لا أبالغ إن قلت "حياتي سلسلة من الفَقْد المفاجئ"، نهاية المرحلة الجامعية، أحببت فتاةً وبطبيعة الفترة العمرية قررتُ أن أتزوجها بمجرد التخرج، وقبل حدوث ذلك فاجأتني "بحبك ومش هلاقي زيك بس مش عايزة أكمل"، هكذا دون أسباب.
"رُوعتُ بالفُراق بعد الفراق" كما يقول جبران خليل جبران، ومع الفَقْد تتزينُ العزلةُ في الفؤاد، تُصبحُ استجوابًا للعالم ومساءلةً للكون، "أن تُحب العزلةَ يعني أن تكون قويًا" بوصف الفنان الإيطالي بيير باولو بازوليني. إفصاح عن الرغبة، أشكال مختلفة من الصوت للتعبير عن الذات. ملاذ من ضغوط عالم العمل، ثاني أركان التصوف بعد الصمت، قلاية راهب تغنيه وتستكفيه، سعيٌ لتشييد المملكة الخاصة بالمعتزل بعد أن يُشهر في وجه الجميع "مملكتي ليست في هذا العالم".
لكنّ الفقدَ ليس بتلك الشاعرية، خنجرٌ مثبتٌ في الخاصرة، كلما داهمتكَ الذكرياتُ انغرس أكثر، أو بتعبير الشاعر البحريني قاسم حداد "طارتْ في وجهك غربانٌ وكفَّتْ شمسٌ عنكَ"، ومع الخسارة تصير الذكرى كلابًا مسعورة تعضُّ دفءَ الضُحى.
ذاكرةٌ ملعونةٌ
مرتْ السنواتُ، وفقدتُ أخرياتٍ على نحو مفاجئ، إحداهن قالت بإنجليزية أصيلة "you are amazing"، لكن "بديش أكمِّل". أنا الذي أحبُّ المغامرةَ، أهوى التحدي، أطرقُ في الكتابات النقدية مثلًا استراتيجيات غير مأهولة، أختارُ من النساء التي تمثلُ تحديًا، وأخوض التجربة ليست على طريقة الهجامين، لا "أنتش وأجري"، إنّما أسعى وأؤسس وربما استغرق الأمر سنوات، مع ذلك تطاردني الهواجس.
في الطفولةِ، سافر أبي إلى العراق، وحين عاد، عمل بمعهد بحوث البترول في القاهرة، بينما نسكنُ في أسيوط، ظلّ يزورنا كل أسبوعين، إلى أن قرر لمَّ الشمل في 1998. لكنّي كنتُ ارتبطت بأسيوط وجدي وعميّ، فاقترح الجدُّ أن نبقى معه أنا وشقيقي الأكبر، بينما يبقى في كنف أبي بقية أخوتي، لأفقد الأبَ والأمَ معًا، ومع الألم لا ألومهما، بل أتعاطفُ معهما لأنّهما فقدا ابنيهما أيضًا.
في 2003، تعرفتُ على الصديق الحسيني أبو ضيف، عملنا وآخرون في العمل العام، صرنا صديقين. فجر الخميس 6 ديسمبر/ كانون الأول 2012، يُصاب الحسيني في أحداث الاتحادية، ويتصل بي عمي وراد، الذي لعبَ دورَ الأبَّ في حياتي، ليطمئن على الصديق الذي كان يعرفه، ويخبرني أنه آتٍ في الغد الجمعة ويريد أن يزوره. في ظهيرة الجمعة يصل العمُ منطقة "شق التعبان" في المعادي، تصطدم سيارة طائشة بسيارته، ليرحل شابًا في الخامسة والأربعين. فقدٌ كبيرٌ هذه المرة، العم والصديق.
منذ عامين كافأتني الأيامُ بأن أتعرف على المطرب والملحن أحمد الحجار عن قرب، نجلس في المقهى بالمهندسين، يتواضع كلما كتبت أو تحدثت عن "شغله". صار قريبًا، إلى درجة أنني فكرت أن أتزوج خصيصًا ليغني في فرحي، وكنت متيقنًا من تلبيته. وفجأةً في يناير/ كانون الثاني 2022 يرحل الحجار، ويعلم المقربون حجمَ فجيعتي، بكيتُه كما لو أنني أفقد للمرة الأولى.
العمل أيضًا سلسلةٌ من الفَقد. في 2012 ونحن نعيد تأسيس جريدة البديل، أصلُ ذات صباح لمقر العمل في جاردن سيتي، ليخبرنا رئيسُ التحرير آنذاك خالد البلشي أن الإدارةَ قررتْ تقليص أو إرجاء المشروع. وفي يوليو/ تموز 2017 يستدعيني رئيس التحرير السابق لليوم السابع خالد صلاح، فيظن الزملاء أن ثمةَ ترقيةً في انتظاري، لكنه يخبرني أني مفصول بـ "قرار سيادي"، عملتُ بعدها في 3 مؤسسات أغلق اثنتان منها على نحو مفاجئ ودون سابق إنذار.
الخسارة المفاجئة مع ترديد عبارات من قبيل "أنك الأفضل" جعلتني "أدفش" في علاقاتي وأسعى دون قصد إلى خسارتها
كل هذه الحوادث دفعتْ في اللاوعي أن الجميعَ سيمضي، والوظائفَ ستنتهي، "الكل هيمشي" وإن لم أقلْ ذلك صراحةً لنفسي، تحت تأثير الإحساس بالذات واليقين في الوعي بأني أستحقُ الكثير. لكن الهواجسَ تعملُ في الخفاء على تغذية "قلق التوقع"، إلى الدرجة التي قد تُصدم رئيسة تحرير المنصة نورا يونس، مديرتي الحالية، حين تقرأ أن هاجسَ عدم استمراري في العمل لازمني نهاية العام الماضي، ودون أسباب منطقية أيضًا.
الخسارة المفاجئة مع ترديد عبارات من قبيل "نحبك" أو "أنك الأفضل"، جعلتني "أدفش" في علاقاتي، أسعى دونَ قصدٍ إلى خسارتها، أرتكبُ بعضَ الأخطاء، والخطايا أحيانًا، ليكون للفقد سببٌ مقنعٌ لي على الأقل، طالما سأخسرُ فلن يحدث وأنا "ما فيش زيي بس هم مش عايزين".
علاجك في صوتك
خلال الأسابيع الماضية، تفجر كلُّ ذلك، فقررتُ البدءَ في رحلة علاج نفسية جديدة، والمواظبة على جلسات الثيرابي. وبالتوازي اتصلتُ بأستاذة أمراض نفسية كبيرة في جامعة القاهرة، توقفتْ عن ممارسة العمل، لكنها استمعت لي نحو الساعة، ورحبت بأي مساعدة والبقاء على تواصل، ونصحتني ببعض الممارسات، ومنها الاستفادة من الكتابة وصوتي في الاستشفاء، قالت "علاجك في صوتك".
انهمكتُ في القراءة حتّى أنني أجلتُ مشروع كتاب بدأته بالفعل، ومن بين ما قرأت كتاب الطبيب والصحفي الراحل محمد أبو الغيط "أنا قادم أيها الضوء". وعلى الرغم من شهرة أبي الغيط، وانتمائنا لمحافظة واحدة وتخرجنا في الجامعة نفسها، لم تجمعني به أي لقاءات طوال حياته، أتابعه وأقرأ له، ولا أعلم إن كان سمع بي أصلًا.
كلما أبحرتُ في صفحات الكتاب، أدهشتني صلابةُ ذلك الشاب الذي يصغرني بثلاثة أعوام، يواجه الموتَ بعيونٍ مفتوحةٍ كما أراد أن يعلم ابنه، يعرف كطبيب أن الموتَ قريبٌ جدًا ومع ذلك يريد أن يحيا، أن يعيش الحياة حتى آخر نفس.
واحد أو صفر
في لحظات اكتشاف المرض، بحث أبو الغيط عن نسبة بقاء من هم في حالته أكثر من 5 سنوات، كانت الصدمة أنها لا تزيد عن 8%، فاتصل بأبيه الروحي دكتور حسام عبد الله، غير أن الأخير أخبره "أنتَ مش هتعيش بنسبة 4 أو 8%، ما فيش حاجة كده، إما عايش 100% وإما ميت، فالاحتمال لكل فرد لوحده صفر أو واحد".
لاحقًا، ترحل صديقةُ أبي الغيط "المصابة بسرطان الثدي من المرحلة الثانية، مفترض أنه من أسهل الأنواع وأفضل النسب 90%، لكن ما حدث للأسف هو أنها كانت من الـ10% الذين لا ينجون. بقدر ما يحمل هذا حزنًا بالغًا، فإنه يحمل نظرة. إذا كان يجوز أن يموت من نسبة نجاته 90%، يجوز أن يحيا من نسبته 10%؛ لأنه فعلًا في الحالتين كل فرد النسبة الخاصة به هي: صفر أو واحد، إذًا لا خيار لنا إلا فعل ما بيدنا"٠
واحد أو صفر، تبدو مشكلتي في نظر البعض أهون مما واجه أبو الغيط، لكني أحسبها حسبةً أخرى، تجاوز تأثيرات الفقد المفاجئ "واحد أو صفر"، كما تشبث أبو الغيط "بما استعاده من حياته شبه الطبيعية، ولم يتنازل عنه بإرادته أبدًا"، فلن أتنازل عن الوصول للطبيعية تلك، مهما كان الطريق طويلًا.
طريقة أخرى لتحضير الكعك
"لديَّ الآن هذا الاطمئنان النادر نحو المستقبل. بالطبع لا أمان من غدر الزمان"، يبهرني أبو الغيط بذلك الاطمئنان وهو يواجه الرحيل، فيما يساورني القلقُ وأنا أواجه الهواجس. لذا خرجت من تجربة محمد وكأنني أسمع هاتفه، حقًا وليس هاجسًا، وإن كان كريمًا معي فتحدث بصوتي، كمساعدةٍ في طريق التجاوز، وكما رأتْ المعالجة "صوتك علاجك".
أنهيتُ الكتاب وأنا أقول: يجب أن أفخر قبل أن أخسر، قبل أن أبكي بحرقةٍ على ما فات، يمكن أن أقول لنفسي آسف، فالأسفُ هو الوعدُ بألا أُجرح مرةً أخرى، ألا أفقد البوصلة وأتيه بلا هدى، أن أدبّ بأقدامي على هذه الأرضِ، وأصرخُ في وجه كلّ ما يطاردني "مملكتي في هذا العالم ومنه".
الهواجسُ خيالٌ. لن أسمح للمخاوف أن تطير قريبةً مني، يجب أن يكون هناك شيء يمكنني فعله، فعلٌ يجعلني أسعى نحو الطمأنينة. أبتسمُ الآن وبعمق، فالمسألة مسألة وقت، ومؤكد أني أعرفُ طريقةً للفرح، ومقدارَ صناعة الكعك، وتحضيرَ العطور، وبعضَ المناكفات لتسلية الضيوف، وخزَّ عيون الشياطين، ووصفةً لقتل الملل وتجديدَ اشتراك الموبايل. كلّ الأمورِ ستسير على ما يرام. كلّ ما تبقى لي أن أقول آسف بطريقةٍ صادقةٍ. ومع اعتذار يأتي من الأعماق، سأصنعُ ذات ليلةٍ كعكةً، وسأرسم عليها علامةَ اللا منتهي.
يهشُّ الشياطين
مضى أبو الغيط لضوئه مطمئنًا للحب الذي يرسله "بعيون كلّ ذلك الكون الفسيح الجميل"، إلى زوجته إسراء وابنه يحيى الذي أشاركه يومَ عيد الميلاد ذاته، 26 أغسطس/ آب، ودون أن يعلم ذاك الطبيبُ أن تجربته تنير الطريقَ لأحدهم، وتساعده في هشّ الهواجس والشياطين التي تسكن الدروب بحجارةٍ من نور.