
حوار| نبيل القط وقصة الطب النفسي في مصر من التسعينيات
قابلت الطبيب النفسي نبيل القط، الذي صار صديقي فيما بعد، للمرة الأولى في التسعينيات. كنت وقتها مُحمَّلًا بإرث الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن السلطة ومؤسسات العقاب بأنواعها المباشرة والرمزية، وتمثّلاتها في المجتمع؛ من السجن إلى المدرسة، وصولًا للطب النفسي وتفسيره الثوري والجذاب للجنون أو المرض النفسي بأنه مُنتَج ثقافي يخضع للسياق السلطوي الذي نشأ فيه، وليس حتميًا كما رآه سيجموند فرويد.
كنت منحازًا لأي تصور ضد أي حتمية، خاصة ذلك الاتجاه المناهض للطب الفرويدي الذي بدأ في أوروبا مع ثورة 1968، وناهض أي سلطة يصنف بها العقل البشري. كان الجنون وسيلة ناجعة أكثر من التمرد لمعاداة سلطة المجتمع "صاحب المقاييس الموحدة للإنسان ذي البعد الواحد" كما يذهب كلود كيتيل في كتابه "تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا"، وبالتالي يكون "تحريم الجنون مرتبطًا بتحريم التفرد". التفرد كان أحد امتيازات هذا الوعي، الذي كان ضعيفًا قياسًا بقوة المجتمع وتشكلاته الأخرى.
كنت فَرِحًا بالمكانة التي وصل إليها الجنون، خاصة تلك الحرية التي يعيش فيها الإنسان بلا قناع، كما يقول سيوران بحثًا عن الاتساق بين الداخل والخارج "نحن نتحصن خلف وجوهنا، أما المجنون فيخونه وجهه، فبعدما فقد قناعه، أصبح يعلن عن فزعه ورعبه". ولكن للأسف هذا الاعتقاد بالحرية أو البوح، كان يشكل لحظة مؤقتة في التاريخ الحديث، لم يستمر الفرح بها طويلًا، وهذا ما ستؤكده الأيام والتحولات في ما تلى من عقود " الاعتقاد بأنه في وجود الحرية سيختفي الجنون هو اعتقاد خاطئ".
المثقفون والطب النفسي
بالنسبة لي، مَثَّل نبيل في اللقاء القديم الذي جمعنا السلطة النفسية للمجتمع، لذا كان أصريت آنذاك على تثبيت الاتهام عليه، رغم اتفاقه معي في التفسير الثوري للمرض النفسي.
حاولت تذكيره بذلك في مناقشة دارت بيننا قبل أيام، ولكن لم يتذكر. غير أن ما حفظته ذاكرته من تلك الفترة هو نفورهم كأطباء مثقفين من التشخيصات النفسية التي تختزل الإنسان في عنوان، وأيضًا نفورهم من سلطة الطبيب النفسي بوصفه ممثل الدولة أو المجتمع. هذه السلطة التي تطورت وبسطت سيطرتها على الجسد، ثم الأفكار، وصولًا للسلطة على النفس. "لكن هذه النظرة تغيرت الآن"، كما يقول نبيل القط.
بالنسبة لي كان مجتمع القاهرة الثقافي في التسعينيات قريبًا جدًا من مجتمع الطب النفسي ونجومه في ذلك الوقت باختلاف مدارسهم؛ يحيي الرخاوي ومحمد شعلان وأحمد عكاشة، الذين كانوا حاضرين بنظرياتهم وتجاربهم في النقاشات والسهرات. بالإضافة إلى أن أغلب هذه الجماعة الثقافية كانوا ضحايا أحلام كبيرة انتهى زمنها بعد انحسار الماركسية.
يفسر نبيل سبب هذا التقارب، ويرجعه لمنفعة متبادلة بين الطرفين؛ "في التسعينيات كان المثقف يتقرب من الأطباء النفسيين لمزيد من العمق في فهم نفسه والعالم، وكان الطبيب النفسي ينظر للمرضي من خلال وجهة نظر ثقافية أو فلسفية تحاول أن تحررهم من قيود المرض المرتبط بالسلطة. ربما حصل التقارب حول العلاقة بالسلطة أو الرغبة العميقة في التحرر، فالمرض النفسي مدخل إلى استكشاف هذا العالم العميق للإنسان، سواء الوعي أو اللاوعي، الذي نرى من خلاله أشباحنا أو أبطالنا على مر التاريخ الإنساني برأي كارل يونج".
في هذه الفترة كان شعلان والرخاوي يتبعان، كما أوضح نبيل، اتجاه التحليل النفسي، باختلاف طريقة ممارسة كل منهما له سواء على مستوى العلاج الشخصي أو الجماعي. بينما على الجانب الآخر كان هناك الاتجاه الدوائي، ويمثله عكاشة، الذي يرى أن الطب النفسي اختراع فاشل من أصله، سوف ينتهي بأن يكون فصلًا صغيرًا في كتاب علم الأعصاب.
تحولات الطب النفسي
تداخلت رحلة نبيل القط المهنية مع تحولات وتطورات الطب النفسي الحديث، وتنوّع طرق العلاج. ربما كانت التحولات العالمية تصل متأخرة بعض الشيء، فتبسط الطرق القديمة نفوذها، ولكن آجلًا أو عاجلًا، سيحدث الصدام.
"في التسعينيات كنا بنشوف المرض النفسي مش مرض سريري، ولكن معنى مضطرب، أو معنى إبداعي للوجود الإنساني، وإنه مرحلة فارقة في حياة الفرد، إما أن يكون شخصًا عاديًا أو مبدعًا. فأصبح الطب النفسي مثل شباك مفتوح على داخل نفس البني آدم، عشان يبدع أو يعيد تكوين نفسه برؤية إبداعية واسعة. فالمرض النفسي، تبعًا لهذه النظرية، يعيد تسمية الأشياء وعلاقة الإنسان بها، فعندما نمرض نفسيًا لا نرى الأشياء كما كانت قبلها".
كان سيجموند فرويد أحد الآباء المؤسسين للطب النفسي برؤيته الثقافية الفلسفية للمرض، وانضم إليه العالم الفرنسي جاك لاكان. ثم جاءت نظريات فوكو حول إنتاج السلطة، الذي أشار إلى أن المرض النفسي عبارة عن "منتج ثقافي"، ثم جاءت حركة مناهضة الطب النفسي في الستينيات، التي كانت غايتها تحرير الإنسان من السلطة وهي ترى "المرض النفسي محاولة لخرق هذه السلطة أو وسيلة التمرد عليها".
تعتبر مرحلة التسعينيات، كما يرى نبيل، امتدادًا لمدرسة التحليل النفسي لفرويد ابن القرن التاسع عشر، قرن النظريات الكبرى الذي كان يبحث أيضًا عن نظرية كبرى على شاكلة النظريات المعاصرة له، كالماركسية، أو الميكانيكا، أو النسبية.
أكتر ظاهرة أزعجتني هي علاج المدمنين، كنا كأطباء نفسيين نعاني من فشل رهيب في نسب شفائهم
من أجل هذه الرؤية الكلية لم يلتفت للتفاصيل الصغيرة التي تخص المريض "ماكانش مشغول بالمرضى النفسيين، عشان كده كانت رؤيته للإنسان كلية ومختزلة. الخبرة المرضية المباشرة مش هي القضية بالنسبة له، ولكن معنى الخبرة. مثلًا يقولك عقدة أوديب، عقدة إلكترا، التوتم والطابو، كلها مصطلحات كلية جاية من ميثولوجيات لا تخص مريض بعينه".
امتد هذا المنهج الكلي عبر القرن العشرين، وأثَّر في فلاسفة وفنانين وكتاب خاصة السرياليين. وأصبح بدوره المعيار الرئيسي في الطب النفسي وممارسته في قاهرة التسعينيات ومجتمعها الثقافي، ما بين المدرسة الفرويدية الحتمية، ونقيضها الممثل في موجة مناهضة الطب النفسي.
داخل إطار هذا المنهج، حتى التسعينيات، كان نبيل يرى المرض النفسي "باعتباره فرصة للنمو، وإعادة اكتشاف الذات ورؤية الواقع بشكل مختلف. ربما في الغرب كان عام 1973 تحديدًا فارقًا في مفهوم الطب النفسي بسبب الطبيب النفسي وفيلسوف الوجودية الكبير كارل ياسبرز، وآخرين".
المريض وليس معنى المرض
غيّر كارل ياسبرز زاوية النظر من المرض إلى صاحبه، وبذلك أصبحت هناك نسبية في التشخيص. ربما حمل أملًا في المستقبل جعله يمنح الإنسان إرادة لتغيير حياته، أكثر من حتمية فرويد. ألّف كتابًا عام 1913 وسماه علم الأمراض النفسية/General Psychopathology، معتمدًا على انحيازه للنظرية الوجودية "إن إحنا اتوجدنا في الحياة أولًا، وإحنا اللي بنعمل أنفسنا بعد كده. وأن ما يخصنا ليس معنى المرض النفسي، وإنما ما يشعر به المريض" يشرح نبيل.
ويواصل "ياسبرز وجَّه نظر الأطباء إلى أن خبرة المريض هي الأصل وتحتاج للانتباه، وانتقد فرويد لأنه مهموم بالاستنتاجات والمعنى الميثولوجي وهي ليست وظيفة الأطباء النفسيين، ليس من حقهم الاستنتاج، الحق الوحيد لهم إنهم يبنوا تشخيصهم على أعراض المريض عشان يكون تصورهم على أرض صلبة".
في الكتاب يحلل ياسبرز الأعراض النفسية، ويقسمها هي وأنواع الاضطرابات. هذا التقسيم أصبح مرشدًا لأي طبيب نفسي "مينفعش طبيب نفسي النهارده يقعد قدام مريض وما يلاحظش اضطراب التفكير عامل إزاي، أو اضطراب الإحساس عامل إزاي، أو، أو... كل الحاجات المبدئية دي ممكن تؤدي إلى تشخيص أدق".
لم يترجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية إلا عام 1963. وخلال عقد من الزمن بدأ تأثيره يظهر في أوروبا، وأحدث تغييرًا شاملًا في رؤى الأطباء النفسيين وطريقة التشخيص.
أما بالنسبة لمصر، فكان منهج التحليل النفسي باسطًا نفوذه، وربما استسلم مجتمع الطب النفسي لحتمية فرويد بسبب علاقة تجمعها بأنظمة الحكم السلطوية آنذاك. فسيطرة نظرية ما لفترة من الزمن لا يعود فقط لقوتها، ولكن ربما لتوافقها مع نسيج عواطف ومشاعر المجتمع. ربما حدث تواطؤ خفي بين العلاج والمرض والمجتمع.
لم أصرح بشكوكي تلك لنبيل، الذي عاد بي إلى لحظة مرجعية وهي حركة مناهضة الطب النفسي في الستينيات، التي كان لها الفضل في زحزحة نفوذ فرويد في السبعينيات وما بعدها في مصر، وليس كتاب ياسبرز بمفرده. وأضاف نقطة مهمة تخص السلطة، وتخص سيولة التسعينيات وتفكك الأيديولوجيات الكبرى.
وربما بهذا المعنى كان منهج التحليل النفسي بالنسبة لي مجازًا من هذه الأيدولوجيات. ففي التسعينيات بدأتُ أيضًا كتابة الشعر، وكنت أتجنب الرؤى الكلية التي لا تخصني كإنسان، وأبحث عن التفاصيل التي تعنيني بشكل شخصي. وهي نفس الفترة الني قابلت فيها نبيل، وكان يعمل في مستشفى الدكتور الرخاوي وسط مساحات غموض المرض النفسي، وفي نفس الفترة أيضًا تفكك الاتحاد السوفيتي ليبدأ عصر السيولة السياسية.
الكلية والتجزيئية
في تلك الفترة المضطربة كان اليأس أو التشوش، وبالطبع التساؤل، من عوامل التنوير. جميعها تحاصر النفس لتبحث عن إجابات جديدة تُشبع حجم قلق النفس المتزايد "وقتها كنت منغمس جدًا جدًا جدًا في وجهة النظر التحليلية الفرويدية، أو نقدر نقول الطريقة الرخاوية، ولكن كان عندي ملاحظات أو شكوك مهمة لأن المرضى ما بيخفّوش، ونسبة التعافي بسيطة".
وكأن كل نظرية لها أعراض مرضية تمر بها وتظهر عليها، كان العرض الأساسي، بالنسبة لنبيل، عدم شفاء المرضى الذين يعالجهم. فبدأ يعيد مراجعة السياق الذي أوجد هذا العطب "كنا نتكلم في الثقافة والفلسفة أكثر مما نتكلم كأطباء نفسيين. عملنا في المستشفى كل الحاجات الممكنة مع المرضى، ورغم كده ما بيخفُّوش، كنا بنبذل مجهود رهيب في ممارسة الرياضة، أو عقد جلسات العلاج الجماعي في المياه، أو نرقص ونغني ونرسم ونكتب. وبالرغم من كل ده، مكانتش النتائج زي ما إحنا منتظرين، وبيرجع المرضى ينتكسوا ويرجعوا يدخلوا تاني المستشفى، ياخدوا دوا أو جلسات كهرباء".
كان هناك تفسير لهذه الممارسة التي لا تأتي بالشفاء، ينادي به الأساتذة الكبار آنذاك "ما نأخذه من الطب النفسي هو الخبرة الإنسانية، وإننا محظوظين كأطباء نفسيين أن تتاح لنا الفرصة لمراقبة ورؤية هذه النفس الإنسانية بما لا يتاح لغيرنا من البشر"، ويضيف "كأن الطب النفسي مسألة بحثية أو تأمليّة".
"أكتر ظاهرة أزعجتني وقتها هي علاج المدمنين. كنا بنعاني من فشل رهيب في نسب شفائهم وفي الوقت نفسه كان فيه إصرار على ممارسة التوجه القديم في العلاج".
بعدها سيتم فصل الإدمان عن باقي الأمراض النفسية، عبر رحلة داخل أروقة المستشفى، وداخل النظريات الأمريكية الجديدة مثل طريقة الـ12 خطوة.
اختلف أولاد جيل النظرية الكلية الفرويدية من المرضى في التسعينات وما قبلها عن مرضى أجيال ما بعد الألفية
تقترب هذه الطريقة من الطب المعرفي السلوكي، حيث يتم العلاج داخل إطار من الرؤية الإبداعية الخاصة بالتحليل النفسي الفرويدي. "كانت نتائجه مبهرة"، كما قال. رحب يحيى الرخاوي بهذه الطريقة وبفصل الإدمان عن باقي الأمراض، بعدما كان مترددًا في البداية "لأنه كان مؤمن بأن المرض النفسي متصل وليس منفصل، وأن مينفعش نفصل الأمراض النفسية عن بعضها".
عندما فُصل الإدمان في قسم خاص، نجحت التجربة نجاحًا كبيرًا "بدل ماكنا مش قادرين نعالج 3 مدمنين، أصبح عندنا في القسم 100 مدمن ونسبة التعافي كانت 80%". بدأ مسار تحول أفكاره "ابتديت أراجع قصة التحليل النفسي وفرويد، لأني ماكنتش أعرف أتكلم إلا بلُغتها، فكان لازم أعيد تعليم نفسي وتدريبها على لغة مختلفة عشان أقدر أساعد المرضى بتوعي".
أتت هذه اللغة المختلفة من يأس التعبير باللغة القديمة، أو بسبب اتساع الوعي وهو يبحث عن لغة جديدة تناسب ما طرأ عليه من تساؤل أو يأس أو شكوك يعزي نبيل وجودها لـ"القراءة والمراجعة والإحساس بالعجز، واليأس والخبرة مع المرضى".
أنشئ القسم الجديد عام 1998. وفي مرحلة الإحساس بالفشل قرر نبيل أن يترك الطب النفسي كله، وبالفعل سافر وعمل في الأمم المتحدة في عدة وظائف، وبدأ الاحتكاك مع أطباء من مدارس أخرى، وبالذات في مجال الإدمان، عندما سافر إلى إنجلترا وأمريكا وباكستان. تسع سنوات كانت سنين نضج الوعي المهني الجديد، ثم عاد إلى مصر عام 2007 "ابتديت أشوف الأمور بشكل مختلف، وأشوف الطب النفسي بنظرة جديدة وبمعنى مختلف تمامًا".
بين المجرد والمحسوس
اختلف المرضى أصحاب الذوات السرية، أولاد جيل النظرية الكلية الفرويدية، في التسعينيات وما قبلها، عن المرضى أولاد النظريات الجديدة؛ مرضى أجيال ما بعد الألفية الذين عروا ذواتهم دون خجل وأقبلوا بكثافة على عيادات الأطباء النفسيين. أحيانًا كنت أفسر هذه الظاهرة الجديدة بأنها ترند أو عدوى جماعية، ولكني أعرف أنه تفسير جزئي، وهناك أسباب ربما تمتد لنوع ومعاناة الذوات الجديدة، وأيضًا نوع الأمراض المستحدثة والأساليب الجديدة شديدة التخصص.
يفسر نبيل هذه الظاهرة بأنه "أصبحت هناك تخصصات في الطب النفسي كما في الجراحة. هناك النظرية القديمة لمن يحتاجها، والنظريات والمدارس الجديدة لمن يحتاجها. الأطباء النفسين أصبحوا مش مشغولين بقراءة فرويد وتأمل مرضاهم قد ما هم مشغولين بتعلم الأدوات اللي بتساعدهم وتوفر لهم المساحة الآمنة عشان يتكلموا بحرية".
المساحة الجديدة إذن ليست تماهٍ بين الطبيب والمريض، وليست جدار بارد بينهما. ربما هي مسافة جديدة، يعيد فيها المريض اكتشاف نفسه، كما يرى نبيل، وأرى أنها تمنح الفرصة للطبيب لاكتشاف نفسه دون أن يكون متعاليًا أو صاحب سلطة على المريض.
وسط موجات الإحباط يرى نبيل أن للطب النفسي دورًا في اكتشاف المستقبل
تتضح وظيفة هذه المساحة الآمنة كما يصفها نبيل "كي يعيد المريض اكتشاف نفسه ودوافعه والأعراض التي ظهرت عليه، وبالتالي ينطلق العلاج من مكان حدوث المشكلة بالظبط. يمنح الطبيب القبول لمريضه. مبقاش فيه واحد مثلًا بيخاف يقول للطبيب النفسي إنه مثلي أو ملحد. أصبح عندنا سماح وقبول يشجع المريض إنه يدخل جوه نفسه ويخرّج منها إللي يستشعر به حقيقته كإنسان، بدون أي نموذج ميثولوجي مسبق".
ظلّت لديّ شكوك تجاه الأساليب الجديدة والنزوع نحو المزيد من التخصص والتجزيء، الذي سيفكك بدوره وحدة الإنسان، كهلًا أو شابًا. يُعقّب نبيل هنا كواحد من أبناء المدرسة القديمة "أنا بعمل خليط بين المدرسة القديمة التحليلية والمدارس الجديدة. بنسميها المدرسة التكاملية التي تقدم للمريض العلاج من وجهة نظر المدارس التي ستفيد هذا المريض بالتحديد حسب نوع معاناته. والنتائج كانت عظيمة، وفيه أطباء بتشتغل معايا متخصصة في المدارس الجديدة فقط".
كررت أكثر من مرة في حوارنا مصطلح "المفهوم التجزيئي للنفس"، بتحفظ، عندها اعترض نبيل، لما يحمله المصطلح من قصور في فهمي له "خُد بالك، مقدرش أقول عليها مدرسة تجزيئية إلا في أمراض محدودة جدًا، ولكن أقدر أقول أنها ليست مدرسة فلسفية معنية بالمعنى كما في المدرسة التحليلية، إللي كان فرويد مهتم بيه أكتر من المرض ذاته. هي مدرسة معنية بالتطور النفسي للإنسان وإنقاذه من المعاناة. هنا بنتكلم عن الوعي وتأثيره على النفس، وكيف يستعيد ذاته من المرض".
استشعرت حضور هذا البعد العضوي في توصيف نبيل. هذا الجزء العضوي، مكان العُطب مقابل الكل/المعنى. فيسير مع استنتاجي لمساحة جديدة "المفاجأة إن فرويد نفسه كان منطلق من هذا البعد العضوي، كان بيدوَّر على مكان اللاوعي والوعي في المخ. هو مكانش فيلسوف وإنما طبيب أمراض عصبية، وذهب إلى الطب النفسي لأن الطب العصبي غير كاف لكشف هذه المسألة، وانتهى إلى أن يكون فيلسوف الميثولوجيا اليونانية وغير اليونانية، وأتى منها بالمصطلحات والنماذج النفسية".
أمل وسط أمواج الإحباط
وسط الإحباط، يرى نبيل أن للطب النفسي دورًا في اكتشاف المستقبل حيث تتطور الذات الإنسانية "فيه فرصة لتطوير الذات في المستقبل. كان فرويد يبحث عن معنى معاناة الإنسان وليس تخفيف تلك المعاناة. فكان يرجع للسنوات الست الأولى من الطفولة حيث تكمن بذور المشكلة. هذه الطريقة كانت تترك المريض في بؤسه، وعند فهمه المؤلم لنفسه في هذه السنوات الست من حياته، تظل معاناته الاكتئابية مستمرة. ما يحدث الآن خروج من هذه الدائرة المغلقة".
يتبادر إلى ذهني افتراض أن النظام الرأسمالي الكلي وراء هذه الظواهر. فهو الذي صنع هذا التجزيء كما صنع التخصص الشديد وربما أغلق مساحة المناورة للذات الإنسانية لتكتشف هذا الجانب الخلاق داخلها، والذي سيكون الفاعل الأهم في استكشاف المستقبل.
عندما طرحت هذا الافتراض، جاء تعليق نبيل حاملًا مفارقة؛ أن الغرب هو الذي ينطبق عليه هذا السلوك شديد التجزيء، مما جعل الأطباء والمرضى النفسيين هناك في وضع بائس، مغتربين عن مرضاهم وعلمهم. ولكن "مجتمعاتنا"، مع تأكيده على نون الجماعة "ما زالت تلعب على حواف الأنظمة الرأسمالية والديكتاتورية والشمولية، مما أعطاها درجة عالية من الإنسانية، وهي منفتحة على الأبعاد الأخرى للكائن الإنساني غير البعد الكيميائي أو التجزيئي".
ويستكمل فكرته "لحسن الحظ، أنقذنا عدم انخراطنا الكامل في الرأسمالية العالمية، لم نصبح تروسًا كاملة في النظام الرأسمالي العالمي الذي يجعل الأطباء النفسيين مجرد آلات صغيرة في منظومة كبرى، لدرجة أنه لا يرى احتياج المريض خارج تخصصه. مازلنا بنحاول نفهم ونشوف مرضانا بطريقة شاملة/holistic. المرضى في مصر مابينتهوش لكائنات منعزلة ومتبلدة شعوريًا. لا، بالعكس بيكتسبوا وعي جديد، وبيصحصحوا، ويرجعوا تاني لحياتهم الطبيعية، وبياخدوا خطوات جريئة".
أهم تلك الخطوات الجريئة هي استعادة المرأة زمام حياتها كما يشير نبيل، ما أدى لانتشار الطلاق "جزء من انتشار الطلاق في مصر له علاقة بالعلاج النفسي، الستات بقوا مابيتْنيِّمُوش بالأدوية النفسية، دلوقتي بقى عندهم وعي وفهم أكتر للآلام والمعاناة إللي عايشينها، ولأي درجة هي مؤذية. ده غير زمان، كانت المرأة مستسلمة لقدرها في الزواج، وفرصة إنها تغير حياتها وتاخد قرار الانفصال كانت مستبعدة، ومكانش فيه الأدوات إللي تستعملها لاستمرارها في الحياة".
ميثولوجيات جديدة
لكل عصر ميثولوجياته وأساطيره، فكما استخدم فرويد أوديب وإلكترا، ربما نكتشف ميثولوجيات جديدة ومعاني عامة خلف ممارساتنا النفسية. ربما ليس برسوخ القديمة ووضوحها، ولكنها تظل كالنجم البعيد يحرس تطوراتنا وأزماتنا، ونتبادل معها الحوار. كما يوضح نبيل، تظل هناك منطقة غامضة لا تخضع لميثولوجيا، فيصنفنها طب النفس في خانة other/أخرى.
يضيف في نقاشنا الطويل "فيه أعراض بتتشاف في الرؤية العامة للطب النفسي وبننجح فيها، وفيه أعراض ما بننجحش إننا نحطها في رؤية عامة، أو نتعسف في تفسيرها، فنتركها في الرؤية الجزئية الخاصة بها، ونركز على ماذا سنفعل. ولكننا كبشر أبناء المعنى، بنسعى إننا نشوف كل حاجة بتظهر قدامنا بالمعنى الواسع بتاعها".
يستكمل "ولكن فيه أعراض تانية مبنقدرش نكتشف فيها معنى عام، فبنشتغل على الظاهرة، أو العرض في ذاته، بعيدًا عن المعنى العام بتاعه. وهنا ناخد بالنا إن أغلب التشخيصات النفسية تنتمي لمنطقة اسمها "أخرى"، مثلا ييجي واحد عنده فصام بس فصامه غريب مش الموصوف في الكتب، ولا يمكن أن نضعه في نظرية ثابتة عن الفصام".
دائمًا هناك رغبة في أي علم التوصل لنظرية، ومن خلالها يمكن تصحيح قصورها، أو تحقيق أكثر لمدى فاعليتها "في الطب الفسي الآن، هناك النظرية العامة بيوسايكوسوشيال/biopsycho-social التي ترى الإنسان من خلال البعد البيولوجي النفسي الاجتماعي. تهتم بالجانب البيولوجي للمريض، وتطوره النفسي، وعلاقاته الاجتماعية، منفردة كل على حدة، أو الجوانب الثلاثة معًا".
ويضيف "يمكنني كطبيب أن أنطلق من هذه النظرية، إلى النظرية التحليلية لفرويد، أو أنطلق بيها من خلال النظرية السلوكية المعرفية، كون هذا المريض تعلم طريقة في التفكير وهو صغير، صاغت نمط تفكيره أو نمط شخصيته. أنا هنا كطبيب نفسي حر في أن أضع للمريض النظريات المناسبة لحالته، للوصول إلى بورتريه نفسي له يتم من خلاله اختيار التخصصات النفسية التي ستقوم بعلاجه".
ولكن نعود للنقطة نفسها، أن هناك تجزيئًا لوحدة الإنسان كأنه عبارة عن ملفات لا نهائية مفتوحة. يسمي نبيل هذا التجزيء تفتيتًا، مضطرون إليه لأن هناك ما هو أمرّ منه "في هذا الجحيم إللي إحنا عايشينه مفيش أي إمكانية تانية. إحنا بنشهد انهيار حقيقي للأيديولوجيات، بما فيها الأيديولوجيا الغربية نفسها، إللي قايمة على الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، واعتبار الإنسان كائن سامي".