لم يكن إعلان نقابة الأطباء عن تصاعد أزمة "هجرة الأطباء الجماعية" وعزوفهم عن العمل في المستشفيات الحكومية ولجوئهم إلى العمل في القطاع الخاص أو خارج مصر، سوى توصيف لكارثة حلت على المنظومة الصحية في مصر خلال السنوات الأخيرة، إثر عجز الحكومات المتعاقبة عن تقديم استراتيجية واضحة المعالم وبرنامج زمني محدد، يشملان حلولًا تُقنع الأطباء الشبان بالاستمرار في عملهم بما يضمن تقديم الخدمة الطبية الواجبة للمواطن الذي لم تمكنه ظروفه الاقتصادية من الحصول على خدمات القطاع الطبي الخاص.
نهاية الأسبوع الماضي، كشف تقرير أصدرته نقابة الأطباء حول "المشكلات التي تواجه مهنة الطب في مصر"، أن نحو 18 ألف طبيب استقالوا من العمل الحكومي وحصلوا على شهادة "طبيب حر" من النقابة خلال الفترة من 2016 وحتى مارس/ آذار 2022.
وأوضح تقرير النقابة أن عدد الأطباء المستقيلين في 2016 بلغ 1044 طبيبًا، وارتفع العدد في 2017 ليصل إلى 2549 طبيبًا، واستمر العدد في الزيادة عام 2018 ليصل 2612 طبيبًا، وفي عام 2019 استقال 3507 أطباء، وفى عام 2020 استقال 2968 طبيبًا، وبلغ العدد مرحلة الخطر في 2021 حيث استقال 4127 طبيبًا من عملهم الحكومي، وأسفرت إحصائيات الشهور الأولى من عام 2022 حتى 20 مارس الماضي عن استقالة 934 طبيبًا.
ووفقًا لتقرير النقابة، فإن معدل الأطباء في مصر مقارنة بعدد السكان يبلغ 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيبًا لكل 10 آلاف.
تقرير نقابة الأطباء المشار إليه لم يكن الأول من نوعه الذي يحذر من تفاقم أزمة استقالة وهجرة الأطباء، فخلال عام 2019 أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالتعاون مع وزارة الصحة، دراسة عن مدى احتياجات مصر للأطباء البشريين ومقارنة أعداد الأطباء العاملين في مصر بالمعدلات العالمية.
وبينت تلك الدراسة أن أعداد الأطباء البشريين المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب حتى آخر عام 2018 بدون الأطباء على المعاش تقدر بنحو 212 ألفًا و835 طبيبًا، بينما بلغ وقتها عدد من يعمل فعليًا في مصر بالجهات المختلفة التي تشمل وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية الحكومية والخاصة وجامعة الأزهر والمستشفيات الشرطية نحو 82 ألف طبيب فقط، بنسبة 38% من القوة الأساسية المرخص لها مزاولة مهنة الطب.
كانت أولى توصيات هذه الدراسة ضرورة تبني الدولة خطة لاسترجاع الأطباء للعمل بالقطاع الطبي الحكومي المصري، تقوم على رفع مستوى التدريب المقدم للأطباء، وتأمين بيئة عمل مناسبة لهم، ومنحهم رواتب مُرضية وعادلة بما يضمن عودة 60 ألف طبيب للعمل بالقطاع الصحي الحكومي خلال السنوات الخمس القادمة، وإقناع الخريجين الجدد بالاستمرار في عملهم داخل البلاد.
يتخرج من كليات الطب نحو تسعة آلاف طبيب سنويًا، يسعى عدد كبير منهم للهجرة إلى خارج البلاد لتحسين وضعهم المالي المتدني أو للحصول على فرص تدريب وتعليم أفضل، وبيئة عمل مناسبة تحترم وتقدر ما يقدمونه للمجتمع من خدمة.
في كلمته خلال احتفالية المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية نهاية فبراير/شباط الماضي علق الرئيس عبد الفتاح السيسي على أزمة هجرة الأطباء في الفترة الأخيرة، موضحًا أن الرواتب التي يحصلون عليها في مصر لا تناسبهم، قائلًا بانفعال "الناس بتسيبنا علشان فرصة عمل في حتة تانية علشان يعيش.. الأطباء اللي بيمشوا.. هو أنا بديله مرتب كويس ولا مش عاوز أديله مرتب كويس؟ أنا مش قادر أديله مرتب كويس"، مشيرًا إلى أن الدولة تواجه الكثير من التحديات والأعباء المتراكمة على مدار عقود طويلة.
السيسي متحدثًا عن أزمة هجرة الأطباء المصريين
يقترب عدد الأطباء العاملين في القطاع الحكومي في مصر من عدد الأطباء المصريين العاملين في المملكة العربية السعودية، ممن استقالوا أو قدموا على إجازات بدون مرتب من جهات عملهم الحكومية وتعاقدوا مع الحكومة السعودية أو مع مستشفيات خاصة هناك، أملًا في الحصول على وضع مادي أفضل، بحسب أحد أعضاء مجلس نقابة الأطباء الذي تحدث إلى كاتب هذه السطور.
وضرب العضو هذا المثل ليشير إلى حجم الأزمة التي يمر بها القطاع الطبي الحكومي في مصر، لافتًا إلى أن الدراسة التي أصدرها المجلس الأعلى للجامعات ووزارة الصحة في 2019، وتضمنت توصيفًا دقيقًا للمشكلة وخطة للحل، لم تُفعل حتى تاريخه، وهو ما جعل أعداد الأطباء المستقيلين والمهاجرين في زيادة مطردة "العدد مرشح للزيادة طالما الدولة تصم آذانها أمام مطالب النقابة".
"تعلم السلطة أبعاد الأزمة جيدًا، ولديها تشخيص وافٍ لها، لكنها لم تخْطُ حتى الآن أي خطوة فعالة في طريق حلها، واكتفت بتقديم مسكنات من شأنها ترحيل المشكلة فقط"، يقول عميد إحدى كليات الطب الحكومية، مشيرًا إلى أن مستشار الرئيس للشؤون الصحية والوقاية الدكتور عوض تاج الدين عقد منذ فترة اجتماعًا بعدد من المسؤولين الحكوميين وعمداء كليات الطب والأستاذة والخبراء، وقدم خلال الاجتماع توصيفًا دقيقًا لمشكلة هجرة الأطباء وتحدث عن تأثيرها الخطير على مستوى الخدمة الصحية التي تقدمها المستشفيات الحكومية للمواطنين.
ويُجمِل عميد كلية الطب الأسباب التي دفعت الأطباء الشبان إلى هجرة العمل في المستشفيات الحكومية، وفقًا لما دار في هذا الاجتماع من مناقشات، بقوله "هناك ثلاثة أسباب تحتاج إلى تدخل حكومي فوري قبل أن تتفاقم [الكارثة] التي حطت على مهنة الطب في مصر".
السبب الأول بحسب عميد كلية الطب الذي تحفظ على ذكر اسمه، هو ضعف أجور الأطباء "يحصل الطبيب المقيم المُكلف على نحو 2200 جنيه في الشهر تزيد إلى 3500 جنيه لمن يعمل في الأرياف والمناطق النائية، وبعد عشر سنوات من العمل يصل راتب هذا الطبيب الذي حصل على درجة الماجستير بعد إضافة العلاوات الدورية والحوافز إلى نحو 5000 جنيه، وهو رقم لا يكفي لسد احتياجات طبيب تزوج وبدأ تكوين أسرة، ومع تتابع الزيادات السنوية المحدودة لا يتعدى راتب الطبيب الكبير الذي اقترب من سن المعاش رقم ثمانية آلاف جنيه".
ويصف عميد كلية الطب الفارق بين رواتب الأطباء العاملين في مستشفيات وزارة الصحة، ورواتب العاملين في المستشفيات الجامعية، بأنه "محدود"، موضحًا أن "المعيد يحصل على 4000 جنيه تقريبًا، بينما يحصل المدرس المساعد على 6000 جنيه، ويحصل المدرس على 8000 جنيه، فيما يحصل الأستاذ على 10000 جنيه، وقبل بلوغه سن المعاش يصل راتب الأستاذ الدكتور الطبيب 12 ألف جنيه".
"تلك الأرقام المتدنية لا تُقارن بما يحصل عليه موظفون آخرون بمؤسسات الدولة من مرتبات، فالقضاة والضباط والمصرفيون والعاملون في شركات البترول الحكومية منها والمشتركة يتقاضون أضعاف ما يتحصل عليه الأطباء، علمًا بأن الفئة الأخيرة تقدم للمجتمع خدمات لا تقل أهمية عما تقدمه الفئات الأخرى"، بحسب عميد كلية الطب.
أما السبب الثاني للهجرة الجماعية للأطباء، فيشير عميد "الطب" إلى أن تراجع فرص التدريب وتعقيدات حصول الأطباء الشبان على درجات علمية (ماجستير ودكتوراة) من الجامعات يؤدي إلى أن يبحث هؤلاء الأطباء عن فرص بديلة للتدريب واستكمال التعليم خارج مصر.
ويشرح ذلك بشيء من التفصيل فيقول "المستشفيات الحكومية المؤهلة لتدريب الأطباء عددها قليل للغاية، فهي تحتاج إلى أساتذة وخبراء متخصصين وهو أمر غير متاح حاليًا إلا في مستشفىً واحدٍ أو اثنين في كل محافظة، أما المستشفيات الجامعية فهي غير قادرة على استيعاب أعداد كل الأطباء الخريجين، فأعداد الأساتذة باتت محدودة والإمكانيات المتاحة حدث ولا حرج، حتى برنامج الزمالة الذي تم طرحه كحل لتلك المعضلة متعثر نتيجة التخبط الحكومي والصراع بين وزراة الصحة والمجلس الأعلى للجامعات".
وعرض عميد كلية الطب، لما يتعرض له الأطباء من تعدٍّ بدنيٍّ ولفظيٍّ في أقسام الطوارئ بالمستشفيات الحكومية من الجمهور الذي تثور ثائرته بسبب النقص الشديد في الإمكانيات "يدفع الأطباء الشبان فاتورة فشل الحكومة في توفير الحد الأدنى من الخدمة الطبية للجمهور، ويواجهون ثورة أهالي المرضى عندما يبلغونهم بعدم توفر أسرة أو أدوية أو أكياس دم أو غيرها من الأدوات الأساسية لتقديم الخدمة الطبية".
ويرى العميد أن الحل في أن تبادر الدولة وبشكل سريع إلى رفع أجور الأطباء بشكل مُرضٍ "يجب ألا يقل أجر الطبيب المبتدئ عن خمسة آلاف جنيه على أن تصل إلى عشرة بعد خمس سنوات على أقصى تقدير، وأي حديث عن زيادة محدودة لن يُقنع الأطباء الشبان بالبقاء في عملهم بالمستشفيات الحكومية".
وعلى الحكومة، وفقًا لهذا الطبيب، أن تطرح نظام تدريب وتعليم جديد ومرن للأطباء الشبان تتعاون فيه كل الجهات ذات الصلة، لأن البديل هو أن يتكفل الطبيب الشاب وأهله بمصروفات الدراسات العليا والتدريب "يظل الطبيب الشاب في حاجة إلى معاونة أسرته لمدة لا تقل عن 10 سنوات تقريبًا بعد تخرجه وبدء حياته العملية، فبعض الأطباء الشباب يظلون حتى سن الـ 35 عام في حاجة إلى مساعدة مالية من ذويهم، وهو أمر محزن ومخزٍ".
ووصف عميد كلية الطب الخدمة الصحية التي تقدمها المستشفيات الحكومية بـ "العاجزة"، نتيجة للنقص الشديد في الأطباء، فضلًا عن النقص في الإمكانيات "عدد الأطباء يقل بشكل مخيف في المستشفيات الحكومية، وهناك تخصصات لا نجد لها أطباء مثل الرعاية الُمركزة والتخدير والقلب، وهو ما أثر بشكل سلبي على الخدمة التي يتلقاها المواطن الذي تعجزه ظروفه الاقتصادية عن التعامل مع المستشفيات الخاصة".
وعن دور الدولة في حل هذه الأزمة والقضاء على هذا العجز، قال إن "الدولة تعلم التشخيص وتعرف جيدًا كيف تحاصر الأزمة لكنها لم تُفعل المقترحات التي تطرح داخل الغرف المغلقة أو في الدراسات المعلنة، وبدلًا من أن تسارع برفع رواتب الأطباء لجأت إلى رفع أعداد كليات الطب الحكومية في الأقاليم، وأنشأت ما يسمى بالجامعات الأهلية، وسمحت للجامعات الخاصة بفتح كليات طب، لكن كل ذلك لن يحل الأزمة، فهؤلاء الطلبة بعد 10 سنوات سيصدمون بالواقع الأسود ويقررون الهجرة كمن سبقهم".
وأشار الرجل متهكمًا إلى أن بعض الدول الإفريقية بدأت في توظيف الأطباء المصريين برواتب تصل إلى أضعاف ما يحصلون عليه في مصر، فالأمر لم يتوقف عند حدود هجرة هؤلاء الأطباء إلى الخليج أو بريطانيا وألمانيا وكندا وأستراليا، بل وصل إلى دول ظروفها الاقتصادية أقل بكثير من ظروف بلادنا.
وأنهى عميد الطب حديثه مع كاتب هذه السطور بقوله "ما لم تبادر الحكومة بزيادة الرواتب، ورفع كفاءات المنشآت الطبية الحكومية، وتذليل العقبات أمام برامج التدريب، وإلغاء مصروفات حصول طلبة الطب على الدرجات العلمية فسينهار القطاع الطبي في مصر خلال سنوات".
لم تدعم السلطة ميزانيات الصحة والتعليم بالقدر الكافي، رغم وجود نص دستوري يُلزم الدولة بزيادة الإنفاق الحكومي على التعليم والبحث العلمي والصحة ليمثل 10% من الناتج القومي الإجمالي بواقع 4% للتعليم قبل الجامعي، و2% للتعليم الجامعي، و1% للبحث العلمي، و3% للصحة، على أن تتصاعد تلك النسب تدريجيًا "حتى تتفق مع المعدلات العالمية".
ورغم زيادة نسبة مخصصات الصحة والتعليم في موازنة العام الحالي بنسبة 9.6% مقارنة بموازنة العام الماضي، إلا أنها تظل أقل من المعدل الدستوري المقرر.
الدكتورة منى مينا العضو السابق بنقابة الأطباء ترى أن الدولة لا تُنفق على القطاع الطبي بشكل مُرضٍ "تكتفي الحكومة بالصرف على تجميل وطلاء المنشآت الطبية في الوقت الذي تعاني فيه تلك المنشآت من عجز شديد في الأطباء والأدوات والأدوية".
مينا طالبت الدولة بالقيام بواجبها الذي أقره الدستور، وتدعو إلى إقرار كادر عادل لأجور الأطباء، وعلاج التعسف الحكومي مع الأطباء بشكل جذري، وطرح برنامج للتدريب والتعليم لا يرهق كاهل شباب الأطباء، حتى لا تتفاقم الأزمة.
وأبدت مينا مخاوفها من أن تلجأ السلطة إلى إقرار تشريع لمنع الأطباء من السفر إلى الخارج "كحل تعسفي لحل أزمة العجز"، هذه الخطوة من وجهة نظرها ستكون أقرب إلى قرارت "الترقب والمنع التي تصدر بحق المُدانين والمطلوبين على ذمة قضايا وهو أمر لا يليق بأصحاب هذه المهنة السامية".
على نحو ثماني سنوات، لم تشرع سلطة الحكم الحالية في النهوض بالقطاع الطبي الذي انكشف خلال جائحة فيروس كورونا قبل عامين، وتجاهلت كل الدعوات التي تطالب بوضع الصحة والتعليم على رأس أجندة أولوياتها باعتبارهما القاعدة الأولى لبناء الدولة الحديثة.
وبلغ الأمر أنها كتمت صوت الوزيرين المسؤولين عن الصحة والتعليم عندما أعلنا تحت قبة البرلمان عام 2019، أنهما لا يحصلان على ما يطلبانه من أموال لتنفيذ برامج التطوير وسد العجز في المعلمين والأطباء، وإثر ما طرحه وزير التربية والتعليم طارق شوقي ووزيرة الصحة "المجمّدة" هالة زايد في مجلس النواب، صدرت تعليمات بفرض حظر إعلامي على كل الوزراء في المنصات التابعة للسلطة، كنوع من التأديب لمن يزل لسانه وينطق بشيء من الحقيقة.
نقطة البداية في صناعة نهضة حقيقة وتأسيس "الجمهورية الجديدة" التي يتم التبشير بها منذ شهور، هي الاهتمام بالتعليم والصحة، فلا استقرار ولا تقدم ولا تنمية ولا ثقل إقليمي أو دولي، دون تعليم جيد وخدمة صحية تراعي الحد الأدنى من آدمية المواطن.