قصة حزينة ومكررة. أقرأ على حساب أحد الأصدقاء في فيسبوك الرسالة الأخيرة من أحدهم، يودع بها الحياة، بسبب الآلام التي يشعر بها، والفراغ والصمت اللذين يتسعان من حوله، وعدم الجدوى من الشفاء من الاكتئاب بعد سنوات طويلة من العلاج.
هزيمة روحية مروعة تُسرد في سطور قليلة، ولكن بشفافية تجعل هذا "الآخر" جزءًا من لحظتك النفسية، وتتحول رسالته إلى شاهد قبره الرقمي.
ربما مر أغلبنا بلحظات مشابهة، وددنا فيها أن نودع حياتنا ونستسلم لهذا النداء الآتي من الجانب الميت في وجودنا، ولكننا لم نكتب رسالة وداعنا، وتراجعنا في اللحظة الأخيرة، ربما إيمانًا منا بأن هناك ما سيحدث ويُغير من معادلة الشقاء النفسي، ولا حاجة بنا للتسرع في وضع أساس هذا القبر الرقمي.
فخلال هذه المونولوجات الداخلية الطويلة والمكررة، التي نقاوم بها مثل هذه الإملاءات النفسية القاسية، يصبح القدر، الصدفة، الإرادة، بل والمعجزة، عناصر مألوفة من كثرة تتبع مساراتها داخل نفوسنا، بحثًا عن الخيط الذي سيصل بنا إلى أول المتاهة، ومن بعده يمكن بسهولة الطفو فوق هذه الذات التي تعاني.
منذ أن وجدت السوشيال ميديا، بهذه الجماهير الكثيفة التي تقف وراء الشاشات، تولّد تلقائيًا إغراء ملامسة مشاعر الآخرين والتأثير فيها، عبر هذه الرسائل الوداعية، أو أشكال أخرى من المعاناة، ربما تتساوى مع رغبة ترك العالم. وربما تكون هذه الجماهير هي العامل المحفز لها، سلبًا أو إيجابًا. فقد دخل "الانتحار" في دوائر جديدة لإنتاجه، وتسويقه.
متاهة الشقاء النفسي
ربما الاكتئاب أو الشقاء النفسي، بشكل عام، عبارة عن متاهة تورطنا في السير فيها، بعيدًا عن البداية الواضحة لنفوسنا. ولكن هل كانت هناك بداية واضحة لنفوسنا، أو شفرة يمكن أن نسترد بها صحونا ويقظتنا الحيوية أمام الحياة والعالم؟ لا أعرف إجابة لهذا السؤال، ولكني على يقين بأن هناك دائما ما يسمى "أول الخيط"، وإن لم يكن مجردًا هكذا، تلك "الدفقة الوجودية" التي نشعر بها في أعماقنا، التي تربط الماضي بالحاضر، لتدلنا دومًا بأن الحياة سليمة هناك، وما نشعر به ليس إلا أعراض هذه الستارة التي أسدلتها الحياة، والمجتمع، وتصوراتنا الخاطئة عن أنفسنا، وحجبت بها عنا هذا الخيط الوجودي.
لشهور طويلة كنت أشعر بهذا الصمت الذي يتشرب وجودي الداخلي، وهذا الثقل على صدري وعدم قدرتي على الكلام كأن صوتي مبلوع داخلي، وهناك آخر يحتله، ولا قدرة على استعادته فأكتفي بالإيماءات لتوصيل المعنى.
ليس الصمت فقط، بل أيضًا الكسل من أن أنكش حصاة ساقطة في هذه المياه الراكدة التي تسبح فوقها نفسي. كنت أوطن نفسي على تقبل هذا المصير، وهذا الصمت، لأني لم أملك الوسيلة التي أدافع بها عن حياتي بعد، أمام هذا الموت، إلى أن ينتفض هذا الوجود ويُدافع عن نفسه بنفسه، وأنا لست إلا وسيطًا نزيهًا.
أين كانت هذه العين مختبئة؟ ربما كانت تسكن أعماقًا، مثل أسماك الأعماق المضيئة، بجانب نقطة البداية للحياة
وبالفعل بعد فترة لا أدرى مقياسها، بدأ الخيط الذي سينقذني من المتاهة في الظهور، عبر هذه الانتفاضة الحيوية التي تشبه تمامًا الآثار الأولى الكامنة للخلق داخل أجسادنا. شعرت آنذاك بأن كل مسالك وطرق نفسي المادية والزمنية مفتوحة وسالكة، وتعبر فيها المادة الحيوية لوجودي، لتصل لكل أطراف نفسي، مسببة نشوة ما بعدها نشوة. ربما لن تطول، ولكنها ستضع علامة بأنها مرت من هنا، وسلَّمت لي خريطة جديدة لنفسي التي لا أعرفها.
بعدها يبدأ موسم التصالح مع النفس، حتى وإن مكث لدقائق، أو ساعات، أو أيام، وحتى لو تخلله هذا الصمت مرة أخرى، ولكن أصبحت هناك علامة متجددة، كأن هذا المرجع الوجودي يتخطى الزمن ويقطع المسافات، ليربط الماضي الحيوي للولادة والخلق، بالحاضر الميت، ليبعث فيه الحياة من جديد.
لحظات ما قبل الهزيمة
لم أعرف الاكتئاب، كمرض عضوي، وجهًا لوجه. ربما تجنبت المساس أو الاقتراب من سلطته والنظر في عينه. قد أكون عانيت منه بدون أن أعرف، وهذا كان سبب نجاتي الشخصية. مهما كانت المعوقات التي تقف أمامي، كانت هناك مياه تسير داخل نفسي، وأنا أسير بجوارها.
لم أصل لنقطة الهزيمة الكاملة، أو الانكسار الكامل الذي يجعلني أثبت في مكاني، أو كرسيَّ. كانت هناك مساحة للمناورة والحركة وإعادة صياغة الحياة، ورفض بات لكتابة رسالة الوداع، حتى لو مزقتها بعدها متراجعًا. كان كبريائي الطفولي يمنعني من إعلان الهزيمة، هذا الكبرياء جعلني معافى أمام الآخرين وأمام نفسي. فالهزيمة أقسى من أي خدعة أو قطعة حلوى تقربنا من الحياة.
حلزون يقترب من النار
أثناء مطاردة هذا الصمت لي، كنت أريد السير في الشوارع بمفردي، أخشى هؤلاء الذين سماهم سارتر "الجحيم هم الآخرون"، أشعر بقشعريرة كأني حلزون يقترب من النار.
ربما كانت وفاة أبي نقطة فاصلة.
فكل هذه الأعراض جاءت بعد وفاة أبي بسنة على الأقل. بعد وفاته مباشرة لم أشعر بفداحة ما حدث ولا صلتي المباشرة به كأني شخص آخر. أحسست بحرية وخفة في الحركة، فسافرت وأنا أحمل هذه الجثة داخلي. كتبت وقرأت ولا تزال هذه الجثة مفتوحة العينين ولكني لا أراها ولا أنظر إليها.
ولكن مرة واحدة، بعد سنة من الوفاة تقريبًا، نظرت في عينيها كأني أنظر في عين ميدوزا، وبدلًا من أن أتحول إلى حجر، تحول الحجر في عيني إلى بكاء مر، وبدون أي سبب يدعوني للبكاء.
استوعبت هذا الفقد بعد سنة وأكثر من الوفاة.
أين كان يعيش هذا الفقد داخلي، وأين كانت هذه العين مختبئة طوال تلك الفترة؟ ربما كانت تسكن أعماقًا، مثل أسماك الأعماق المضيئة، بجانب نقطة البداية للحياة. كانت تبعث إشارات تجعلني قلقًا ومشوشًا، وهي الأوقات التي بدأت ألحظ فيها تغيرات نفسية ومزاجًا سيئًا ميالًا للعزلة.
أتساءل بيني وبين نفسي، يائسًا: هل هذه ستكون النهاية؟
ماكينة لتوليد الحزن
في إحدى المرات، كنت أجلس في أحد المقاهي وأجرب حظي في الكتابة، أحاول أن أوقظ موهبتي كي تساعدني على تخطي هذا الصمت والفراغ الذي تتسع دائرته من حولي وحول صوتي. كتبت يومها حوارًا طويلًا بيني وبين نفسي، كأني اثنين، مع التقدم في الإدانة كنت آخذ دور القاضي، و"الآخر" يأخذ دور المتهم الصريح. وصل الحوار إلى نقطة اللاعودة، فقمت ملدوغًا وتركت المقهى بدون أن أحاسب لأسير بجوار البحر بدون أن أراه.
أصبحت ماكينة لتوليد الحزن بمثيرات هشة، يمكن أن أتقلد دور "الضحية". ربما أحد أعراض الاكتئاب أن تقف في مكان الضحية، لأن الهزيمة لم تترك مكانًا لتحمُّلها، أو لأن نفسك لم تترك مكانًا لكي تردها أو تتفاعل معها.
ولكن أين يكمن معنى الحياة في تلك الأوقات؟ أعتقد أن المعنى يكون هو الآخر مهزومًا، لا يملك الشكل الذي يتجسد فيه، هناك ستارة تحجبه عن الالتحام بالشكل الذي يمنح وجودنا الشخصية.
كنت أتعلم من الحجر كيف يتفتت، ثم تُعاد صياغة جزئياته
ربما اكتشاف الأسلوب/الشكل، الذي تعبر به الحياة عن نفسها من خلالنا، في غاية الأهمية، للوصول لمعنى الحياة، فالحياة تعبر عن نفسها داخلنا عبر أفعال، وهذه الأفعال تأخذ شكل تمثال منحوت من عصارة رمادنا المنثور هنا وهناك. المكسب والخسارة معًا، العزيمة والمقاومة معًا، كل شيء يخلق شبيهًا له، ونحن في الوسط نعبر على سجادة الاحتفالات، نتلقى استحسان ولعنات المشجعين.
لوحة حياتي
بدأت أفكر في العمل اليدوي. تعلمت عمل الفسيفساء أو الموزاييك، شكلت لوحات من قطع صغيرة من الرخام أو الزجاج الملون. كانت هناك عملية تماهٍ تحدث بيني وبين اللوحة: نفسي المبعثرة كانت تمثل قطع الفسيفساء. كنت أتعلم من الحجر كيف يتفتت، ثم تُعاد صياغة جزئياته. كانت هذه الحرفة بمثابة إعادة تركيب لنفسي الشذرية وإدخالها في سياق جمالي.
كنت أبحث عن آلية تنسخ هذه الأفكار المبعثرة، وتنظمها داخل شكل، كرقص الصوفي، بدلًا من أن أسلم نفسي للفراغ أو للصمت، أو لمرور الزمن. أقول لعقلي المشتعل بالأفكار والنوايا الخطرة واليأس "إن كل ما تفكر فيه ليس حقيقيًا". عندها أقف على حبل مشدود بين الوحدة الذاتية، والانفصال النهائي عن نفسي. كان يجب أن أخاطر، فهذه الصدامات النفسية كما تحتاج لحضن الآلية والوجد، تحتاج أيضًا لحضن العدم.
الآلية تنقذنا من الزمن، من التحديق في الفراغ. مرور الزمن يوازيه إنبات لهذه الذات. لعبة تخترعها النفس، فأمام التعب النفسي، نسعى ليس في إيجاد حلول نهائية ولكن في تحريك هذه العربة الثقيلة عن مكانها وبعدها "يحلها الحلال". التعب النفسي يحلل تصديق الخدعة، كما الكتابة تحلل تصديق الخدعة، فالذات والنص مخلوقان، أي قابلين لأن ينخدعا حتى يستردا شخصيتهما.
نسيت أن هناك نسيانًا
ولكن خلف لوحة الفسيفساء، كانت عين أبي لا زالت مفتوحة، وتطاردني، ولكني تعلمت أن أنظر إليها دون أن يتحول الحجر إلى ماء.
كنت أراقب نفسي وتحولاتها بدون أن أنساها، فلم ألجأ إلى أي مثير أو مخدر يجعلني أنسى، فكنت لا زلت قريبًا من مركز الانفجار الذي سببه الموت وتبعاته. وأي نسيان وقتها، ربما سيعني نسيانًا للأبد وانتقالًا لمرحلة جديدة من الانفصال المتعمد عن مركز الانفجار وعن نفسي.
كانوا يصنفون الجنون وينفون صاحبه بعيدًا داخل "سفينة الحمقى" أو المجانين، تُبحر بالمرض والمرضى
لم ألجأ للنسيان، إلا بعد أن نسيت أن هناك نسيانًا، وجاء هو بنفسه لينسيني أساليب كنت أراقب بها نفسي ويستبدل بها أخرى، أكثر خفاء، ولكنه خفاءٌ صافٍ بدون ذنب يولده. فلم أشعر بالشفاء، إلا وأنا في وسط التجربة.
عدت بعدها للكتابة كموهبة أرى بها شقائي النفسي وأشخّصه عبر الاعتراف وتجسيد أعراضه ورؤاه بالحروف والكلمات، كإحدى صوري المتعددة، ولكن لا أحاكمه، ومن هنا بدأت نفسي تستعيد عافيتها، وتنظر في مركز الانفجار. وعندها أغلقت عينا أبي بهدوء داخلي. وكانت البداية الصحيحة لتأبينه، بحزن يخصه هو ولا أحد غيره.
سوق استهلاكي للمرض النفسي
كما كان في العقود السابقة تجاهل لتشخيص المرض النفسي، أصبح الآن هناك تزيُّد في استهلاكه، يعطل تمامًا مسؤولية صاحبه عنه. دخلنا سوقًا استهلاكية للمرض النفسي، من أطباء أو مرشدين، ومرضى. ربما الذي حرك هذا السوق رغبة الاستهلاك للنفس، التي أصبحت هي الأخرى سلعة مفصولة عن صاحبها.
قديمًا، تبعًا لثقافة العصر، كانوا يصنفون الجنون وينفون صاحبه بعيدًا داخل سفينة، تسمى "سفينة الحمقى" أو المجانين، تُبحر بالمرض والمرضى. حديثًا أصبح هناك أيضًا نفيٌ لصاحب المرض النفسي داخل هذه الرغبات الاستهلاكية، ومنها المرض، التي تسيِّر الحياة والنفس معا، فأصبحنا محاصرين بدون مسؤولية عن أنفسنا.
ربما كل عصر يخلق وساوسه ويسير الجميع وراءها منومين.