تزامن انتشار الأخبار عن إلزام الفنانة شيرين عبد الوهاب بالعلاج و(شحنها) مع عودتي من المؤتمر الحاشد للجمعية الوطنية الأمريكية لمشيري الإدمان في إنديانابوليس.
تضم تلك الجمعية نحو مائة ألف عضو، شارك في ذلك المؤتمر أكثر من ألف منهم، ورأست اجتماع لجنته الدولية بحضور أعضاء من كوريا الجنوبية والمكسيك وبيرو وإثيوبيا والنمسا وأستراليا وغيرها، معظم أولئك الأعضاء من المتعافين الذين حصلوا على شهادات ودبلومات بل وماجستيرات في علوم الإدمان.
أفكر في ذلك، الآن، بينما أعود للمفردة التي ارتبطت بموضوع شيرين؛ الشحن. وهو لمن لا يعرفه تعبير متداول في أوساط علاج وإعادة تأهيل المدمنين في مصر، وفي أوساط العلاج النفسي أيضًا، ويستخدم لوصف الإلزام بالعلاج، الذي تنظمه المادتان 13 و18 من قانون العلاج النفسي المصري.
وفي سياق مجتمعنا، يتسبب غياب مفهوم واضح للمرض والتوعية عنه، خصوصًا بين أفراد الطبقات الفقيرة، في وقوع مشكلات ضخمة أثناء الشحن
الإلزام بالعلاج النفسي، الذي يجب أن يتم داخل مركز طبي نفسي يعالج الإدمان، مبرره باختصار وجود خطر جسيم وواضح على حياة وسلامة المريض أو حياة وسلامة من حوله. كأن يهدد المريض، أو يحاول، الانتحار أو إيذاء غيره، أو يعتدي على من حوله، أو يجبرهم على إعطائه أموالًا لصرفها على التعاطي، أو أن يقوم بتبذير أكثر من نصف الدخل الشهري للأسرة، مثلًا، بسبب نزواته أو اندفاعاته.
ويتطلب ذلك الإجراء موافقة أقارب الدرجة الأولى، الذين يحق لأي فرد منهم الاعتراض والحيلولة دون إتمامه، وكذلك موافقة استشاري أو أخصائي طب نفسي مؤهل، ثم إبلاغ المجلس القومي للصحة النفسية، الذي يفوض استشاري محايد لتقييم الحالة.
ورغم ما قد يتبدى في مراحل "الإلزام" من متطلبات تضمن "إنسانيته"، فكثيرًا ما تحدث أزمات بسبب قرار متسرع من الأهل أو من الطبيب، أو ربما من بعض العاملين في المجال من غير الأطباء، الذين قد يقومون بذلك دون حق قانوني أو مهني.
من يُحضر المريض من بيته يجب أن يكون ممرضًا مؤهلًا، ومعه فرد أمن أو أكثر. في شبابي كان لابد من وجود طبيب معهما، ولكن اليوم لم يعد معمولًا بذلك، وقد يصاحب الأمر عنف يتسبب في أذى جسدي للمريض أو من يشحنه، أو كليهما، ويراكم بالتأكيد أزمة نفسية لدى المريض، الذي من المفترض أنه في طريقه للتعافي.
وفي سياق مجتمعنا، يتسبب غياب مفهوم واضح للمرض والتوعية عنه، خصوصًا بين أفراد الطبقات الفقيرة، في وقوع مشكلات ضخمة أثناء الشحن.
يتراوح عدد المدمنين في مصر، بين ثلاثة إلى ستة ملايين شخص، يفقد 5% منهم حياتهم سنويًا بسبب التعاطي، فيما يتقدم نحو 10% لتلقي العلاج، الذي يضع على كاهل الأسر والدولة تكلفة اقتصادية كبيرة، بما فيها تكلفة خسارة ساعات العمل والعنف والجرائم واستهلاك غرف الطوارئ في المستشفيات وغيرها.
وفي مقابل هذا تؤكد دراسات عالمية، أن كل دولار تنفقه الدولة أو الأسرة على العلاج والتأهيل بالطرق الثابتة علميًا يوفر 7 دولارات، إذن علاج وتأهيل المدمنين ليس فقط مسألة إنسانية واجتماعية بل قضية اقتصادية وعاملًا مهمًا في التنمية ومكافحة الفقر.
على كل حال، ليس الإلزام أو التقدم طوعًا للعلاج هو الخطوة الوحيدة نحو التعافي، كما أنه ليس المشكلة الوحيدة في تلك الرحلة.
تبدأ الرحلة بأعراض الانسحاب، وهي الأعراض الجسمانية المؤلمة التي يتعرض لها المريض عند التوقف عن التعاطي، والتي تتطلب في معظم الأحيان إقامة كاملة في مركز طبي، خاصة بعد انتشار مخدرات جديدة خطيرة، مثل الآيس والاستروكس، يصاحبها تغيرات نفسية جسيمة.
لكن الألم الجسدي ليس فقط ما يواجهه المريض، وإنما تكمن الأزمة الحقيقية فيما تفرضه الدولة من عراقيل بيروقراطية كثيرة أمام إقامة المراكز الطبية لعلاج أعراض الانسحاب. الأمر الذي يرفع من كلفة علاج اليوم الواحد للمريض، ويدفع بانتشار المراكز غير المرخصة، التي يديرها عادة متعافين غير مؤهلين، وتقدم خدمات غير منضبطة علميًا في ظروف غير صحية وغير آدمية أحيانًا.
العلاج في مصر أغلى من أمريكا
وبسبب التكلفة المنخفضة نسبيًا لتلك المراكز، تضطر الأسر محدودة الدخل للجوء إليها. في مصر يتكلف العلاج ليوم واحد نحو 350 جنيهًا بينما لو طبقنا المعايير التي تطبق في كاليفورنيا، وهي واحدة من أغلى المناطق في العالم، سيتكلف العلاج ما يوزاي مائة جنيه مصري فقط لا غير، وفق ما عاينت بحكم عملي رئيسًا للجنة الدولية للجمعية الوطنية الأمريكية لمشيري الإدمان والتعاطي.
تضع الدولة عراقيل كثيرة أمام منح تراخيص مراكز الديتوكسات، ويتكلف إنشاؤها وفق تلك المعايير، ما بين نصف إلى مليون جنيه، وهي معايير بيروقراطية أكثر منها اهتمام بالغرض العلاجي الأساسي لتلك المراكز.
تفرض وزارة الصحة على مراكز الديتوكس أن تكون مراكز طبية نفسية تحديدًا، يديرها استشاري طب نفسي مع اثنين أخصائيين، بالإضافة إلى استشاري طب باطنة وآخر للطوارئ، ومواصفات للمبنى معقدة جدًا. في حين أن مركز سحب السموم من الجسد يحتاج إلى طبيب ممارس عام، وطاقم طبي مدرَّب، قادرين على إسعاف المريض إن دعت الحاجة ومتابعة حالته الجسدية حتى يتماثل للشفاء.
والنتيجة أن المراكز التي تنشأ متهربة من تلك العراقيل، تتخلى حتى عن ذلك الطبيب العام والفريق المدرَّب، وتقوم أغلبها على غير المتخصصين، بل وتمارس الشحن أيضًا. وفي أحيان كثيرة، بواسطة فرق شحن غير مرخصة، وهي ليست قليلة العدد، ويتواجد منها الآن، وفق تقديري، نحو 150 مركز ديتوكس غير مرخص، يضمون نحو 6 آلاف سرير.
علاج أعراض الانسحاب ليس نهاية المطاف، ولن يكون ذا فائدة إطلاقًا، إن لم يتبعه برنامج تأهيل اجتماعي فعال
ثم أن علاج أعراض الانسحاب، ليس نهاية المطاف في علاج المدمن، ولن يكون ذا فائدة إطلاقًا، إن لم يتبعه برنامج تأهيل اجتماعي فعال. وتلك البرامج موجودة في مصر، وتقدر بنحو 800 مركز للتأهيل تضم 35 ألف سرير، لكنها تواجه مشكلة كبيرة هي الأخرى، بسبب العراقيل ذاتها التي تفرض عليها أن تكون منشأة طبية نفسية متكاملة، في حين أنها تمارس دورًا تأهيليا، وتعتبرها كل الدول الناجحة في مجال علاج الإدمان، في أمريكا وأوروبا وحتى الدول النامية مثل الفلبين وماليزيا وإندونسيا، مراكز للتأهيل الاجتماعي والنفسي، وهذا هو توصيفها الصحيح.
المعايير المنطقية
تعرف إدارة خدمات تعاطي المخدرات والصحة النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية، مراكز علاج أعراض الانسحاب (الديتوكسات)، أنها "مراكز مستقلة عن المستشفيات أو المراكز الطب نفسية، قد تكون مؤهلة لتقييم وعلاج الحالات النفسية المصاحبة لأعراض الانسحاب وكافة المشاكل العضوية – النفسية – الاجتماعية، وقد لا تكون مؤهلة لذلك (وهذا مسموح به)، وتشترط أن يديرها طبيب بشري دون أن يكون متخصصًا في الطب النفسي".
ومهمتها أن "توفر إشراف وملاحظة ودعم للمرضى على مدار الـ 24 ساعة". وتستقبل المرضى الذين لازالوا تحت تأثير المواد المغيرة للحالة المزاجية، كما تستقبل أولئك الذين يعانون من أعراض انسحاب. وشرط تلك المراكز "توفر الأطباء (لاحظ الأطباء وليس الأطباء النفسيين بالضرورة) على مدار 24 ساعة على التليفون (وليس بالضرورة وجودهم في المكان). على أن يعاين الطبيب المريض في ظرف 24 ساعة من دخوله (أو أقل إن لزم الأمر). و وجود تمريض مرخص يكون حاضرًا ويشرف على، ويرصد، تقديم الدواء للمرضى".
ثم تضيف إدارة خدمات تعاطي المخدرات والصحة النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية، أن "مراكز علاج أعراض الانسحاب توفر إشراف 24 ساعة مع الملاحظة ووجود دعم ومساندة من الأقران (المدمنين المتعافين)".
وعن العاملين يحدد "توظف مراكز علاج أعراض الانسحاب إكلينيكيين مرخصين أو مصرح لهم أو مسجلين في السجلات الرسمية، يوفرون نظامًا علاجيًا من التقييم المهني والرعاية والخدمات العلاجية على مدار 24 ساعة للمرضى وأسرهم".
ليس معنى الإتاحة التفريط. ومن أجل تحقيق تقدم حقيقي في مجال علاج الإدمان، يجب أن تتم إزالة العراقيل البيروقراطية التي لا تعكس فهمًا حقيقيًا للمرض، ولا تقدر الجهود الحثيثة التي بذلها ويبذلها المدمنون المتعافون من أجل نقل خبرتهم وتقديم المساعدة الحقيقية لأقرانهم. الإتاحة مع الرقابة الحقيقية على المخالفين ستحول دون كوارث كثيرة يواجهها المدمن في مراحل علاجه المختلفة. فلننقذ حياة عشرات الآلاف ونرفع العبء حرفيًا عن ملايين من أسر وأحباء المدمنين.