
قصف الدوحة.. مَن الشاة التالية؟
منذ ثمانينيات القرن الماضي، جرى تسويق الوجود العسكري الأمريكي في دول الخليج العربي على أنه شبكة أمان وحائط صد عن ممالك وإمارات تمتلك فائض ثروة نفطية هائلة، لكنها لا تملك جيوشًا قادرةً على حماية تلك الثروة أو مواجهة أي تهديدات تطال أمنها واستقرارها.
لم تُختبر تلك المقاربة إلا في مواجهة العراق، عندما تطابقت المخططات الأمريكية الإسرائيلية مع رغبات الأنظمة الخليجية التي تضررت بشكل بالغ من غزو صدام حسين للكويت، فجرى التوافق على التخلص منه، وأسقطوا معه أيضًا الدولة التي وصفها عالم الجغرافيا السياسية المصري الكبير جمال حمدان بـ"رأس مثلث القوة العربي في الشطر الآسيوي والذي يضم إلى جانب بغداد دمشق والرياض".
القطيع والذئب
وعندما لاحت تهديدات حقيقية لا تتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، تحوّلت القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج إلى مراكز استخباراتية ولوجستية تساعد في تنفيذ عمليات تلحق الضرر بالأمن القومي لدول الشرق الأوسط -ولا تستثنى من ذلك دول الخليج- أو في الحد الأدنى تكتفي بغض الطرف عما يجري في المنطقة طالما لم يؤثر على مصالح واشنطن وتل أبيب.
أصبح قبول دول الخليج، ومعها دول عربية أخرى، بالحماية الأمريكية أقرب إلى تسليم القطيع للذئب ليتولى رعايته، فلا يسلم من القطيع إلا من يتمرد على الذئب.
قصف الدوحة هو سقوط مدوٍ لأسطورة "المظلة الأمريكية" التي جرى الترويج لها منذ عقيدة كارتر وحتى اليوم
ما جرى في أرامكو عام 2019 يثبت أن دول الخليج التي ضخت ولا تزال فوائض ميزانيتها في شرايين الاقتصاد الأمريكي، بغرض تأمين الحماية، إنما ألقت بأموالها في البحر؛ كأنها سلمت أمنها واستقرارها لعدوها وعدو العرب الاستراتيجي. فعندما استهدف الحوثيون منشآت عملاق النفط السعودي ورمز الثروة البترولية الأكبر في المنطقة تحت سمع وبصر القواعد العسكرية الأمريكية لم تحرك ساكنًا ولم تعترض صاروخًا أو تصدر إنذارًا مبكرًا إلى حلفائها في الرياض، ثم تكرر المشهد بعد 6 سنوات مع العدوان الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة، الحليف الرئيسي لواشنطن من خارج الناتو.
لم يكن قصف الدوحة مجرد محاولة اغتيال أو "رد انتقامي" من عينة العمليات القذرة التي نفذتها إسرائيل في تونس وبيروت قبل عقود. ما جرى أخطر بكثير؛ هو سقوط مدو لأسطورة "المظلة الأمريكية" التي رُوّج لها منذ عقيدة كارتر، في الثمانينيات وإلى الآن، وهي العقيدة الأمريكية التي أُعلن من خلالها استخدام القوة العسكرية لحماية مصالحها في منطقة الخليج العربي، خصوصًا موارد النفط.
لقد أكدت تلك الأحداث أن القاعدة العسكرية الاستراتيجية الأهم للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ليست العديد في قطر ولا الظفرة في الإمارات ولا حتى الأسطول الخامس في البحرين، بل دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها، فتلك الدولة الوظيفية التي جرى دقَّها عام 1948 في خصر الأمة العربية لتؤدي دور "الحارس" الاستعماري لمصالح الغرب والخندق الفاصل بين عرب إفريقيا وعرب آسيا، حظيت بحصانة مطلقة، وتسليح مفتوح، وضوء أخضر لارتكاب ما تشاء من جرائم على أرض العرب.
استعمار بالوكالة
في كتابه استراتيجية الاستعمار والتحرير، لخّص جمال حمدان هذه الحقيقة بوضوح "التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاءً تاريخيًا على طريق واحد هو المصلحة الاستعمارية المتبادلة، فيكون الوطن اليهودي قاعدة تابعة وحليفًا مضمونًا يخدم مصالح الاستعمار؛ وذلك ثمن لخلقه إياه وضمانه لبقائه، فالاستعمار هو الذي خلق إسرائيل بالسياسة والحرب، وهو الذي يمدها بكل وسائل الحياة من أسلحة وأموال، وهو الذي يضمن بقاءها ويحميها علنًا".
الأيام كشفت أن إسرائيل هي الامتداد الطبيعي للغرب الاستعماري والولايات المتحدة لا حليف لها
وصوّر حمدان الدولة الصهيونية، قبل أربعة عقود، بأنها "استعمار بالأصالة والوكالة معًا.. يؤدي دورًا وظيفيًا"، فهي تمثل "فاصلًا أرضيًا يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها، ونزيفًا مزمنًا في مواردها، وأداة جاهزة لضرب حركة التحرر".
هذا التوصيف لم يكن مجرد نظرية مفكر قومي متأثر بالمد الناصري، بل قراءة دقيقة للتوجهات التي برهنت عليها الوقائع التاريخية.
كشفت الأيام أن إسرائيل هي الامتداد الطبيعي للغرب الاستعماري، وأن كلَّ ما يقال عن شراكة أو تحالف بين الغرب ودول بالشرق الأوسط ما هو إلا محاولة لستر الحقيقة المُرَّة، فالولايات المتحدة لا حليف لها، ولا يقبل دستورها السياسي سوى بالتبعية، وعندما تتباين مصالح الأتباع مع أهداف حليفتها الحقيقية فإنها تنحاز دون تفكير إلى الأخيرة التي تمثل مشروعها واستثمارها طويل الأجل.
في نهاية 2023، وقبل انسحابه من معركة الرئاسة الأمريكية أدلى السيناتور والسياسي الأمريكي البارز روبرت كينيدي جونيور باعتراف مباشر عن الدور الاستراتيجي لإسرائيل، حين قال "إذا اختفت إسرائيل، فإن روسيا والصين ودول البريكس ستسيطر على 90% من النفط في العالم، وسيكون ذلك كارثيًا على أمننا.. إسرائيل حصن لنا في الشرق الأوسط، تشبه تقريبًا وجود حاملة طائرات، إنها تمنحنا آذانًا وأعينًا في المنطقة، وتؤمّن مصالحنا النفطية والاستراتيجية".
بهذا التصريح تسقط كل المزاعم عن "علاقة قيمية" بين واشنطن وما تسمى بالدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تتبنى القيم والمبادئ الغربية، فالقضية ببساطة أن إسرائيل تعمل كقاعدة متقدمة للولايات المتحدة في عمق المنطقة العربية، لا تكلفها دماءً، وتنفذ نيابة عنها أعمالًا قذرة، وتضمن استمرار حالة الاضطراب في المنطقة التي تغذي صناعة السلاح.
المال مقابل الأمان
لكن إذا كانت إسرائيل القاعدة الحقيقية، فما قيمة القواعد الأمريكية في الخليج؟ الإجابة باختصار؛ إنها أدوات مساندة ومساعدة لخدمة القاعدة الأهم، فالهجوم على أرامكو السعودية كشف أن الأنظمة الدفاعية المتقدمة لم تُفعل لحماية المنشآت الاستراتيجية للحلفاء، والضربة الإسرائيلية الأخيرة في قلب الدوحة أثبتت أن واشنطن متواطئة مع حليفتها في جريمة انتهاك سيادة شريكها الاستراتيجي الذي يستضيف أهم مركز للقيادة الجوية الأمريكية (CAOC) في المنطقة.
إذا كانت الأوضاع هكذا، فلماذا إذن تستمر تلك الدول في دفع المليارات للولايات المتحدة التي أقر رئيسها في مطلع فترة ولايته الأولى مبدأ المال مقابل الأمان، داعيًا دول الخليج الثرية لــ"الدفع كي تبقى" وإلا فلن "تبقى تلك الدول لأسبوع واحد" على حد تعبيره.
أمام دول المنطقة خيار واحد إما الوصول إلى اتفاقيات دفاع مشترك وإما سينهش الذئب الإسرائيلي باقي القطيع تحت حماية أمريكية
إن القبول ببقاء هذه القواعد بهذا الشكل يعني أن السيادة الوطنية لدول الخليج وغيرها من دول المنطقة ستظل مستباحة وعرضة للانتهاك من العدو الصهيوني، الذي عاث فسادًا في المنطقة وهدد حكوماتها بأن ما جرى في الدوحة وقبله في دمشق وطهران وبيروت وصنعاء ما هو إلا رسالة للشرق الأوسط بالكامل، بأن "يد إسرائيل الطولى ستطال كل شبر في الشرق الأوسط".
رسائل الغطرسة الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا تهدف إلى إشاعة حالة إرهاب بين دول المنطقة حتى تقبل بتنفيذ كامل مخططاتها، بدءًا من التهجير وصولًا إلى فرض السيادة الكاملة على الشرق الأوسط، حينها لن تنفع بيانات إبراء الذمة التي تدين الإجرام الصهيوني ولن ينفع التذرع بأن الولايات المتحدة "خانت" تعهداتها ولم تحم حلفاءها، فقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنها الذئب الذي يتظاهر بحماية القطيع.
لقد آن أوان المراجعة الحقيقية ومواجهة النفس، فأمن هذه المنطقة واستقرارها لم ولن يكونا رهنًا للمظلة الأمريكية، بل بالخروج من عباءة الولايات المتحدة وبتعاون إقليمي أساسه المصلحة المشتركة ومواجهة الخطر، فلا عصمة لأحد ولا عاصم من شر العدو الأمريكي الإسرائيلي سوى الاعتصام بحبل وحدة المصلحة.
أمام دول المنطقة خيار واحد؛ فإما أن تبادر اليوم، لا غدًا، بفتح مباحثات جادة بين دول الجامعة العربية، ومعها قوى إقليمية وازنة مثل إيران وتركيا، لتصفية الملفات المشتعلة في السودان وليبيا وسوريا واليمن، والوصول إلى صيغة تعاون اقتصادي تكاملي واتفاقيات دفاع مشترك، وإما سينهش الذئب الإسرائيلي باقي القطيع تحت حماية أمريكية.
إنها لحظة تاريخية فارقة تتطلب شجاعة استثنائية من كل الأطراف؛ إن لم تُغير العواصم العربية مقاربتها، وإن لم تسع لصياغة علاقات تواجه التهديدات المتلاحقة، ستجد نفسها في مواجهة مصير من سبقها إلى الجحيم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.