الدكتورة امتياز حسونة
من إحدى الوقفات احتجاجية للأطباء في فبراير 2016.

طبيب لكل 1100 مواطن: كيف هرب 62% من أطباء الحكومة؟

منشور الأحد 9 يونيو 2019

العجز المتزايد في عدد الأطباء البشريين العاملين بالقطاع الصحي الحكومي تحول من مشكلة إلى ظاهرة تُنذر بكارثة.

وصل الأمر لاعتراف قيادات الصحة والتعليم الطبي بالأزمة، ودارت مناقشات في البرلمان حول إيجاد حلول لكنها لم تتسم بالجدية الكافية، فبعض تلك الاقتراحات كان مضحكًا مثل عدم السماح للأطباء بالإجازة مثلًا، والبعض اقترح تخريج دفعات استثنائية من كليات الطب لمواجهة العجز، وهو ما يرفضه مجلس نقابة الأطباء.

لكي نتكلم بشكل علمي، علينا أن ننظر لدراسة شارك في إعدادها المجلس الأعلى للجامعات والمكتب الفني لوزير الصحة بعنوان "احتياجات سوق العمل من المهن الطبية خلال الخمس سنوات القادمة بدءًا من عام 2020".

تقول الدراسة إن عدد الأطباء البشريين المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة، باستثناء أصحاب المعاش، يبلغ 212 ألف و835 طبيبًا، يعمل منهم حاليًا في جميع قطاعات الصحة 82 ألف طبيب فقط، بنسبة 38% من عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة وهم إما يعملون في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية الحكومية أو القطاع الخاص.

بالمقارنة بين عدد الأطباء العاملين حاليًا في قطاعات الصحة وعدد المسجلين أو الحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء، نكتشف أن 62% منهم يعملون خارج مصر وهم إما استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازات بدون راتب قبل سفرهم.

 

صورة من الدراسة التي أعدها المجلس الأعلى للجامعات ووزارة الصحة

تستنتج الدراسة المليئة بالبيانات الهامة في نهايتها، والمستندة إلى قاعدة بيانات نقابة الأطباء والجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة، أن مصر لديها طبيب لكل 1162 مواطن، بينما المعدل العالمي طبقًا لمنظمة الصحة العالمية هو طبيب لكل 434 مواطن؛ تُغني الأرقام الشرح عن حجم الكارثة.

كانت أولى توصيات هذه الدراسة ضرورة تبني الدولة خطة لاسترجاع الأطباء للعمل بالقطاع الطبي الحكومي المصري. تقوم الخطة على رفع مستوى التدريب المقدم للأطباء، وتأمين بيئة عمل مناسبة لهم، مع رفع مستواهم المادي بهدف عودة 60 ألف طبيب للعمل بالقطاع الصحي الحكومي خلال السنوات الخمس القادمة.

هذه التوصيات جميلة عند قراءتها غير أن الأمور على أرض الواقع كانت مختلفة، ولكي نفهم ذلك سأحكي عن بعض المآسي المُستجدة التي يمر بها الأطباء وأكون شاهدًا عليها من منطلق عملي كطبيب، وعضو مجلس النقابة العامة للأطباء.

كيف هرب الأطباء؟

المُستقر أن جميع الخريجين الجدد من الأطباء يصدر بتعيينهم قرارًا من وزارة الصحة في المستشفيات الحكومية، ويعار أصحاب الأعلى مجموعًا إلى كليات الطب الحكومية لمدة ثلاث سنوات تتحمل فيها الجامعة رواتبهم وقد يقرروا في تلك الفترة المضيّ في سلك التدريس أو العودة إلى جهة عملهم الأصلية في المستشفيات الحكومية التابعة لوزارة الصحة.

وبحسب قانون المنح والبعثات رقم 112 لسنة 1959 من لم ينته من مناقشة رسالة الماجستير خلال تلك الفترة يُمنح إجازة تفرغ للدراسة لمدة عام قابلة للتجديد، وتُحدد إذا كانت براتب أو بدون حسب تقرير كفاية العمل لآخر عامين، هذا كان يُطبق بالفعل حتى شهر مضى.

 

من الدراسة الرسمية لوزارة الصحة

أوقع الحظ ما يزيد عن 200 طبيب، تأخر إخلاء طرفهم من كليات الطب، في تفسير غير مُسبق لمسؤولي إدارة المنح والبعثات في وزارة الصحة، إذ حكموا على الأطباء بعدم استحقاقهم إجازات التفرغ من أجل الدراسة لأنهم لم يُرشحوا للدراسات العليا من وزارة الصحة، وبسؤالي لأحد المسؤولين "بافتراض تخلي هؤلاء الأطباء عن رغبتهم في الدراسة والعمل بمستشفيات كليات الطب أو وزارة الصحة ثم بعد ذلك طلبوا ترشيحهم من الوزارة للدراسات العليا هل يستحقوا في تلك الحالة إجازات التفرغ؟". فرد بالإيجاب.

بأي منطق؟

بدت لي تلك الواقعة منافية للمنطق؛ الأطباء عائدون لتستفيد جهة عملهم بدراستهم، هذا الأساس في قانون البعثات، وليكونوا بعد شهور أخصائيين، لكن تُرفض إجازاتهم، وعند عودتهم إلى صفر البداية في العمل الطبي وتكليف الوزارة مصاريف إضافية فضلًا عن تأخير الاستفادة بهم كأخصائيين، هنا يُمنحوا حقهم القانوني في إجازات التفرغ.

بعد أيام من التواصل مع قيادات الوزارة وشكوى الأطباء لرئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية سمح لهم بحق إجازة 6 شهور، فقط، لإتمام رسالة الماجستير، وما زال البعض منهم يكافح للحصول على موافقة جهة عمله الأصلية، سواء كانت مديريات ومستشفيات وزارة الصحة، لتنفيذ الإجازة.

"جهة ما" تسقط أسماء الأطباء سهوًا

الشهر الماضي، مايو/ آيار 2019 ظهرت نتيجة الأطباء الجدد المقبول إعارتهم إلى مستشفيات سوهاج التعليمية، من وزارة الصحة، والذي سبق منذ شهرين الموافقة المبدئية لهم حسب ترتيبهم ومجموعهم وتطوعهم في أقسام تخصصاتهم أكثر من شهرين انتظارًا للنتيجة، ظهرت النتيجة النهائية بأسماء جميع هؤلاء الأطباء لتسليمهم العمل رسميًا بإستثناء ثلاثة لم يجدوا أسمائهم، طبيبان وطبيبة ترتيبها الثاني على دفعتها.

أغلب الظن أن موظف في جهة ما، لن نذكرها، لم يُعجبه أسمائهم عندما مرت عليه إجراءات إعارتهم واستلامهم العمل، أو توجس في استحقاقهم درجاتهم وتقديراتهم الدراسية المرتفعة فأسقطهم من الكشوف، يحدث هذا أحيانًا والمحاكم تشهد على ذلك. وبعد أسبوع من التواصل الودي مع تلك الجهة التي لا تمت للطب ولا التعليم بصلة مهنية، ولن نذكرها، تكرم موظف أيضًا من تصحيح السهو بإعادة أسماء هؤلاء الأطباء وضمهم إلى زملائهم في كشوف المقبولين.

جدول الامتحانات قبل الامتحان

واقعة أخرى أطلعت عليها منذ أيام من خلال مجموعات الأطباء على فيسبوك، وهي شكوى نصها كالتالي؛ "اسمي جرمين ميلاد، طبيبة أخصائية نساء وتوليد، كنت أعمل طبيب مقيم بمستشفى دشنا المركزي بمحافظة قنا وتغيبت عن العمل لآداء امتحانات الجزء الثاني من ماجستير النساء بطب عين شمس دور أبريل 2018 ولم أقدم جدول الإمتحانات لجهة العمل، ولأسباب بعيدة عن تطبيق قانون العمل أفقدوني عملي رغم محاولات دامت لعام من تقديم الالتماسات والتظلمات إلى جميع المسؤولين تضمنت تقديمي جدول الامتحانات وإفادة من الجامعة وشهادة نجاحي وحصولي على الماجستير. الكل قرر الصمت والانصياع وراء فكرة العقاب".

وبالإضافة إلى ما حدث لها، فقد نسيت الطبيبة أنها حتى لو كانت تقدمت بجدول الامتحانات في موعده فلن تحتسب لها سوى أيام الامتحانات الفعلية مأمورية، فحسب تفسير موظفي الحكومة في وزارة الصحة ومديرياتها، يجب عليها أن تعمل في الأيام المتخللة بين الامتحانات، فتمتحن السبت بجامعة عين شمس في القاهرة وتعمل الأحد والإثنين بمستشفى دشنا المركزي بمحافظة قنا، ثم تسافر القاهرة لتمتحن يوم الثلاثاء.

تذكرت مع توصية الدراسة الجميلة برفع مستوى التدريب للأطباء، قرار وزيرة الصحة رقم 85 لسنة 2019 بتحمل الوزارة مصاريف الدراسات العليا للأطباء طبقًا لقانون 137 لسنة 2014، والذي لا يعدو إلا كلامًا جميلًا ينشر في وسائل الإعلام ويبث الفرحة للقرّاء، لأن الواقع أن الأطباء في بداية حياتهم المهنية يتكبدون آلاف الجنيهات سنويًا على دراساتهم.

 

من الدراسة الرسمية لوزارة الصحة

هل هناك خطة لتفريغ القطاع الصحي الحكومي من الأطباء؟

اختلف مع البعض الذين تراودهم الهواجس حول خطة ممنهجة لتجريف القطاع الصحي الحكومي من الأطباء وما يتبعه من انهيار للمنظومة الصحية، فالخطة الممنهجة حتى في التخريب تحتاج إلى تنسيق بين الأفراد والقطاعات المُنفذة لها. أما ما يحدث هو نتاج عشوائية والعمل في جزر منعزلة لقطاعات تتداخل اختصاصاتها في منظومة الصحة، ابتعاد سنوات ضوئية بين السياسات الصحية وفكر موظفي ومسؤولي تلك القطاعات.

الحل لتطبيق السياسات المسطورة وتحويلها إلى واقع أن يُحدد لتنفيذها مجموعات عمل يرأسها مهنيين في تلك القطاعات ويساعدهم إداريين وماليين فقط، لتنفيذ التعليمات الفنية فيما يخصهم، وأن تتم المتابعة بصفة دورية بمحددات زمنية تنفيذ الأهداف المرحلية ومحاسبة المعوقين لها.


اقرأ أيضًا: طريق ثالث: هكذا يخرج الأطباء من النفق ويتوقف المواطن عن ضربهم

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.