
هل باع ترامب الهواء للعرب؟
لم يأتِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، الأسبوع الماضي، ليُنهي "الكابوس الممتد منذ ثلاثة آلاف عام"، بل جاء ليُعلن انتصار إسرائيل "حليفة" بلاده الأولى، التي "تتشارك معها القيم والمبادئ ذاتها"، وليترجم قضاءها على من وصفهم بـ"الإرهابيين في ساحة المعركة" إلى "جائزة كبرى".
فمن على منصة الكنيست، قدّم ترامب في خطابه عرضًا يراه سخيًا وكريمًا لدول وشعوب الشرق الأوسط، فإسرائيل التي "حققت النصر بقوة السلاح الأمريكي" وهزمت "قوى الفوضى التي ابتُليت بها المنطقة"، يجب ألَّا تنعم فقط بالسلام والاستقرار، لكن بالسيادة والهيمنة والنفوذ أيضًا، حتى يبزغ "الفجر التاريخي للشرق الأوسط الجديد".
هذا هو السلام في العقيدة الأمريكية القديمة المتجددة؛ سلام إخضاع الأعداء بالقوة القاهرة التي تسحقهم وتفرض عليهم الاستسلام المُذلَّ والانصياع التام لإرادة من يعتقد أنه حسم المعركة.
كما في العراق كذلك في أفغانستان
عبَّر عن هذه العقيدة التي تتلبس سيد البيت الأبيض، وزير حربه بيت هيجسيث، عندما أجاب عن سؤال قبل شهور بشأن إمكانية تحقيق السلام في الشرق الأوسط؛ بقوله "سيتم عبر القوة وتحت قيادة ترامب"، لافتًا إلى أن القوة العسكرية والقيادة الحازمة ضروريتان لفرض الأمن والاستقرار في المنطقة، معتبرًا أن "السلام لن يتحقق إلا من خلال فرض القوة على الأطراف المتنازعة".
بعدها بنحو 3 أشهر، أعاد مبعوث الرئيس الأمريكي توم براك شرح عقيدة السلام في الشرق الأوسط الذي وصفه بأنه "مجرد وهم"، إذ "لم يكن هناك سلام من قبل، وربما لن يكون هناك سلام أبدًا".
الجميع، وفق العقيدة الأمريكية التي عبر عنها براك، يقاتلون من أجل الشرعية لا من أجل الحدود أو الأرض، التي هي في نظره مجرد ورقة تفاوض. "وفي النهاية يجب إخضاع طرف"، والطرف الذي يجب إخضاعه هنا هو نحن العرب، لأن الولايات المتحدة لن تسمح أبدًا بإخضاع حليفها الاستراتيجي الأول.
إذن، فإن "السلام الأمريكي" الذي أخرجه ترامب من جعبته لا يتضمن حقوق الشعب الفلسطيني، ولا مسارًا لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 التي قبل بها العرب والفلسطينيون بمن فيهم حماس، رغم أن تلك الحدود لا تمثل سوى 22% من مساحة فلسطين التاريخية التي اغتصبتها العصابات الصهيونية قبل نحو قرن.
ولم يشمل السلام الأمريكي حتى مشروعًا واضحًا لإنهاء حرب استمرت أكثر من عامين وسقط فيها أكثر من 200 ألف فلسطيني بين شهيد ومصاب. بل هو خطة محكمة وغطاء سياسي لفرض السيطرة وبسط النفوذ، وإضفاء الشرعية على الاحتلال والاستيطان، وتعزيز تغوّل إسرائيل على جيرانها الأضعف، وتهديد الدول التي يمكن أن تمثل خطرًا على أمن واستقرار الدولة العبرية.
منذ أن تحولت الولايات المتحدة إلى قوة عظمى، لم تتوقف محاولاتها لفرض "سلام القوة" على العديد من دول العالم؛ تتدخل عسكريًا في مناطق تقاوم نفوذها وترفض الخضوع لهيمنتها، فتقتل الملايين وتهدم مدنًا وقرى وتشيع الفوضى، ثم تنسحب دون أن تحقق أهدافها، كما حدث في فيتنام وأفغانستان والعراق وليبيا، ليخرج من بين ركام الفوضى جماعات وتنظيمات أكثر تشددًا وتطرفًا في كراهيتها لأمريكا والنموذج الغربي كله من الفيت كونج، إلى القاعدة وطالبان وداعش.. إلخ.
"كالعراق كما في أفغانستان، تبيّن أن الولايات المتحدة لا تعرف كيف تخوض حربًا ناهيك بربحها، فقد قُتل آلاف الأمريكيين ومئات الآلاف من العراقيين والأفغان، وانتهت حرب العراق بتمكين حكومة وميليشيات مدعومة من إيران، فيما انتهت حرب أفغانستان بعودة طالبان إلى الحكم بعد انسحاب أمريكي مذل"، يقول الكاتب الأمريكي روبرت مالي الذي عمل منسقًا للبيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط في إدارة أوباما.
الناطقون باسم الله
تحاول إدارة ترامب أن تفرض على الفلسطينيين والعرب ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه في الميدان خلال العامين الماضيين، فرغم تدمير غزة وقتل عشرات الآلاف من أبنائها، فإنها لم تستسلم ولم ترفع الراية البيضاء، بل تحولت هي وشعبها ومقاتلوها إلى أيقونة للصمود بين شعوب العالم.
رؤية إدارة ترامب للسلام في الشرق الأوسط لا تختلف عن رؤية اليمين الصهيوني الحاكم في إسرائيل، الذي لا يرى لـ"الأغيار" حقوقًا، ويعتبر أن "إسرائيل الكبرى" لن تقف عند حدود فلسطين التاريخية، بل تمتد لتشمل أجزاء من كل دول الطوق، إلى جانب العراق والمملكة العربية السعودية.
ينافق معظم قادة دول العالم ترامب باعتباره الرئيس القوي المجنون النرجسي لتتهلل أساريره
"سنحقق تغييرًا بأبعاد توراتية خلال هذه الإدارة في الشرق الأوسط"، هذا التصريح لم يأتِ على لسان وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش ولا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بل قاله السفير الأمريكي لدى إسرائيل مايك هاكابي، الذي يرى أن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين عقائدي في الأساس، وهو ما يفسر لماذا يتحدث ترامب عن "صراع ممتد منذ 3000 عام".
القس الأمريكي المعمداني الذي عينه ترامب في مطلع ولايته الثانية سفيرًا للولايات المتحدة في إسرائيل، يقر هو الآخر بأن الحرب ضد حماس "تتجاوز كونها نزاعًا على الأرض في الشرق الأوسط"، ويرى أن المعركة معهم "أزلية.. ليست أفقية، وليست بين يمين ويسار، أو بين ليبرالي ومحافظ، إنها معركة عمودية، معركة السماء في مواجهة الجحيم".
السفير المؤمن الذي يرى أن دعم إسرائيل "تكليف إلهي"، دعا المسيحيين في العالم إلى إدراك أن المواجهة القائمة بين إسرائيل والفلسطينيين هي "مواجهة الخير ضد الشر".
استنادًا إلى تلك العقيدة المتجذرة في كل أركان الإدارة الأمريكية، لم يُقدِّم ترامب في خطابيه في القدس المحتلة وشرم الشيخ للفلسطينيين أو للعرب شيئًا، باع الرجل للجميع الهواء، لم يتفوه بكلمة واحدة عن حق تقرير المصير ولا عن الدولة الفلسطينية، ولا حتى عن انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي التي احتلتها في قطاع غزة، ولا أبدى تعاطفًا مع الضحايا المدنيين الذين قضوا، بل سخر منهم وأثنى على قاتلهم مجرم الحرب، شريكه "بيبي".
اقتصر حديث ترامب على الانتصار الذي تحقق بفضله وبفضل السلاح الأمريكي، وعلى "السلام" الذي سيُخضِع به الفلسطينيين، وعلى الاتفاقيات الإبراهيمية التي سيفرضها على دول المنطقة، وعلى صفقات إعادة الإعمار التي سيجبر "الدول الثرية جدًا" على تحمل تكلفتها، وعلى نزع سلاح المقاومة في غزة، وطي صفحة الكفاح والنضال والرفض للغطرسة الأمريكية الإسرائيلية.
ينافق معظم قادة دول العالم ترامب باعتباره الرئيس القوي المجنون النرجسي الذي يجب تعظيمه وتدليله حتى تتهلل أساريره وتظهر عليه علامات الرضا، فالرجل يحب الفخر وكلمات الإطراء والنفاق، فهو "رجل السلام" في رواية أحدهم، و"الزعيم الجريء الأكثر حسمًا" في رواية آخر، و"الرائع" في رواية ثالث. لكن هؤلاء جميعًا يدركون أنه ليس سوى بلطجي دولي يلوح باستخدام القوة الغاشمة وفتح أبواب الجحيم لتحقيق مراده.
ورغم ذلك يسحب تهديداته على طريقة "تنزل المرة دي" إن استشعر الخطر والجدية. لذا، فإن أصحاب الحقوق والمصالح المشتركة حول العالم، مطالبون بأن يجتمعوا على كلمة سواء لمواجهة بلطجة الرجل الذي لا يرى في الضعفاء سوى رعايا وعبيد لإحسانه.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.