من الأشياء المثيرة في حياة الإنسان تفسير ظاهرة الضحك؛ من أين يأتي، وإلى أين يذهب بعد أن يزوي الصوت، ومن أي مكان تخرج هذه المادة الصوتية الفجائية لتعلن عن حالةٍ من السعادة المؤقتة، وبهذا الإيقاع الذي يخص كل فرد على حدة كبصمته، استجابة لمؤثر خارجي كان السبب في هذا التحول الفجائي، سواء كان مشهدًا حياتيًا طريفًا، أو فيلمًا، أو غيرها من المثيرات التي تولد وتغذي الضحك في حياتنا.
الضحك السري
أحيانًا يأتي الضحك حتى دون مؤثر خارجي، فيمكن أن "نضحك في سرِّنا"، من ذكرى لمشهد ضحك قديم أو مكبوت، لا يزال أبطاله يعيشون داخل الذاكرة كخيالات. عندما نتذكر هذا المشهد. فالتزامن مع المصدر ليس شرطًا لتفجير الضحك، بمعنى آخر ليس بالضرورة أن نقف على قدم المساواة زمنيًا مع مسبِب الضحك، ولكن يمكن استعادته أحيانًا من مخزن الذاكرة. تصبح الذاكرة المثير الخارجي، ولكن في صورته الأكثر شفافية وأصالة، بوصفها مخزنًا للاشعور الجمعي.
أحيانًا يأتي هذا الضحك المكتوم دون صوت، يتردد صداه داخل الذاكرة التي تقوم بتكبيره خصصيًا لصاحبه، الذي يتواصل معه كأنه فتح تدرّج هذا الصوت المغلق مرة واحدة، فينتقل الضحك إليه بصوته العالي. كثيرًا ما يحدث لي هذا؛ أفاجئ نفسي ويفاجأ من حولي بهذه الضحك الغريب بأثر رجعي. يجلجل الصوت مخترقًا صمت الذكرى السارة، ممزقًا غلافها الزمني السميك الذي تحيط نفسها به.
ربما هذا الضحك السري الذي يأتي من الداخل ومن دون مثير خارجي، يتماس مع مظاهر الجنون، أو نسخة مخففة منه، ولكنه يحتاج دومًا لوضع غطاء على العقل المراقب واللاوعي الحزين، حتى يستعيد الجسم مناخ اللطف ليعيد إنتاجه من جديد ويمنحه طابعه الشخصي.
الضحك كنشاط عضلي
الضحك بشكل عام فعل مستجلب من الخارج، لا بد له من مثير يولّده. ليس أصيلًا في الإنسان مثل الحزن؛ الفعل الفردي، عكس الضحك الجماعي، مضاف للجسم وليس جزءًا منه، وغالبًا ينتقل بالعدوى، أو من تغير مفاجئ في نظام الأشياء واستمراريتها.
كما يعتبر هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي في كتابه الجميل "الضحك"؛ فعل التخشب أو التصلب لأي شيء متحرك كأحد مصادر الضحك للمتفرج، أو بمعنىً آخر؛ ما هو القالب الخارجي الذي ندخل فيه فيعطل استمراريتنا. مثلًا أن يتعثر رجل فجأة أثناء سيره. فالتغير من حال الاستمرارية لوضع مخالف بسبب هذا القالب الصلب، يولد للضحك.
يكتب برجسون "يأتي الهزل (الضحك) من أن الجسم الحي يتصلب تصلب الآلة، نشاط الجسم ينتمي للنفس أكثر من انتمائه للجسد".
وأحيانًا يكون الضحك نشاطًا عضليًا يقوى بالتمرين، ويستخدم كعلاج نفسي جماعي، بأن نضع بإرادتنا هذا الغلاف الآلي "الكاذب" والمفتعل على أحزاننا، لنحركها ونغير مساراتها بداخلنا. فالنفس الحزينة تحتاج الجزء الآلي في فعل الضحك وتستجيب له، رغم أنه خارجي وليس نابعًا من نسيج النفس. أي يمكن الضحك عليها باستمرار الضحك! لأن هناك كيمياء أخرى تصوغ مفهوم النفس/الجسد.
يكتب برجسون "إن الجسم يتقدم على الروح"، و"الشكل يطغى على العمق".
الضحك يحتاج صدى الجماعة
يؤكد برجسون على جماعية الضحك، وأنه ليس فعلًا فرديًا "إننا لا نتذوق الهزل (النكتة) إن شعرنا أننا وحدنا. إن ضحكتنا هي دومًا ضحكة المجموعة. الضحك يخفي فكرة خلفية تفاهمية إذ يبدو أنه يحتاج إلى الصدى. إن الضحك يجب أن تكون له وظيفة اجتماعية".
ربما الضحك فعل جماعي يقوم به فرد واحد، مفرد بصيغة الجمع، بعكس الحزن، فهو صدىً لترددات النفس وتشعباتها الذاتية. ممارسة الضحك نوع من تدعيم وجودنا، نسمع من خلاله صدى الجماعة. هناك لا وعي جمعي يحمل شفرات استقبال المفارقة والهزل والملهاة والنكتة.
لماذا الملهاة والمأساة تعتمدان في حدوثهما، بصورة جزئية، على "العيوب"؟
فعندما نضحك كأننا نقول إننا جزء من هذه الجماعة، فالضحك موعد لقاء بها داخل المشهد الضاحك، أو داخل النكتة. لذا في لحظات التمزق أو التشتت التي نعيشها الآن في مجتمعاتنا، ربما يتوارى الضحك، لغياب هذا الصدى الذي ينتج ويستقبل المفارقة معًا.
يكتب برجسون "إن الضحك مهما بدا صريحًا، بالافتراض، فإنه يخفي فكرة خلفية تفاهمية، وأكاد أقول تواطؤية، مع الضاحكين الآخرين الحقيقيين أو الخياليين".
ويضيف "الكثير من الآثار المضحكة غير قابلة للترجمة من لغة إلى أخرى"، كون الضحك يأتي من رموز مشتركة متفق عليها داخل أي جماعة.
الفرق بين الكوميديا والدراما
يفرق برجسون في كتابه، الذي ترجمه الدكتور علي مقلد، بين الملهاة والمأساة، أو بين الكوميديا والدراما، بواسطة "العيوب" التي تعيش داخل النفس وخارجها.
هناك عيوب تسكن إليها النفس بعمق، مع كل ما يكمن فيها، أي النفس، من قوة مخصبة، فتجرّها (النفس)، بعد أن تبعث فيها الحياة، ضمن دائرة متحركة من التغييرات. إن هذه العيوب هي عيوب مأساوية. ولكن العيب الذي يجعلنا هزليين مضحكين هو، بالعكس، العيب الذي يقدم إلينا من الخارج كإطار جاهز ندخل فيه بأنفسنا، إنه يفرض علينا قسوته وتصلبه، بدل أن يستعير ليونتنا. نحن لا نعقِّده: إنه هو الذي يبسِّطنا. وهنا يكمن، على ما يبدو، الفرق الأساسي بين الكوميديا (المهزلة) والمأساة (الدراما).
يعرف برجسون هذا "العيب" بأنه "عادة سيئة من عادات الطبيعة أو هو تصلب وتخشب في الإرادة، يشبه في الغالب حالة من حالات ضعف النفس".
إذن هناك صيرورة مقطوعة، وتحول من حال لحال، فيولد هذا العيب، سواء كان داخليًا في النفس أو آتيًا من خارجها. ولكن يأتي السؤال: لماذا الملهاة والمأساة تعتمدان في حدوثهما، بصورة جزئية، على "العيوب"؟ ربما لأن العيب استثناء وخرق للهارموني المعتاد، أو الطبيعي، أو المتخيل، عن الأشياء والنفس. فهناك شبه كمال يقف وراء ولادة هذا "العيب"، الذي جاء ليكسر مثالية الأشياء ويخرجها من جنة الخيال المكتملة. ومن داخل هذا العيب تتفجر الضحكات والدموع معًا.
المأساة تُكتب باسم صاحبها
بالطبع هناك فرق بين بساطة العيب الخارجي الذي ندخل فيه كما دخل توفيق الحكيم في عيب/صفة "البخل" فاستثمره، وأصبحت صفته البخيل عكس العيب الداخلي الذي لا يأتي بصفة من الخارج، ويرتبط شخصيًا باسم صاحبه، مثل "مأساة هاملت". فالمأساة تُكتب باسم صاحبها، أما المهزلة أو الكوميديا فتُنسب لصفة جماعية من صفات المجتمع، يتخفى صاحبها وراءها.
يكتب برجسون "الدراما حتى عندما تصور لنا الأهواء أو العيوب التي تحمل اسمًا، تدمجها تمامًا وكمالًا بالشخص"، و"بالعكس الكوميديا تحمل اسمًا مشتركًا: البخيل المقامر، لاعب القمار".
في كلتا الحالتين يلعب العيب دور الحركة الأولى في خلق هذا الفضاء الجديد، الذي تلعب فيه النفس أدوارها الجديدة، وتلبس أقنعتها سواء قناع الملهاة أو المأساة، وتمنح لنفسها معنى.
يوجا الضحك
سمعت صوت هذ الفتاة خلفي في القطار، دون أن أرى وجهها، وتعمدت هذا حتى نهاية الرحلة. تقريبًا كانت في العشرينيات تشكو لمرافقتها معاناتها من أعراض اكتئاب، وتضيف بحزن وأسى أنها تلوم نفسها لأنها أصبحت تجيد تمثيل الضحك، ووضع قناع الملهاة على وجهها المأسوي أمام أهلها وأصدقائها وكل من يقابلها. أصبحت محترفة ضحك، وبهذا تشعر بأنها تكذب على الآخرين وعلى نفسها.
كانت تورطت تمامًا، ولا عودة من هذا القناع، فات الوقت لاستعادة الضحكة الحقيقية، وحزنها الحقيقي، اختلطا بقوة، ولم تتبق سوى إجادة تمثيل الضحكة وإتقان رمز من رموز السعادة.
ولكني تساءلت بعدها بسنوات عندما قرأت عن جلسات علاج الاكتئاب باستخدام "يوجا الضحك"، أليس هذا السلوك/التنكر الذي سلكته الفتاة كان نوعًا من اكتشاف العلاج أيضًا؟ أن تتحكم في آلية الجسم غير المنظور إليه، بدلًا من أن تتوجه ناحية علاج مدارات وأفلاك النفس الغامضة، كما يحدث في نظريات العلاج الجديدة بالضحك الجماعي.
لكي نضحك يجب أن نلعب ونلتذ في علاقتنا بالحياة كونها لعبة
لقد استغنت هذه الفتاة عن هذه الجماعية، ونشطت عندها هذه الآلية لتكسر دائرة العنف الاكتئابي الذي يحيط بها. وغالبًا هذا القناع الذي تجيد وضعه على وجهها لا يتم إلا في وجود الآخرين.
ربما كانت هذه الفتاة في أول خطوات العلاج لنفسها، وهي لا تدري أنها بهذا القناع الكاذب الذي تلوم نفسها عليه، تغير وتدمج من طبيعة القناع المأساوي الذي يقبع خلفه تمامًا. فجزء من هذه النفس يتأثر بالكيمياء الداخلية للجسم وإفرازاته، وليس فقط بعلاج العيوب النفسية. فالنفس لا تميز بين الحقيقي والمزيف، لأن الأصل هو آلية الحركة.
لقد سلكت هذه الفتاة طريقًا مختصرًا للالتفاف حول العيوب المركبة، بخداعها، وتحويل النفس إلى مجموعة من الأفعال والاستجابات الآلية، التي تتحول بدورها إلى نسب في إفراز الهرمونات. كل نسبة لها وظيفة، زيادتها أو قلتها تغير من مزاجية الإنسان.
المُصطنع محل الطبيعي
يؤكد برجسون على أن الجسم ليس نفسًا أو روحًا فقط، وأن متطلباته لها طريق مختلف لتبينها وعلاجها، فليس كل شيء يعبر من خلال النفس، أو من خلال العيب أو الروح بشكل عام.
"فكرة الميكنة المصطنعة في الجسم البشري، وصولًا إلى فكرة استبدالية/ يحل فيها المصطنع مكان الطبيعي".
هذا التصور له جانبه المأسوي أيضًا، أنه سيقلل من احترامنا لأنفسنا وسيزيد من إحساسنا الكامن بالذنب كما شعرت هذه الفتاة. وستسقط قدسية النفس أمام أعيننا، لأنه يمكن بل ويسهل خداعها، فأين سنضع ثقتنا بعد الآن؟
ويبدو أن العلاج يرتبط أحيانًا بفقد هذه الوحدة الكلية التي اسمها النفس وطريقة نظرتنا المثالية لها، ورؤيتها في تشظيها اللانهائي، وتعريها أمام تأثير الكيمياء والآلية، وأن تنخدع بالأقنعة. كان تحليل برجسون بداية اكتشاف هذه الآلية التي ستغزو عالمنا الحالي، الذي ازداد فيه الجانب الآلي داخلنا شراسة وتوحشًا أمام الجانب الروحي في أجسامنا الذي أخذ يتوارى.
الكوميديا هي لعبة تقليد الحياة
يكتب برجسون "لا يمكن أن يكون هناك انفصال وانقطاع بين لذة اللعب عند الطفل، ونفس اللذة عند الإنسان، إن الكوميديا هي لعبة خالصة، لعبة تقليد الحياة".
هنا يحيل برجسون إلى نقطة هامة جدًا، أننا لكي نضحك يجب أن نلعب ونلتذ في علاقتنا بالحياة كونها لعبة، نحاكيها أو نقلدها، كالأطفال الذين يلعبون بألعابهم كأنها حقيقة، يقلدون أدوار الحياة بلا ألم. لكي نضحك، لا بد من التغافل، أو أن الكوميديا ليس بها تماه مع الحياة، كأنها حقيقة، كما يحدث مع الدراما.
نلعب مع الحياة، في حضور تلك المسافة من الطفولة والبراءة التي نحتاجها كي نولد ضحكاتنا، وسخريتنا، الحياة ليست "جد" ولكنها لعبة، لكي نصدقها، يجب أن نعود أطفالًا، وأن نشحن لعبتنا بصدق الكبار، بدون أن ننحرف ونستغل الحرية المتاحة من وراء هذه اللعبة، في تغيير وضع الأشياء بالنسبة لنا، أو تكسيرها، كما يفعل الأطفال عند الشعور بالملل من ألعابهم.