
هل تسير إسرائيل نحو نهاية مشابهة للأبارتايد؟
مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يبدو أن إجماعًا دوليًا آخذٌ في التشكل ضد سياسات دولة الاحتلال إزاء الفلسطينيين في غزة والضفة. تجلّت بوادر هذا الإجماع في تصاعد التوتر الدبلوماسي بين إسرائيل وحكومات عدد من الدول الغربية التي كانت، حتى وقت قريب للغاية، داعمة لها.
اعتراف عددٍ من كبريات الدول الأوروبية، على رأسها فرنسا وبريطانيا، إلى جانب كندا، بالدولة الفلسطينية، قد يكون له أثر محدود على أرض الواقع، لكنَّ الأثر الفعلي يمكن توقعه حال تنفيذ الدول الغربية تهديداتها بفرض العقوبات العسكرية والاقتصادية على إسرائيل.
فهل تملك تلك الدول أدوات ضغط كافية على دولة الاحتلال لدعم حل الدولتين، الذي يحظى بتأييد دولي دون اتخاذ خطوات عملية لتنفيذه؟
من حظر السلاح للحد من التجارة
خلال الفترة الأخيرة توالى اتخاذ قرارات حظر تصدير السلاح إلى إسرائيل من بعض الدول، لعل أبرزها ألمانيا ثاني أكبر مورد للسلاح إلى دولة الاحتلال، وإن كان بفارقٍ كبيرٍ للغاية بالطبع عن الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأكبر لإسرائيل.
بجانب ذلك كانت هناك توصيةٌ من المنسقة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، من خلال تعليق بعض أو كل بنود الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد ودولة الاحتلال، وهو الأمر الذي سبق طرحه في الأشهر السابقة، وإن لم يمر نتيجةً لمعارضة بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا والمجر.
هناك تفاؤلٌ بأن المواقف الدولية المناهضة لإسرائيل ستساهم في تصحيح مسارها على غرار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا
حال تحقق مثل هذا التعليق سيخضع القسم الأكبر (نحو الثلث) من التجارة الخارجية لإسرائيل للضرر من خلال ارتفاع التعريفات الجمركية.
لم تقتصر عزلة تل أبيب الخارجية على التغير في خطابات وسياسات الحكومات الغربية الحليفة لها، بل امتدت لتشمل فاعلي المجتمع المدني ممن انخرطوا في دعوات لمقاطعة الإسرائيليين خلال المسابقات الرياضية والثقافية الدولية، والمشاركة المباشرة في إطلاق قوافل لكسر الحصار على غزة، ناهيك بالطبع عن التظاهرات التي لا تكاد تتوقف في البلاد ذات المساحات الحرة للتظاهر والتعبير عن الرأي.
كيف انتهت تجربة الأبارتايد؟
يرى بعض أنصار القضية الفلسطينية أن مثل هذا التحول المتسارع ضد جرائم إسرائيل بالقتل الجماعي والتجويع والتهجير والاستيطان سوف يضعها عاجلًا أو آجلًا على خطى تجربة جنوب إفريقيا في إنهاء نظام الأبارتايد، أو نظام الفصل العنصري الذي اتبعته الأقلية البيضاء ضد الأغلبية الإفريقية منذ 1948 حتى 1994.
في سيناريو جنوب إفريقيا؛ الأبارتايد، تشكَّل إجماع دولي مبكر نسبيًا ضد الحالة الشاذة التي أسستها الأقلية البيضاء لنفسها، التي لا تقلُّ عن شذوذ الحالة الإسرائيلية، وقامت على الفصل العنصري القانوني بين البيض والأغلبية من السكان الأفارقة والآسيويين، بما حرم هذه الغالبية من النفاذ إلى الفرص والموارد المتوفرة.
تعايشُ نظام الفصل العنصري منذ نشأته مع عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وثقافية عدة فُرضت عليه بالأساس من الدول حديثة العهد بالاستقلال، مثل الهند بجانب الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، في المقابل تمتع هذا النظام بدعمِ دول أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة، لأهمية دور جنوب إفريقيا في التصدي للخطر الشيوعي.
لم يتغير الموقف الغربي عامةً تجاه تبني ذات العقوبات الاقتصادية والسياسية إلا في الثمانينيات مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها، وباتت جنوب إفريقيا خاضعة لعقوبات تجارية من دول كبرى كألمانيا وبريطانيا ثم الولايات المتحدة في 1986، وذلك رغم معارضة إدارة الرئيس رونالد ريجان وقتها لهذه الخطوة إلا أن الكونجرس تغلّب على الفيتو الرئاسي، ومرر بالفعل قانونًا يعزل جنوب إفريقيا حتى تتخذ الإصلاحات السياسية المرجوة.
اتسعت دائرة العقوبات لتشمل الاقتصادات الغربية الكبرى مع تصاعد وتيرة المقاومة المسلحة والسلمية على حد سواء من حزب المؤتمر القومي الإفريقي وحلفائه ومن النقابات العمالية السوداء، علاوةً على مجموعة كنسية ودينية ناهضت الفصل العنصري بالتزامن مع أزمة اقتصادية خانقة ضربت أسعار صادرات جنوب إفريقيا الأساسية من المواد الخام، على رأسها الفحم والمواد التعدينية، تحولت إلى أزمة مديونية خارجية جعلت الاقتصاد الجنوب إفريقي شديد العرضة لأي تقلبات ناتجة عن العقوبات.
عمقت العقوباتُ الانقسامَ داخل النخبة الحاكمة البيضاء، ورجحت الكفة لصالح جناح معتدل كان منفتحًا على التفاوض مع المؤتمر القومي الإفريقي والإفراج عن زعيمه التاريخي نيلسون مانديلا، مدعومًا في مواقفه هذه من الشركات الجنوب إفريقية الكبرى ذات المصالح في الأسواق العالمية بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية وبنوك وصناديق الائتمان.
لم يمض وقت طويل حتى جرى الإفراج عن نيلسون مانديلا في 1990 لتبدأ مفاوضات مطولة انتهت بالدعوة لأول انتخابات حرة لجميع مواطني جنوب إفريقيا بغض النظر عن العنصر في 1994 لتضع حدًا نهائيًا وديمقراطيًا للأبارتايد، وليبدأ فصل تاريخي جديد لجنوب إفريقيا التي نعرفها، التي يحكمها حزب المؤتمر القومي الإفريقي، الذي يقود حاليًا حراكَ الجنوب العالمي لصالح القضية الفلسطينية، خاصة في مسألة اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
ماذا عن إسرائيل؟
بعد هذا العرض الوجيز لمسار جنوب إفريقيا السياسي من الأبارتايد إلى الديمقراطية، تثور ثلاثة أسئلة كبرى فيما يعلق بحديث العقوبات على إسرائيل؛ الأول هو ما إذا كانت إسرائيل حقًا على خطى جنوب إفريقيا، أو بالأحرى إلى أي مدى يمكن أن يصل الإجماع الدولي الناشئ ضد إسرائيل؟ وهل نشهد فرض عقوبات اقتصادية عليها ليس من الاتحاد الأوروبي فحسب، لكنْ من كتل اقتصادية أخرى مهمة مثل الصين والهند، وربما تغير موقف الولايات المتحدة في ضوء صعود الدعم للقضية الفلسطينية في أوساط الديمقراطيين؟
ثانيًا، بفرض أن عزلة إسرائيل الخارجية انتهت إلى فرض عقوبات اقتصادية عليها، لا سيما في مجالات التجارة والاستثمار والنفاذ إلى الائتمان، بما يُذكر بما جرى فرضه على جنوب إفريقيا، فأي عقوبات يمكن لها أن تردع إسرائيل عن مواصلة الاستيطان والتهجير علاوة على تحقيق مطالب الفلسطينيين بالمساواة القانونية، سواء في دولة مستقلة لهم أو في دولة ثنائية القومية؟
ثالثًا، بما أن العقوبات وحدها لم تكن كافية في سيناريو جنوب إفريقيا باتفاق غالب الدارسين لها، ما هي العوامل الأخرى المطلوب تضافرها في السنوات المقبلة كي تفاقم الضغوط التي قد تضعها العقوبات بما يغير من وضع الفلسطينيين في إسرائيل؟
في مقالات تالية سأحاول التصدي لكل سؤال من هذه الأسئلة ببعض الاستفاضة بتسليط الضوء على بعض التفاصيل في حالة جنوب إفريقيا، وتحري ما قد يضاهيها في الحالة الإسرائيلية المعاصرة.
لا توجد إجاباتٌ محددةٌ على أيٍّ من هذه الأسئلة، خصوصًا وأنها أسئلة افتراضية تقوم على فرضية مفادها أن العالم - وفي القلب منه الدول الغربية شريكة وكفيلة إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا - ستنحو هذا النحو، ولكن على الأقل فإن التدريب الذهني الناتج عن طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها في ضوء ما حدث في تجربة جنوب إفريقيا يظل مفيدًا، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.