
عدم إلزامية التكليف وزيادة أعداد الكليات.. كل شيء يدفع لهجرة الأطباء
لا يعرف محمود صالح، الطالب بالسنة الأخيرة لكلية طب الأسنان، جامعة أسيوط، ما سيصنعُ به القدرُ بعد تخرجه بنهاية هذا العام، مع بدء تنفيذ قرار وزارة الصحة والسكان الخاص بأن يكون تكليف خريجي الكليات الطبية، عقب اجتياز سنة الامتياز فور التخرج، طبقًا لاحتياجات الوزارة وليس إلزاميًا.
يعمل محمود "كول سنتر" لإحدى شركات الاتصال، فهو لم يتمكن من العثور على فرصة تدريبية بأحد المستشفيات الخاصة حتى الآن ليكون هذا بديلًا للتكليف وللخبرات التي يكتسبها في السنوات الأولى من عمله في مستشفيات ومراكز الحكومة.
سيكون الابن الوحيد لأبيه جاهزًا لسوق العمل، فور تخرجه لأنه معفى من الخدمة العسكرية، لكنه يعيش في صدمة، فلا مكان خاص سيقبل به وهو لا يملك الخبرة الكافية، ولا يعرف مصيره في العمل بمستشفى حكومى مع قرار عدم إلزامية التكليف، أي تعيين الأطباء في المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية، وقَصره على الاحتياج.
كما لا يملك محمود حق الحلم في افتتاح عيادة خاصة لممارسة طب الأسنان، فالتكلفة عالية "تتخطى الـ500 ألف جنيه، عشان الأساسيات بس زي السرير والأدوات وأجهزة التعقيم" يقول لـ المنصة، قبل أن يستدرك "حاولت أشتغل في عيادة خاصة، بس المقابل كان قليل ما يكفيش مصاريفي اليومية".
يضيف "مجموعي في الثانوية ما حصَّلش طب بشري، قلت أسنان نفس الحال وفيها تكليف برضو"، ليأتي قرار وزارة الصحة ويضعه هو وزملاءه من خريجي كليات أغلب القطاع الطبي في خانة اليك.
الأمر المستغرب أنه مع وقف إلزامية التكلييف الذي ينطوي على إشارة لزيادة الأعداد عن الحاجة، تُفتتح كليات طب جديدة، بالأخص لطب الأسنان والصيدلة والطب الطبيعي.
تكليف غير ملزم في مقابل كليات جديدة
تقدمت اللجنة العليا للتكليف بوزارة الصحة عام 2022 بتوصية للدكتور خالد عبد الغفار، وزير الصحة، ليصبح التكليف طبقًا للاحتياجات الواردة من الجهات المذكورة بالقانون، وهو ما سيسري اعتبارًا من حركة تكليف عام 2025، وذلك لجميع الفئات المخاطبة بالقانون رقم 29 لسنة 1974 في شأن تكليف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وهيئات التمريض والفنيين الصحيين والفئات الفنية المساعدة.
رفضت النقابات الطبية القرارات المتناقضة من الصحة والتعليم العالي
في المقابل وخلال شهر فبراير/شباط الماضي، صدرت موافقة المجلس الأعلى للجامعات على إنشاء 12 جامعة أهلية جديدة، مرتقب بدء الدراسة فيها أكتوبر/تشرين الأول المقبل، تتضمن 6 كليات لطب الأسنان في جامعات القاهرة، وطنطا، والفيوم، وعين شمس، والسويس، وكفر الشيخ، و7 كليات صيدلة في جامعات السادات، وطنطا، والوادي الجديد، ودمنهور، وسوهاج، وكفر الشيخ، والقاهرة، إضافة لـ3 كليات علاج طبيعي بجامعات القاهرة وكفر الشيخ والسويس، و5 للطب البيطري.
أمام هذه الاعتراضات ومخاوف الخريجين الجدد والقرارات المتناقضة بتقليص التعيينات الجديدة والتوسع في افتتاح الكليات الطبية، ما كان من النقابات الطبية إلا اتخاذ خطوات للدفاع عما تصفه بـ"حقوق الأعضاء"، وضمان فرص عمل لهم، ولو في خارج البلاد.
وتحرَّك نقيب أطباء الأسنان إيهاب هيكل نحو التواصل مع لجنة قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات للموافقة على مقترح بإضافة تخصص طب الأسنان الشرعي لبرامج الدراسات العليا، بهدف فتح مجالات عمل جديدة لأطباء الأسنان وتوسيع فرصهم للمشاركة فيها.
يؤكد إيهاب لـ المنصة أن اللجنة وافقت على المقترح، وستكون الدراسة عبارةً عن دبلوم في طب الأسنان الشرعي، بدلًا من ماجستير، على أن يتم استحداث برنامج للماجستير والدكتوراه لاحقًا، بما يساهم في تسهيل إيجاد فرص عمل بالخارج. ويضيف "الدراسة هتفتح في عدد من الجامعات العام المقبل، وأبدينا استعدادنا لوضع المناهج التعليمية".
خطاب تحذيري
لم تكتف النقابة بالبحث عن مجالات وتخصصات جديدة لأعضائها، بل بادرتْ باتخاذ خطوات لمخاطبة الوزارات، ففي خطابها الموجه إلى وزارة التعليم العالي، الذي حصلت المنصة على نسخة منه، تحذر نقابة أطباء الأسنان من فتح كليات طبية جديدة، فمصر بها 81 كلية.
تشير النقابة في خطابها إلى أن عدد كليات طب الأسنان مثلًا في الولايات المتحدة لا يتجاوز 65 كلية. كما أن عدد الدراسين في كل دفعة بكل كلية لا يتجاوز 50 طالبًا، بالتالي فإن أقصى عدد يتخرج في العام الواحد بها يبلغ نحو 6500 طبيب، في حين أن الدفعات الأخيرة التي تخرجت في مصر تتجاوز هذا الرقم، إذ يبلغ عدد خريجي دفعة 2023 نحو 12 ألف طبيب، ودفعة 2024 نحو 13 ألف طبيب.
في أحدث إحصائية للنقابة عن أعداد أطباء الأسنان، التي سبق أن قدمت نسخة منها إلى وزارة التعليم العالي في 2022، وجرى تحديثها أخيرًا، تشير إلى أنه في عام 2022 بلغت أعداد الأطباء نحو 81 ألف طبيب، بالإضافة إلى 69 ألف طالب في كليات طب الأسنان، في حين يبلغ العدد حاليًا نحو 108 آلاف طبيب، ونحو 70 ألف طالب، ونحو 7 آلاف دارس بالخارج.
"إحنا كسرنا النسب العالمية في الأعداد المناسبة لطلبة طب الأسنان وداخلين حاليًا في مرحلة البطالة في هذا المجال الطبي المهم"، يحذر حسين عبد الهادي، الأمين العام لنقابة أطباء الأسنان، كاشفًا لـ المنصة أن سوق العمل لا يحتمل هذا العدد.
لذا يرى عبد الهادي أن الدراسات والبيانات والإحصاءات التي تعتمد عليها الحكومة في قراراتها بافتتاح كليات جديدة "غير دقيقة وغير صحيحة"، فنسبة الحاصلين على الماجستير والدكتوراه مجتمعين في طب الأسنان لا تتخطى 15%، ما يؤثر على كيفية تدبير الكوادر التعليمية اللازمة لضمان عمل هذه الكليات.
وهو ما يتفق معه النقيب إيهاب هيكل، الذي يشير إلى أن قطاع طب الأسنان يعاني نقصًا شديدًا في عدد أعضاء هيئة التدريس، واصفًا أعداد الخريجين بـ"المفزعة"، معتبرًا أنها تمثل قضية أمن قومي، فهذه الأعداد ستساهم في ارتفاع نسب البطالة.
يعقِّب "اقترحنا على لجنة قطاع طب الأسنان أكثر من مرة تحديد أعداد للقبول بما لا يتجاوز 8 آلاف طالب سنويًا، لكنها لم تأخذ برأينا".
دراسة جدوى
في محاولة لزيادة استيعاب خريجي الأسنان، اجتمع ممثلو النقابة مع مدير عام إدارة طب الأسنان بوزارة الصحة وممثلي الإدارة العامة للتكليف، وعرضت النقابة دراسة جدوى تفصيلية لمشروع لزيادة أعداد عيادات الأسنان بالوزارة لاستيعاب أعداد خريجي طب الأسنان بدءًا من دفعتي 2023 و2024.
تهدف الدراسة، التي حصلت المنصة على نسخة منها، إلى تعيين 62 ألف طبيب أسنان خلال 5 سنوات، وتوفير سرير لكل 2000 مواطن داخل مصر، مما يخلق الحاجة إلى أطباء الأسنان الجدد، ويدعم الإيرادات العامة لوزارة الصحة.
لتغطية عدد السكان البالغ 125 مليون نسمة، متضمنًا 10 ملايين وافد، سنحتاج نحو 62.500 ألف كرسي، في حين أن إجمالي عدد الكراسي الحالية بوزارة الصحة نحو 6 آلاف كرسي؛ تبلغ تكلفة الكرسي الواحد نحو 200 ألف جنيه، وتقترح الدراسة توفير الكراسي المطلوبة التي تصل إلى نحو 56.500 ألف على 11 مرحلة خلال 11 عامًا، بواقع 5 آلاف كرسي سنويًا، بتكلفة تبلغ 11.3 مليار جنيه.
وفقًا للإيرادات المتوقعة من المشروع، يبلغ الإيراد اليومي لكل كرسي نحو ألف جنيه، والإيراد السنوي نحو 383 ألف جنيه، كما أن الإيراد السنوي الإجمالي المتوقع للمرحلة الأولى يبلغ نحو 4.125 مليار جنيه، والإيراد السنوي المتوقع عند اكتمال المشروع نحو 22.95 مليار جنيه.
الأسواق الخارجية حاليًا لا تقبل الطبيب الممارس العام المصري
يستند عبد الهادي للإحصاءات الموجودة لدى النقابة ليؤكد على أن هناك تضخمًا كبيرًا في شريحة الممارس العام، معقبًا "إحنا وصلنا لـ 112 ألف طبيب أسنان حاليًا، وفيه 70 ألف طالب بكليات طب الأسنان حاليًا، يعني خلال 5 سنوات سيكون عدد أطباء الأسنان 182 ألف طبيب، في حين أننا لا نحتاج سوى 65 ألف فقط في سوق العمل".
ويُرجع الأمين العام لنقابة أطباء الأسنان حسين عبد الهادي استمرار الحكومة في تخريج المزيد من الأطباء إلى رغبتها في تصديرهم إلى الخارج "فيه طلب عليهم في دول الخليج وأوروبا".
وسبق وتحدَّث رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عن هجرة الأطباء قائلًا إنه "إذا هاجر منهم أو خرج للعمل 7 أو 8 آلاف لن يكون هناك مشكلة"، فيما يؤكد عبد الهادي أن الغرض هو إدخال مزيد من العملة الصعبة إلى مصر، وهو ما يراها "أفكارًا خاطئة وتستند إلى دوافع غير صحيحة واقعيًا".
يوضح أن "الأسواق الخارجية حاليًا لا تقبل الطبيب الممارس العام المصري، في ظل توطين المهن مثل ما يحدث من سعودة القطاع الطبي في السعودية، وعليه فهي تحتاج فقط للطبيب الأخصائي أو الاستشاري".
الصيادلة صامتون
على الجانب الآخر، يسود صمت تام في مجال الصيدلة، إذ لم تتخذ النقابة العامة لصيادلة مصر أي خطوة أمام قرارات افتتاح المزيد من كليات الصيدلة، مع عدم إلزامية التكليف.
تزيد معاناة الصيادلة مع فقدان الغطاء النقابي في الدفاع عنهم، حيث لا يوجد مجلس لإدارة النقابة حتى الآن، ومن يتولى تسيير أعمال النقابة هي لجنة ثلاثية برئاسة كريم بدر، أمين سر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب الذي أكد في تصريح مقتضب لـ المنصة رفض النقابة لأي قرارات من شأنها زيادة أعداد الصيادلة دون وجود فرص عمل حقيقية لكل صيدلي.
يضيف "خضنا جولات مع وزارة الصحة بشأن أزمة تكليف دفعات 2018 و 2019 و2020، ونحن لن نترك أعضاءنا ضحية لأي سياسات".
بدورها ترفض نجوى هاشم نقيبة صيادلة الجيزة، فتح كليات جديدة للصيدلة، معتبرةً أن فتح الكليات خلال السنوات الماضية تم بطريقة عشوائية ترتب عليها تخريج تشبُّع سوق العمل من الخريجين.
ترى نجوى في تصريح لـ المنصة في الاتجاه الحالي لفتح كليات صيدلة بالجامعات الأهلية والجامعات الخاصة، مع تحمل الطلاب نحو 100 ألف جنيه مصاريف سنوية، سياسات خاطئة، و"بقت تجارة"، داعية وزارة الصحة لفتح التكليف مرة أخرى، وعدم التحجج بوجود أعداد كبيرة من الخريجين، حيث لا توجد تعيينات منذ عدة سنوات بمصانع الأدوية الكثيرة وشركات الأدوية والمراكز العلمية.
تدعايات كارثية على العلاج الطبيعي
فيما يخص كليات العلاج الطبيعي التي يتخطى عددها الـ70 كلية ما بين حكومية وأهلية وخاصة، فإن سامي سعد، نقيب العلاج الطبيعي، يرى في قرار عدم إلزامية التكليف "إسهابًا لا فائدة منه".
وفق تأكيد سعد لـ المنصة، فإن "النقابة أرسلت خطابًا إلى لجنة قطاع العلاج الطبيعي بالمجلس الأعلى للجامعات يتضمن رؤية تحليلية مستقبلية حول الأعداد التي يحتاجها سوق العمل، صدر على أثره قرار بوقف إنشاء كليات جديدة للعلاج الطبيعي".
غير أن هذا القرار لم يستمر، يقول سعد، فـ"ما يحدث حاليًا من إنشاء كليات جديدة هي تحركات ستكون لها تداعيات كارثية، السوق يعج بخريجي كليات العلاج الطبيعي، ولا توجد فرص عمل".
يشير سعد كذلك إلى تدني المستوى التعليمي بالكليات الموجودة حاليًا، وهو ما يؤثر على كفاءة خريجي هذه الكليات، مضيفًا: "لو الدولة عايزة تستثمر لازم تطور الكليات الموجودة حاليًا، وترفع كفاءة أعضاء هيئة تدريسها".
كان سعد وجَّه الدعوة إلى نقابات الأطباء البشريين، وطب الأسنان، والصيدلة، والتمريض، لعقد اجتماع لمناقشة الخطوات التصعيدية ضد قرارات فتح كليات جديدة. لكن الدعوة لم تلق استجابة تذكر.
ويشهد القطاع الطبي في مصر هجرة مستمرة بحثًا عن فرص عمل ذات دخل مناسب، وهي ظاهرة يحذر من خطورة استمرارها أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء، الذي يشير إلى أنه في عام 2023 كان عدد من هاجروا إلى الخارج 7 آلاف طبيب، وهو أكثر من ضِعف العدد المقدر بـ3 آلاف طبيب في عامي 2021 و2022.
ويؤكد لـ المنصة أن هجرة الأطباء ليست فقط بسبب ضَعف المرتبات، وإن كان هذا هو السبب الأهم، لكن أيضًا بسبب البحث عن بيئة عمل آمنة والتدريب والتعليم، وعدد ساعات عمل أقل، وسكن لائق، ومعاملة حسنة في أقسام الطوارئ".
يضاف إليها السبب الذي من أجله يبحث محمود عن فرصة سفر وهو وقف إلزامية التكليف الحكومي، يقول "أول ما هتخرج هسافر علطول، مافيش حل تاني".