤلاء الساسة يتمسكون جميعًا بمبادئ "الوسطية" و"الاعتدال" فإن الفوارق ستبقى دائمًا طفيفة وسيتم الاحتفاظ بجوهر السياسات التي تحفظ مصالح الطبقة الأمريكية الحاكمة.
الصدق مفتاح الفوز
فاز ممداني في الانتخابات لأنه كان صادقًا وصريحًا في التعبير عن أفكاره ومبادئه. وبينما كان قادة الحزب الديمقراطي يخشون لعقود من وقع كلمة "يسار" و"اشتراكية" على الناخب الأمريكي "الوسطي" في بلد يزعم الحرب ضد الشيوعية ويرفع لواء الرأسمالية، وفضلوا استخدام مصطلح "ليبرالي" بديلًا لوصف توجهات الحزب، كان العمدة المنتخب يكرر اعتزازه بكونه "اشتراكيًا ديمقراطيًا".
تبنى مقترحات تبدو جنونية في بلد الرأسمالية مثل إقامة مجمعات استهلاكية حكومية لتوفير الأطعمة والاحتياجات الأساسية بأسعار رخيصة ووسائل نقل عامة مجانية ومصاريف لرعاية كل أطفال المدينة قبل سن الالتحاق بالمدرسة في إحدى أغلى مدن العالم وأكثرها اتساعًا في الفوارق الطبقية.
الادعاء أن حزبًا ما يوجه خطابه لـ"جموع الشعب" يعني ببساطة تجاهل التنوع القائم في المجتمع
أيضًا تبدد الاعتقاد السائد بأن إسرائيل "بقرة مقدسة" لا يمكن ولو مجرد التلميح بانتقادها في المدينة التي تعرف شعبيًا باسم "جو يورك" (Jew York) بدلًا من نيويورك بسبب نفوذ الجالية اليهودية الأمريكية وعددها الكبير مقارنة بباقي الولايات. عكَسَ ممداني موقف غالبية شباب الحزب الديمقراطي الذين يرون أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب وإبادة في غزة وأعلن دون خوف أنه سيلقي القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حال زيارة نيويورك بناءً على الأمر الصادر من المحكمة الجنائية الدولية.
لم يكترث بتهديدات ترامب بقطع التمويل الفيدرالي عن نيويورك حال لم "يتأدب" ويعود إلى رشده ويراجع مواقفه، وظهر في آخر مؤتمراته الانتخابية بصحبة كافة رموز التيار التقدمي الأمريكي على رأسهم العجوز الثائر بيرني ساندرز وكذلك عضوة الكونجرس الشابة عن ولاية نيويورك ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز التي تزداد شعبيتها بشكل مذهل.
مطالب عادلة وليست جنونية
رفضت كورتيز تعامل الجمهوريين وقادة الحزب الديمقراطي التقليديين مع الشباب باعتبارهم مجموعة من "المجانين" أو الحالمين في أفضل تقدير. وقالت إنه ليس من الجنون المطالبة بمساكن لائقة ورواتب عادلة وصحة وتعليم وعدم إنفاق أموال الأمريكيين لقتل الفلسطينيين، بل إنها مطالب إنسانية يعبِّر عنها عقلاء.
السعي لتبني الخطاب الموصوف بـ"الوسطي" و"المعتدل" للنجاح في استمالة غالبية كبيرة من الناخبين هي استراتيجية لا تتبناها أحزاب المؤسسة التقليدية الحاكمة في الولايات المتحدة فقط، إنما هي قناعة منتشرة لدى الساسة والأحزاب في مختلف دول العالم، ونحن في مصر لسنا استثناءً من هذه القاعدة بكل تأكيد.
أتذكر جيدًا أنه في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، نشأت العديد من الأحزاب التي رفع القائمون عليها شعار أن أبوابها مفتوحة لـ"كل المصريين" الذين شاركوا في ذلك الحدث التاريخي العظيم.
بجانب أنه لو كان هناك حزب يجمع "كل المصريين" لما كان هناك حاجة لتعددية حزبية من الأساس، فإن الادعاء بأن حزبًا ما يوجه خطابه لـ"جموع الشعب" يعني ببساطة تجاهل التنوع القائم في المجتمع واختلاف المصالح والأولويات بين طبقاته المختلفة.
ينتهي الأمر بالاحتفاظ بنفس القواعد السياسية القائمة التي تخدم مصالح الطبقة الحاكمة والمستفيدين منها والزعم أن أي أفكار تدعو لتغيير تلك القواعد ستضر بمصالح "الجموع" مبهمة الملامح والانتماءات ويتم وصف أصحابها بـ"الثوريين" غير الواقعيين في أفضل تقدير، ودعاة الاضطراب والفوضى في أسوأ الأحوال.
والحقيقة هي أنه من المستحيل وجود خطاب سياسي لحزب يرضي الجميع، وممداني لم يفز في نيويورك بأصوات كل الناخبين، بل بنسبة 50% فقط، وحصل منافسه الجمهوري على 41%، وحلَّ العمدة الديمقراطي السابق ثالثًا بنسبة 7%.
تمكن ممداني من تحقيق تلك النتيجة لأنه نجح في تحفيز قطاع من الناخبين المهمشين ممن وصفهم بفخر بأصحاب الأيادي المتسخة والمتورمة والمحروقة في أعمال البناء والمصانع وإعداد الطعام وتوصيله عبر الدراجات البخارية، وكذلك الشباب فاقدي الثقة ممن سعى أصحاب نظريات "عموم الناخبين" والخطاب الوسطي المعتدل إلى تهميشهم وتعميق شعورهم أن صوتهم لا يمثل فارقًا، بالتالي من غير المجدي التوجه لصناديق الانتخاب من الأساس.
صحيح أن الأجهزة المعنية في مصر تشفق على حالنا وما نعانيه اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وهي على دراية بمصلحتنا أكثر منا، بالتالي قررت هندسة الانتخابات البرلمانية لضمان الاستمرار في الخروج ببرلمان يخدم مصالح "كل المصريين" شاء من شاء وأبى من أبى، ولكن قد يكون من المجدي مستقبلًا أن تدرس أحزاب المعارضة المصرية تجربة ممداني في مدينة نيويورك وأن تتبنى خطابًا يميزها عن خطاب النظام بالإعلان صراحة أنها لا تتصور ولا تستطيع أن تدافع عن مصالح "كل المصريين".
على هذا الأساس، يكون الأجدى أن تسعى تلك الأحزاب إلى استهداف فئات ومجموعات بعينها قد لا تؤدي بالضرورة لفوزها بنسبة 80% أو 90% كما يتمنى الجميع، ويكفي الفوز بنسبة 50% أو 52% فقط.
هذه النسبة قد تضم قطاعًا من الناخبين المعتدلين الوسطيين الأوفياء في حال اقتناعهم بمقترحات عملية تخدم مصالحهم وتساعد في مواجهة صعوبات المعيشة الجمة، ولكن الرهان يجب أن يكون على المهمشين والفقراء والشباب ممن لم يتوجهوا يومًا لصناديق الانتخابات لأن تجربتهم أثبتت أن صوتهم غير مطلوب من الأساس ولن يمثل فارقًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
