تصوير أحمد نبيل لـ المنصة
ارتفاع أسعار الأدوية، 11 يونيو 2024

خلق سوقًا سوداء.. الدواء ضحية الدولار

منشور الأربعاء 21 أغسطس 2024

لم يجد عبد الباقي عبد الوهاب طريقةً للحصول على الدواء الذي تحتاجه طفلته نور التي لم تبلغ عامها الثالث بعد سوى تجنيد معارفه وأقاربه للبحث في الصيدليات "واحد معرفة قالي هجبلك الدوا، وبعد ما دفعت فيه 30 جنيه، اكتشفت إنه بـ15 بس، لكن قلت الحمد لله إني لقيته، أنا حتى البروفين شراب ماكنتش لاقيه"، يقول عبد الباقي لـ المنصة.

وتعاني مصر على مدار الأشهر الماضية من أزمةٍ في نقص الدواء، لا تزال تداعياتها مستمرةً، يختبرها أغلبية المصريين، بداية من اختفاء فوار الأملاح، نهايةً بأدوية الأمراض المزمنة التي يعتمد عليها المرضى.

 تُرجع النائبة إيرين سعيد سبب الأزمة الرئيسي إلى نقص العملة وارتفاع أسعار تكلفة الدواء، تقول لـ المنصة "الأزمة ساهمت في تراجع الإنتاج والمواد الخام مع وقف الاستيراد وده اترتب عليه نقص حاد في الدواء المستورد والمحلي".

الأمر ذاته أكده رئيس هيئة الدواء الدكتور علي الغمراوي خلال مؤتمر صحفي في 1 أغسطس/آب الحالي، حيث أكد أن الهيئة رصدت نواقص الأدوية خلال الأزمة الممتدة منذ شهور في مجموعتي المضادات الحيوية وأدوية الضغط من بين 16 مجموعة دوائية في مصر، وقال إن 81 مستحضرًا من بين 15 ألف مستحضر تعتبر سبب الأزمة.

رحلة البحث عن الدواء

تعاني أم محمد، الخمسينية التي تعيش في محافظة الجيزة، من تداعيات الأزمة، إذ تستيقظ كل صباح على أمل أن يكون هذا يوم حظها، ليس للفوز باليانصيب، بل للعثور على دواء الضغط "كونكور 5"، الذي رصدنا اختفاءه من الصيدليات منذ ثلاثة أشهر. 

تقول لـ المنصة "كل يوم أزور من 15 لـ 20 صيدلية على الأقل، وصلت الفيوم وأنا بدور"، بعد أن حذرها الطبيب من خطورة انقطاعها عن تناوله، خاصة مع تقدمها في العمر.

تمكنت أم محمد من الحصول على علبتي كونكور 2.5 من الإسكندرية "حفيدي لقاهم هناك جابهم، بس اضطر يشتري حاجات تانية من الصيدلية عشان يرضوا يدوله العلبتين"، تشير إلى اضطرارها تناول جرعة مضاعفة من الدواء ذي التركيز الأقل.

تعكس حالتا أم محمد وعبد الباقي واقعًا وصَّفه اللواء بهاء الدين زيدان، رئيس هيئة الشراء الموحد، بقوله "لا يوجد في مصر مريض لم يجد دواءه"، لكن ذلك يتطلب الكثير من البحث والوقت والمال. 

المخازن السبب

فيما يؤكد دكتور يس رجائي، مساعد رئيس هيئة الدواء، لـ المنصة على وجود نقص ويرجعه للأزمة الاقتصادية، ويضيف سببًا آخر يبدو تفسيرًا مناسبًا لما حدث مع أم محمد وعبد الباقي "فيه مخازن أدوية بتخزن الدواء عشان تبيعه بأسعار مضاعفة". وأكد أن الهيئة تراقب تلك المخازن من خلال الضبطيات المستمرة. 

وكانت هيئة الدواء أعلنت في 29 مايو/أيار الماضي غلق نحو 400 مخزن دواء في القاهرة والشرقية لمخالفة القرار الوزاري المنظم لهامش الربح الصيدلي والتسعير الجبري.

ويرى محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء لـ المنصة أن ملاحقة الهيئة للصيادلة ومخازن الأدوية تأتي تمهيدًا لفرض زيادة جديدة في الأسعار "وغالبًا هتكون زيادة كبيرة".

خطة تحريك أسعار الأدوية تضمنت 3 آلاف مستحضر دوائي

وبينما يقلل رجائي من أهمية ما تفعله المخازن في حجم الأزمة، فإن النائبة إيرين سعيد، عضوة لجنة الصحة بالنواب، تخالفه الرأي "المخازن استغلت تسريب معلومات موافقة هيئة الدواء على زيادة أسعار بعض الأنواع وخزنت كميات كبيرة من الأدوية المتوقع زيادة أسعارها، عشان تبيعها بعد كده بأسعار مضاعفة"، معتبرة ذلك سببًا رئيسيًا في أزمة الدواء التي يعيشها المصريون.

وتؤكد إيرين أن غياب المخازن الاستراتيجية للأدوية الحيوية فاقم المشكلة، مضيفة "توجد تسعيرة جبرية، وقانون يجرم بيع الأدوية بأسعار مخالفة، بس الحاجة بتخلي الناس تشتري بأي ثمن"، وهو ما فعلته أمنية عبد الوهاب، التي احتاجت أدوية لزيادة المناعة مدة 3 أشهر متتالية دون انقطاع قبل إجراء منظار طبي. 

تقول الفتاة العشرينية لـ المنصة "خليت كل اللي أعرفهم في أي حتة في مصر يدوروا معايا على الدوا، ولما لقيته دفعت فيه 5 أضعاف سعره". 

يتفق محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، مع إيرين، "المخازن بتخزن الدوا وبعدين تطلعه لما يتم الإعلان عن الزيادة في السعر، فجأة بتلاقي الدوا في السوق".

تأكيدًا لهذا، رصدت المنصة خلال جولة على عدد من الصيدليات وجود تشغيلات قديمة من الأدوية التي زاد سعرها الفترة الماضية.

وكان رئيس هيئة الدواء قد أعلن في مؤتمر صحفي في الأول من أغسطس/آب الجاري أن خطة تحريك أسعار الأدوية تضمنت 3 آلاف مستحضر دوائي من أصل 15 ألف مستحضر.

الدولار السبب

يعلل محمد شعبان(*) صيدلي لجوءه لطرق وصفها بـ"غير التقليدية" للحصول على الأدوية بالأزمة الحادة التي تمر بها الدولة، يقول لـ المنصة "نضطر نشتري النواقص من مخازن غير مرخصة بأسعار أعلى من المعتاد، عشان نضمن توفرها عندنا، خصوصًا إننا في منطقة حيوية عليها إقبال كبير".

اعتمد محمد نفسه على السوق السوداء في توفير الأدوية التي يطلبها أصدقاؤه وأقاربه منه "الأدوية شبه معدومة في السوق الرسمي، والناس محتاجة الدوا، وطبعًا فيه فرق سعر كبير". 

إنشاء مخازن استراتيجية لحماية المواطنين من استغلال السوق السوداء

"المهم ألاقيه"، تقول عبير نجيب، مريضة السكر التي تدهورت حالتها الصحية جراء اختفاء الإنسولين المستورد من الأسواق، تضيف لـ المنصة "بقف طابور طويل عشان أجيب الإنسولين المحلي من صيدلية الإسعاف، وحش ومش بنفس جودة المستورد بس مضطرين عشان مافيش غيره"، مؤكدة أنها في حال وجدت المستورد ستدفع مقابله أي مبلغ. 

على الرغم من الأزمة الطاحنة التي يمر بها مرضى السكر على مدار الأشهر الماضية، أعلنت وزارة الصحة في مارس/آذار الماضي عن بدء تصدير الإنسولين إلى كوبا. وأوضحت أن الإنسولين المصري يستحوذ على حصة سوقية تتراوح من 12 لـ 18 مليون سنويًا وسيتم تصديره إلى 11 دولة إفريقية.

 وكشف وزير الصحة في مؤتمر صحفي عقد في 6 أغسطس/آب الجاري عن بدء تصدير الإنسولين المحلي لأمريكا الجنوبية، مبررًا ذلك بأن "الشحنة كانت صغيرة"، وأن مصر لديها "وفرة منه"، وهو ما تنفيه تجربة عبير وغيرها من المرضى، ممن يقفون في طوابير طويلة أمام صيدلية الإسعاف يوميًا. 

من جانبها، لفتت النائبة إيرين سعيد إلى تقدمها بطلب إحاطة حول نقص الأدوية، لكنه لم يناقش بسبب تغيير الحكومة. وأضافت أنها، كعضوة في اللجنة الخاصة لدراسة برنامج الحكومة، ناقشت الأمر مع عدد من الوزراء المعنيين.

طالبت النائبة بتوطين صناعة الدواء وتوفير المواد الخام محليًا لتقليل التكلفة، وإنشاء مخازن استراتيجية لحماية المواطنين من استغلال السوق السوداء. كما اقترحت إصدار قرار بالبيع بالاسم العلمي وليس التجاري للأدوية "القرار هيواجه معارضة لتأثيره على سوق شركات الأدوية الخاصة، لكن هيحل المشكلة".

 لا يزال عبد الباقي وأمنية وأم محمد يعانون أزمة عدم توفر أدويتهم بالصيدليات، ويلجأون إلى السوق السوداء، منتظرين مرور الثلاثة أشهر التي وعدت الحكومة أنها كفيلة بالقضاء على الأزمة، وتوفير الأدوية بكل الصيدليات، آملين في صدق الوعد هذه المرة. 


(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر