
نساء آل عبد الستار.. قصتان أو ثلاثة عن الأمومة والبنوة وخيط الذنب
الأم المهاجرة
أرى في عربات قطار المترو أمهات في النصف الأول من عشريناتهن على الأرجح، مع رضعهن. أُلاعب الأطفال، أُلاطف الأمهات، أبتسم للمجاورات لهن. ولا أفكر أن هذه الشابة من عمري.
أنجبتني ماما وهي في الثالثة والعشرين من عمرها قبل اقتناء أول سيارة لها، فاعتمَدَت على المواصلات العامة -المترو والترام تحديدًا- في رحلات تطعيماتي ومتابعاتنا الطبية. تحكي لي أنني كنت رضيعةً وسيمةً وقوية الشخصية، لكن خجولة. قبلها كنت جنينًا مقلوبًا، نصح الطبيب أن يولد قيصريًا وحدد موعدًا بالفعل، لكنني خالفته الرأي، وأتيت في ليلة صيفية معتدلة الرطوبة عام 2001. لا يعرف أحد ما الذي شقلب حالي -كجنين- بين الليل وضحاه، لكني أعرف أني لم أرد شق بطن ماما إلى نصفين.
أنجبتني ماما وهي في الثالثة والعشرين من عمرها قبل اقتناء أول بيت لنا، فعشنا مع جدتي بعد إتمام طلاقها رسميًا. وفي جولاتنا الصحية، أَحبَّ الناسُ في المترو ملاطفةَ أمي وجدتي ومداعبتي، لكنني كنت أختبئ فورًا في حضن أمي. تستمر ماما في الحكي، تحكي لي عن ميولي الاستقلالية المبكرة؛ كيف تخليتُ عن البامبرز دون مجهود منها، كيف تخليت عن نهدها منبع الحليب الخيِّر مُسلّمةً تمامًا بحتمية الفطام، كيف شبيت ثم خطوت دون نطق حرف واحد. وصفتني بـ"الرضيعة المثالية". عفيّة لا أمرض، طيبة لم أشق بطنها، مستقلة أنجح في محاولاتي الأولى، هادئة لا أشتكي. سهَّلتُ عليها أمومتها، ولاطفت ضميرها لتشقَّ طريقها المهني.
أرى في كلَّ أمٍّ في المترو؛ شابةٍ، مهاجرةٍ، عازبةٍ، أمي
أنجبتني ماما وهي في الثالثة والعشرين من عمرها قبل خوض أي تجربة مهنية. فطمتني ثم وُظِّفت، وأصبحت تيتا الرسول بيننا. أكاد أَجزم أنني عرفت رحيل أمي في عمر السنتين. صرتُ عنيدة أزعم معرفة الطريق لكل شيء، أختبئ في أركان المنزل؛ بين أرجل الصالون المُذهب تارة وخلف الدولاب تارة، أُنقب عن أعقاب سجائر أخوالي، تلك الفلاتر البيضاء المصفرة، وأمضغها. تأخرتُ في الكلام حتى ناديتُ تيتا "ماما". صحيح أن تيتا تنقل لها الأخبار أولًا بأول، لكنها احتفظت بهذا الخبر لنفسها.
بعد ما يزيد عن عشرين عامًا، ومنذ حوالي ثلاثة أشهر، انطلقت من معمل "أنثروبولوجي بالعربي" ورشة "الذنب والنجاة"، مستضيفةً الكاتبة شيرين أبو النجا في جلسة بعنوان "الذنب والأمومة". تحدَّثت شيرين عن أصناف الأمهات، وفي ضوء تصنيفاتها المختصرة وقعت ماما تحت مظلة الأمهات المهاجرات، مثل الفلبينيات والإفريقيات. الأمهات اللاتي يسافرن للعمل في بلاد أخرى ويرسلن الأموال للأم البديلة القائمة على رعاية أطفالها في وطنهم الأصلي. في هذا السيناريو تُعد تيتا هي أمي البديلة التي لم أخطئ في مناداتها ماما.
ولذلك، أرى في كلّ أمٍّ في المترو؛ شابة، مهاجرة، عازبة، أمي.
ابنة غاضبة لأم غائبة
سألت ماما مؤخرًا عن طبيعة حملها فيّ. هل أرادتني حقًا؟ هل اتخذت قرار الإنجاب بوعي؟ لم أتوقع "نعم" كإجابة. ردت "حبيت أبوكي، وكان نفسي أبقى أم. لما زادت الخلافات معاه، مافكرتش أخلف تاني".
تزوجت أمي عن قصة حب ملحمية، وطُلقت أيضًا بعد ملحمة في محكمة الأسرة عام 2003 أي بعد ميلادي بعامين فقط. يخبرني محرك جوجل أن "الملحمة" هي قصيدة شعرية طويلة تصف أحداثًا بطولية أو أسطورية، وغالبًا ما تتناول تاريخ أو قصة شعب من الشعوب. إذن، الأحداث الملحمية تشير إلى أحداث تتسم بالبطولة والشجاعة والأهمية.
صارت ماما أول ست مطلقة رسميًا في عائلتنا بعد أن اعتادت نساء آل عبد الستار (عائلة أمي) الانفصال الصوري غير الرسمي، حفاظًا على الصورة الاجتماعية. لا أتصور وسم "مطلقة" مع ابنة الأربعة والعشرين عامًا، لكنه بالتأكيد حدث ملحمي.
قابَلَت ماما الضريبة الاجتماعية -الخفية- للطلاق. إنها ضريبة كسر الحدود -كما تصفها شيرين أبو النجا- المرسومة بعناية للنساء. فكان مبدأ الطلاق وحده إعلان كسر الحدود والخروج عن تقاليد الطبقة المتوسطة. ألا يكفي أننا نعيش في قاع الطبقة المتوسطة؟ الآن صرتِ مطلقة وعاملة. ثم، أصبحت الملحميات بمثابة إرث نتناقله، أو طريقة نحب بعضنا البعض بواسطتها. إنها كثافة حسية أقرب إلى حجرين متقابلين في سرعة وضغط شديد لإشعال شرارة.
هذه الملحمة الضريبية هي إرثي، وبمشاركة إرث بهذا الثقل، تفكك العبء إلى فتافيت وُزِّعت بين نساء آل عبد الستار. توزع العبء علينا؛ أمي وخالتي وجدتي وأنا، وكَسْت بعض الفتافيت مشاعر الخزي والذنب، الغضب والكراهية.
أعي أننا لا نحمل كل الملحميات بالفخر ذاته كما أعلم أن شعوري يتغير تجاه نفس الملحمة من فترة لأخرى. على سبيل المثال؛ واجهتني معالجتي النفسية منذ عامين بأن استقلاليتي، كوني "الطفلة المثالية" على مدار طفولتي، ليس إلا خوفًا مقنَّعًا من الفشل، من الخذلان. خوف ناجم عن الإهمال الأبوي الذي تعرضت له. قالتها ببساطة كأنني دارية بالإهمال الذي أصابني، وفجأة تبدلت مشاعري نحو هويتي المستقلة التي تخفّيت تحتها بنجاح، واستشعرت القناع.
هددتني أمي في إحدى المشاجرات بأنها ستعيدني لأبي مثل أي منتج بايظ
في علم النفس، ما حدث لي "إهمال عاطفي". يُشخِّص انشغال أمي عني، الناجم عن احتياج مادي صريح، إهمالًا عاطفيًا، لكنه في الوقت ذاته تشخيص قائم على نسخة علم النفس الموجهة نحو الإنسان الأبيض ذي الاحتياجات الأساسية المُلباة، والرفاهيات اللانهائية.
قبل هذه المواجهة كنت شديدة الفخر باستقلالي، بقوتي وطبعي القيادي. لم أكرهه بعد هذه المواجهة، لكنني تبعتُ مصدره، حفرت بحثًا عن جذر الخوف، ثم قلَّمته. نفضت الخزي والذنب والغضب عن نصيبي من الفتافيت. وتبدل استيعابي للأمور. فأعي الآن أنه مع رحيل أبي، وعودة أمي إلى العمل، تحولت ماما إلى رب الأسرة ورجل المنزل رسميًا. وتُركتُ حينها بلا أسرة نووية، فقامت جدتي وخالتي على رعايتي. هذا ما جذَّر غضبي نحو والدتي؛ لأنه بدا لي، كطفلة، أنها لم تُردني.
باتت غريبة عني حيث اقتصر لقاؤنا خلال عطلات نهاية الأسبوع، لأنها تعمل ساعات طويلة وتعود إلى البيت على ميعاد النوم. وبالتالي، قصُرت المحادثات بيننا. من الغريب أنها حمَّلتني مسؤولية مشكلة التواصل بيننا، ملقيةً عليَّ اللوم لأني لا أُهاتفها في العمل. مع تنامي مشاكل التواصل بيننا، وتنامي غضب المراهقة التي كنتُ عليها وغيرها من مشاعر حادة يأتي بها زلزال النمو، هددتني -في إحدى المشاجرات- بأنها ستعيدني لأبي.
هتكلم شركة الشحن وترجعني -المنتج البايظ- لأبي، مثل أي جهاز كهربائي إضافي في ركن الصالة، إذا تزايدت أعطاله عن المفترض، تُعيده إلى المصنع أو تستبدل به "واحد جديد نوڤي".
يتراوح العمر الافتراضي للأجهزة الكهربائية من سبع إلى تسع سنوات. علمًا بأن أمي تسلمتني من جدتي (المصنع البديل) فور بلوغي التاسعة، كانت هي في الثالثة والثلاثين. وبعد بلوغي السادسة عشرة أرادت إرجاع المنتج إلى أبي. صفقة خسرانة إن سألتني عن رأيي.
طبعًا لم أجرؤ على سؤالها حينها: هل تريدينني حقًا؟ هل اتخذتِ قرار الإنجاب بوعي؟ لكنه كل ما شغل خاطري في تلك اللحظة.
ابنة بدون أم
صنعت شيرين أبو النجا آلة شبيهة بآلة الزمن وسمتها "آلة العبور"، وهي الآلة التي تُعين النساء على تجاوز الحدود المرسومة لهن، مثل حدود الطبقة والدين والمكان والزمان. قارَنَت -في الفصل الأول من كتابها- الحدود المرسومة لكاتبتين من القرن العشرين، سيمون دو بوفوار وفاطمة المرنيسي، من الطفولة حتى التحرر. عاشت الأولى حبيسة المجتمع الكنسي، والثانية حبيسة مجتمع الحريم، وكلاهما مجتمعات تحد حركة وإنتاج النساء خارج منازلهن.
أما في الـ2007، فحدود طفولتي تشكلت في مساحةٍ بين المتعارف عليه اجتماعيًا والمقبول شكلًا. لم تسمح لي ستي باللعب في الشارع مع أطفال البيت والعمارات المجاورة، رغم مناصرتها -أمامهم- خطاب الجيرة الحسنة. سُنَّ القانون كالآتي؛ إذا أرادوا اللعب معكِ، فليأتوا إلى منزلك.
مكبلةً بالذنب، أخذت ستيّ على عاتقها مهمة تسليتي وتضميد الفراغ داخل أسرتي النووية. أخذتني إلى الأقارب الذين يربون أطفالًا من سني لألعب معهم تحت عينها التي تراقب وهي مغطاة بالمياه البيضاء والزرقاء. وحين تلاشت دائرة المعارف حلقة تلو أخرى، أخذتني إلى الحدائق العامة وتعرفت على أسر الترابيزات المجاورة، الأسر التي بَدَت لها ودودة وملائمة طبقيًا وثقافيًا، وصنعت صداقات بالنيابة عني مع أولادهم، ولعبتُ معهم.
تربيت في تلك المساحة، وسط أبناء الأقارب والجيران والمعارف، لعبت في الحوش المبلط البارد لبيوت العائلة، بلاطة باللون الأزرق تجاور بلاطة باللون البرتقالي. ادّعيتُ اللعب، واسترقت السمع إلى أحاديث الخالات الشعبيات على المصطبة، الخالات والعمات اللاتي يشغل حديثهن العيب والمقبول عرفيًا أكثر من الصح والمفيد والخاطئ والضار. أقبلت الجارات والأقارب، خلال جلسات السمر، على المساهمة في تربيتي، فينقلن لي العادات والتقاليد العرفية، ويشرفن عليّ حتى أتتلمذ.
تربيت في المساحة التي رسمت لي حدودي المكانية، المساحة المؤسسة على المحاذير والممنوعات، حتى أصبح البقاء داخل الحدود فعلًا تنافسيًا من أجل الحصول على لقب الفتاة المثالية تمامًا كحال أبو النجا ودو بوفوار والمرنيسي. كنتُ رضيعة وطفلة مثالية، تلميذة نجيبة محافظة على اللقب من اللفة حتى بداية المراهقة.
ثم تبدل شيء فيّ بين الليل وضحاه للمرة الثانية. أصبحت أشعر أنني غريبة عنهم، أرفض عادات الحارة وتقاليدها دون سبب واضح، طرحتُ "لماذا" بعد كل قاعدة، جادلتُ تناقض مبادئهم. وفي تلك اللحظة، دق جرس الإنذار محذرًا من أن فمي يلفظ بأكثر من الحاضر والنعم. أَخذَت أسئلتي الطفولية مسارات عبور تكشف التناقضات الكامنة في التربية الذكورية المفروضة، حتى ارتأيتُ من خلالها -الأسئلة الطفولية- ثغرات العبور.
صرت ابنة بدون أم كأنني أُيتّم مرة كل صيف ثم انقلب اليُتم غضبًا
أما على البر الموازي، أمسى السبب واضحًا بالنسبة لهن، حيث صارت حدوتة انفصال أمي عن أبي مربط الفرس، أي عيب أو خطأ فيّ يُعلَّق على شماعة طلاقهما. دفعتُ مع أمي ضريبة الطلاق رغم أنني لم أشارك في القرار. تبعتني عبارات "لو لم يطلق والداها لما شبت طويلة اللسان"، و"لو كان أبوها حاضرًا معها أكثر لروض شيطانها". تخيل؟ طفلة لها شيطان، غير أي شيطان، شيطان ثرثار.
صحيح أنني تمردت بالفطرة، وبتحريض من الأفلام الأمريكية التي جعلت كل شيء يبدو ممكنًا، إلا أنني دفعت ثمن تمردي غاليًا. في كل مرة رفضتُ أمومةَ خالةٍ هنا أو عمةٍ هناك، لفظتني عن حجرها كي لا أبخ سمي في آذان بناتها. تفسر شيرين أبو النجا هذا التحول كالآتي "ينبع السؤال دائمًا من قلب التناقضات، فيسعى العقل إلى الفهم عبر محاولة تنسيق المتناقض عبر القبول الصامت أولًا، ثم تأتي الخطوة التالية التي تُعلن عن مواجهة صريحة".
صرت ابنة بدون أم كأنني أُيتّم مرة كل صيف. ثم انقلب اليُتم غضبًا. تصف شيرين هذه المرحلة بالانسلاخ عن الأم، وهو أشبه بعملية فطام قسري مؤلم. دفعني ألم اليُتم، أو الانسلاخ عن الأمهات البديلات المتتاليات، إلى رفع محاكمة شعورية ضد أمي الحقيقية/البيولوجية. لم أغضب صارخة في وجهها. إنه الغضب الآخر، الغضب المبطن، الذي ينعكس على الطفل نحو ذاته.
كَمَنَتْ صعوبة رحلة عبور سيمون دو بوفوار في أضلاع المثلث؛ أمها المُرسِّبة للسلطة الأبوية والدين والطبقة، "فتجاوز الأم يعني الشعور بالنبذ والانفصال العنيف، تجاوز الدين يعني الشعور بالإثم وتلقي الرفض من المجتمع، أما تجاوز الطبقة فهو ما عُدَّ في فرنسا العشرينيات علامة على الجنون". على نفس المنوال، نما لدي شعور دفين بالذنب لا أستطيع تتبع عمقه، كما رُسِّخ فيّ أنني ابنة غير صالحة لأم غير صالحة أيضًا. تمنيت أن تنال ماما شطرًا من أمومة الخالات. وعلى مدار مراهقتي، أنّبَتُها على فشلها في تحقيق نموذج الأمومة القديسة التي قننها العرف.
تجاوزَتْ الأعراف حدود المصاطب الباردة، فانتقلَتْ معي طبقيًا إلى مدرستي وبيتي الجديدَيْن، وانتقل معنا منبر المحكمة المنصوبة لأمي. كانت أمًا عاملة بعكس أمهات صاحباتي في المدرسة، طباخة فاشلة تحرق صدور البانيه في بداية الأسبوع وتباشر وصلة طلبات الدليفري من منتصف الأسبوع، لا تعدُّ لي سندوتشات المدرسة، ترفض الاشتراك لي في النوادي ورحلات الملاهي ومسرحيات المدرسة لأنها لا تستطيع توصيلي وانتظاري حتى أنتهي. باختصار، إنها أم غائبة، لها كيان في غير حضوري، أو بمعنى أصح، حضورها يتضمن غيابي، عكس أسطورة الأمومة المروج لها.
بمرور السنين، بدت لي ماما كأنها فاقدة غريزة الأمومة كليًا. لا أمل فيها. لا أمل فيّ.
سقطت بنوتي بالتبعية.
أم لكلب وقطة وربما رضيع
أعتقد أنني لا أصلح أمًا. أُجهد أحيانًا من رعاية قطتي ذات الخمس سنوات.
فضَّلت الكلاب عن القطط طوال عمري، وفي شتوية 2015 ربيت كلبًا في منزلي. سرعان ما عرفت أن الكلاب أطفال صغيرة متطلبة بشدّة، وأن نموها لا يتضمن الانفصال العاطفي عن أصحابها أبدًا، بل يتزايد مع الزمن. يكتئب الكلب إذا غبت عنه خارج المنزل ويتصاعد مستوى العقاب طرديًا من مدة غيابك. فكنت أعود من مدرستي لأجده قطَّع الدُمى انتقامًا مني. وإذا ذهبت إلى دروسي دون الرجوع إلى البيت أولًا، يمزق كيس الزبالة وينثر أحشاءه في كل أركان الصالة. صحيح أنه لا يستطيع الصياح باكيًا كالرضيع، لكنه مضغ أحذيتي حتى تلفت. بالإضافة إلى ما ترتب على غيابي في عطلات نهاية الأسبوع، من لفائف ضخمة من الخراء في استقبالي أمام باب البيت مباشرة. ده جَزَاتي.
ثم أدركتُ، مع سقوط أوراق الشجر المصحوبة برياح خماسينية، أنني أمٌ فاشلة. تصورت في البداية أن كلبي اللؤلؤي "بوتشي" يحتاجني لأنه يوازي عمر الرضيع، ومع الوقت سيكبر ويستقل بذاته. ظل ينمو حجمًا، وشقاوته تزيد معه، ويتعلق بي أكثر فأكثر، وما أنا إلا مراهقة دون الخامسة عشرة لي مدرستي وأصحابي وعالمي الخاص بي.
دون أي تحذير مسبق، ظللت هذا العالم سحابةٌ سوداءٌ كبلتني في سريري معظم الوقت. توقفت عن الذهاب إلى المدرسة، بل عن الخروج من غرفتي. أُوصِدُ بابي بالقفل وأتجاهل نباح بوتشي. مع إصراره ونباحه اللانهائي، راودتني لمحات من طفولتي حين تُركت دون تهدئة أو مواساة، أو نفيّتُ خارجًا لأبكي بمفردي والعار يملؤني. تخللني ذنبٌ رهيب مع صحوة ضميرية تكاد تكون تطهرية، ألا أتركه يبكي على عتبة بابي، وألا أعيد دورة الإهمال.
أعاود القراءة فتقاطعني ماما وقد دفست وجهها بين صفحاتي: بتقولي بقى مش ناوية تخلفي؟
أتساءل عن مرجعية الأمومة متبعة خطى إيمان مرسال في كتابها كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها "يبدو أن التفكير في الأمومة يستدعي النظر في اللحظة نفسها إلى اتجاهين مختلفين؛ اتجاه الماضي عندما كنت ابنة لأم، واتجاه المستقبل عندما أصبحت أمًا لطفل. لا أعرف بأي طريقة تشكل البنوة أمومتنا، لكن بمقدوري أن أتخيل استحالة تحييدها أو تفاديها". تعلمت البكاء في مأمن عنهم، لكن نحيب كلبي على عتبة الباب أثار فيّ الكثير من الذنب والألم حتى نفضت عني الحزن -والكوفرتة النبيتي- الذي عجزت عن اتباع مصدره، وفتحت القفل.
ثم أتت الصيفية، وانتهت الصيفية، وأنا لا أزال على سريري. أحيانًا أخرج إلى الصالة، أحتضن بوتشي ونشاهد فيلمًا. في هذه الأوقات، لوحظت الجروح الخطية في يدي، نقصان وزني ووزنه. وصفت تيتا، خلال إحدى زيارتها التي تداري سببها الحقيقي بـ"وحشتيني" أو "جيت أخد بحسك"، غرفتي بالمقبرة، وقهقهت. مزحة بلا طعم. غير مضحكة بالمرة. أَخفى بوتشي فردة شبشبها إثرها. ومع انتقال تيتا المؤقت معنا، انشغل معها بوتشي، واستلقيت في سريري مجددًا.
رفع تجاهلي له وعجزي عن تلبية احتياجاته العاطفية علامة استفهام لدى والدتي. وفي محاولة شبه صادقة، نادت عليّ وطلبت مني أن أتخذها صديقة وأفصح لها عما في قلبي، مؤكدة أن ما أمر به أمرٌ عادي للغاية، تمر به كل البنات. "دي هرمونات المراهقة"، بررت لي الأمر. ثم خرجنا لتمشية بوتشي.
الكلاب اللولو ذات كبرياء عالٍ. يُشاكلون الكلاب الأكبر حجمًا كجزء من معادلة نفسية لتعويض النقص الذي يشعرون به. في نفس الليلة، طارد بوتشي الكلاب البلدي في شارعنا، انقطع نَفَسي وأنا ألاحقه حتى غطى الطين بنطلوني وجزمتي. ضحكت ماما على المشهد بشدة قائلة "عاملي فيها دكر وهو ميمي". شعرت بالغيظ منها. مسكينة! لا تدرك حقيقة الموقف. وشعرت لحظتها بالتقصير نحوه لدرجة أنه يريد الهروب مني.
لا. توقفي. أنا لست أمًا سيئة لهذا الحد. سأنزل لتمشيته مرة كل يوم على الأقل.
تساءلتُ العام الماضي إذا كنت أكثر عرضة لاكتئاب ما بعد الولادة بسبب تاريخ صحتي النفسية، علمًا بأنني الآن أمٌ مخلصة لقطة مشمشية تبنيتها وعمرها ثلاثة شهور. مع ذلك، حبي وتخصصي في سيكولوجية الأطفال يفرض عليّ حتمية الأمومة، لكنني أرفضها.
ودعت بوتشي منذ ثماني سنوات إن لم تخني ذاكرتي. لم أكن أمًا جيدة له. خرجنا مرة في الأسبوع، وأحيانًا في الشهر، عرضته للتبني وطلبه مني كوافير أمي. وافقت على عرضه لأنه صاحب بيت حميمي، صاخب، بجنينة خاصة. لن يشعر الكلب اللولي فيه بالملل.
أقرأ في كتاب رحم العالم: أمومة عابرة للحدود، بجوار أمي على فراشها وجوجو قطتي تتوسطنا. أتوقف عن القراءة لأقسم لها حبة الفول السوداني إلى نصفين، ثم أعاود القراءة، فتقاطعني ماما وقد دفست وجهها بين صفحاتي: بتقولي مش ناوية بقى تخلفي؟
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.