قبل شروق الشمس تنطلق الأوتوبيسات من مدينة العاشر من رمضان إلى القرى، تحمل العمال إلى المصانع وفي آخر النهار تعيدهم إلى بيوتهم في قراهم، دون كلل أو ملل. لا تأخذ "العاشر" عمّالها من قرى بلبيس المتاخمة لها فقط، بل تصل إلى قرى منيا القمح، وحتى الزقازيق.
العاشر من رمضان من أنجح ما بات يُعرف بـ"مدن الجيل الأول". نشأت المدينة في الصحراء المتاخمة لبلبيس بمحافظة الشرقية، بموجب قرار من السادات عام 1977. يمكننا القول بثقة إنها الأنجح على الإطلاق بين مدن ذلك الجيل، لأنها مدينة صناعية ارتبط فيها الاستثمار الصناعي بالعمران، وإن كان بشكل جزئي، إذ تستوعب المستويات الأعلى من عمالتها من المهندسين والإداريين والمسوقين، لكنها لم تستوعب العمال.
ويبدو تميز العاشر عند مقارنتها بالصالحية الجديدة، إحدى مدن ذلك الجيل، التي ظلت خالية لنحو عقدين لأنها بنيت كثكنة دون مصانع توفر فرص عمل، بينما هي متاخمة لمنطقة استثمار زراعي لا يحتاج عماله إلى السكن في عمارات. وكذلك تكسب العاشر من رمضان عند مقارنتها مع "15 مايو"، الثكنة التي تعد امتدادًا للقاهرة، مثل الثكنات الكارثية الأخرى التي بُنيت بعدها، ولم تقدم لسُكانها سوى المبيت، مثل الشروق والقاهرة الجديدة وبدر.
حاول أن تصل إلى إحصاءات محددة عن المدن الجديدة وطبيعة سكانها وأماكن عملهم من موقع المجتمعات العمرانية الجديدة. غالبًا لن يسعدك الحظ ويفتح لك الموقع بابه، كمعظم مواقع الحكومة. ولكن إن أسعدك؛ فلن تجد غير البلاغة!
"الدولة التاجر" دولة بليغة
في أدبيات الحكومة وهيئة المجتمعات، أُنشئت المدن الجديدة بأهداف نظرية عظيمة، يرددها كبار وصغار المسؤولين بطلاقة: خلق مجتمعات حضارية جديدة تحقق الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، إعادة توزيع السكان بعيدًا عن الشريط الضيق للوادي، إقامة مناطق جذب مستحدثة خارج نطاق المدن والقرى القائمة، والحد من الزحف العمراني على الأراضي الزراعية.
ليس هناك من صدىً لهذه الديباجة الدعائية على أرض الواقع؛ فالنظام السياسي يعاني منذ 1952 من الانفصام بين "ديوان البلاغة والإنشاء اللغوي" و"ديوان التنمية والإنشاء العمراني". تعبير "الخروج من الوادي الضيق" مضحك بشكل لا يُصدَّق؛ فمدينة العاشر من رمضان تبعد عن ريف بلبيس 20 كيلو مترًا فحسب، وأوتوبيساتها التي تجمع العمال وتعيدهم يوميًّا إلى القرى المختنقة بسكانها تساهم في تلويث الريف، وتخلق فوضى مرورية وازدحامًا غير منطقي في طرق كان ينبغي لها أن تظلَّ هادئة. ولكن المدينة الصناعية لم توفر مساكن لعمالها، بل تركت عبء إسكانهم على الأرض الزراعية في قراهم، لأنَّ دخل العامل لا يتناسب مع أسعار الشقق وأراضي البناء في المدينة.
لا يمكن للدولة التاجر أن تقود تنمية لأنها تعمل بالقطعة لا تحسب إلا ما يدخل جيبها آخر النهار
يتقاضى العامل العادي في مدينة العاشر نحو 4000 جنيه في الشهر، تكفيه كمصروفات شخصية، لا أن يعيل أسرة أو يدبر سكنًا في المدينة. "لماذا إذن تواصل الاستيقاظ عند الفجر والذهاب إلى العمل كل يوم؟"، سألت شابًا من هؤلاء؛ فأجابني "أحسن من انكسار القعدة في البيت".
رغم حزن الإجابة، فلا يمكننا أن نتصور أنَّ هذا الشاب سيستمر في الذهاب إلى العمل لمجرد أن يختفي فيه من البطالة إلى الأبد. إنه في الواقع يتظاهر بالعمل، انتظارًا لفرصة هجرة سريّة تحمله إلى إيطاليا، فإما الموت، أو الوصول إلى بر الأمان وكسب أموال تجعله يتمكن من بناء بيت على الأرض الزراعية في قريته، ليتزوج ويترك فيه أطفالًا يزورهم كل عام أو عامين، بعد توفيق أوضاعه بالخارج.
هكذا أصبح الريف ثكنات لعمال لا يعملون في فلاحة أرضه، فإما يسافرون إلى مزارع الصحراء ويعاودون قراهم في إجازات، أو إلى مصانع لا توفر السكن، أو إلى أوروبا. وبالطبع فأطفال كل هؤلاء يتربون في غياب الأب، بكلِّ ما في ذلك الغياب من مخاطر من بينها إدمان المخدرات في الصغر.
تشتري هذه الأجيال طعامها ومخدراتها بأموال تأتي من خارج الريف، بل من خارج مصر غالبًا. العامل في مزارع الصحراء لم يجد الدولة التي تنشئ قرى تقنعه بالاستقرار فيها، وأرض المدينة الصناعية مُسعَّرة بما يفوق قدراته، فماذا عن المسافر إلى أوروبا؟ لماذا يبني بيته في الريف ولا ينتقل بأسرته إلى المدينة ليحصل على خدمات ونوعية عيش أفضل؟ الجواب منطقي جدًا: في القرية يترك أبناءه (وزوجته بالطبع) تحت رعاية ورقابة الأهل.
من الوجهة الاستثمارية، لم يزل سعر متر أرض البناء في الريف أرخص بعشر مرات أو أكثر من سعر المتر في المدن الجديدة. وهذا الخلل الاقتصادي العمراني واضح وضوح الشمس، ولا يحتاج إلى ذكاء لإدراكه، ومن ثَمَّ العمل على إلغائه وتلافي أضراره التخريبية. لكنَّ الإعلام الجاهل والجبان يتجاهل سوء الإدارة ويُصرُّ على سبِّ الفلاحين واتهامهم بتبوير أراضيهم، ليبنوا البيوت الفخمة ويشتروا شاشات التليفزيون الكبيرة ويسهروا أمام المسلسلات!
وبينما يُنمِّي الإعلام عقدة الذنب لدى الضحايا، تواصل ماكينة الكلام في ديوان البلاغة والإنشاء الحكومي تذكيرنا بأننا نعيش على 4% من مساحة مصر. والمذهل أنَّ الذي يذكرنا بهذه الحقيقة هو نفسه صاحب السلطة، الذي يضع كلَّ استثمارات الطرق والمباني في هذه الأربعة بالمائة، وبالأخص في العاصمة، لأنه ببساطة يريد أن يبيع المزيد من الأرض والشقق، وأن يحتفظ بالسعر المرتفع لأرض الصحراء التي يحتكرها.
والنتيجة في النهاية هو ما نراه الآن من انفصال بين العمل والعمران في كل مكان: المزيد من الثكنات حول القاهرة تُسمَّى مدنًا بالخطأ، لأنها لا توفر أعمالًا لسكانها، ولا تتوفر لها أسباب الاستدامة الضرورية والاستقلال الذي يمنحها صفة مدينة، في مقابل التمادي في جعل الريف ثكنة أخرى، للعمالة الرخيصة والمهاجرة.
المسؤول عن كلِّ هذا هو "الدولة التاجر" التي تريد الربح السريع ولا تستوعب فكرة إعطاء شيء دون مقابل. يصعب على هذا النوع من الإدارة أن تستوعب استدامة العوائد الاقتصادية والحضارية لحديقة تنشأ مكان عشش الترجمان بدلًا من العمارات، ويصعب عليها أن تتقبل دعم المواصلات العامة لتقليل عدد السيارات الخاصة التي يستخدمها راكب واحد، فيقل التلوث، ويقل معه الإنفاق على الوقود واستيراد السيارات. ويصعب عليها أن تجعل سعر متر الأرض في صحراء مدينة صناعية كالعاشر من رمضان أقل من سعر نظيره في الأرض الخصبة المتاخمة للمدينة، لتحافظ على الرقعة الزراعية.
"الدولة التاجر" دولة متفرجة
لا يمكن للدولة التاجر أن تقود تنمية لأنها تعمل بالقطعة. لا تحسب إلا ما يدخل جيبها آخر النهار، ولا يعنيها أن الجنيه الذي كسبته من باب سيُهدر ألفًا في أبواب أخرى. هذا ما نراه مجسدًا في الواقع، ومع ذلك يستمر "الخطاب الإنشائي البلاغي" للسلطة على حاله كما كان يوم تأسيس دولة يوليو، حيث يتماهى الرئيس مع الدولة.
هذا ما يمكن تتبعه بسهولة في لغة الرجل نظيف اليد شنيع الأخطاء؛ عبد الناصر. أنا سأفعل، أنا لن أفعل، أنا أستطيع، أنا لا أستطيع. كانت الدولة بمثابة الأب، ومع ذلك ليس مقبولًا أن يحلَّ شخص مكان الدولة ويتحدث عما تفعله وكأنه هو شخصيًّا الذي يمنح. لكنَّ هذا الخطاب يبدو اليوم فكاهيًّا، لأنه يوضع بجوار إعلانات جمع التبرعات من الأفراد باسم الدين، للإنفاق على مجالات الرعاية الاجتماعية والصحية للفقراء، وهي من صميم عمل الحكومة!
والأدهى أنَّ "الدولة التاجر" التي تتظاهر بالرعاية في بلاغتها اللغوية، هي في الوقت نفسه "دولة متفرجة" لا تضمن حقوق العمال أو تفرض على رجال الأعمال منحهم أجورًا عادلة، تجعلهم زبائن قادرين على شراء الأرض التي تبيعها في المدينة لتأسيس حياة مستقرة فيها، فنخفف حمولة الأرض الخصبة من السكان.
لم تضع الدولة القواعد بين صاحب العمل والعامل في بداية التوجه إلى الخصخصة لأنها لا تستطيع أن تفرض أجرًا عادلًا لعامل القطاع الخاص دون أن تحقق الشيء نفسه لموظفيها. ومع بدء خلط الزيت بالماء في منتصف التسعينيات، وأعني استوزار رجال الأعمال وشراكة رجال النظام في البيزنس الذي بلغ مداه في النصف الثاني من الألفية، صار هناك سبب إضافي للصمت عن حقوق العمال وأمنهم الاجتماعي في مواجهة الفصل التعسفي.
وصل الاستخفاف بحقوق العمال إلى حدِّ افتقاد العمل لجدواه. يظهر هذا بين وقت وآخر عندما تعلن بعض المصانع عن فرص عمل لا يتقدم لها أحد. وبدلًا من الإشارة إلى ضآلة الأجر، يتهم الإعلام التابع الشباب بالتعالي وحب التسكع!
ربما، لو كانت الدولة تاجرة فقط أو متفرجة فقط، لكان الوضع أقل سوءًا لكن اجتماع التوجهين يصنع الواقع الكارثي للفوضى الاقتصادية والعمرانية التي نعيشها. ولا يمكن للحقائق على أرض الواقع أن تتغير للأفضل إلا في ظل دولة تدير ولا تتاجر. تنظر إلى الصورة الكلية للمشهد وليس إلى تفصيل صغير، ولا تبيع مكاسب مستدامة مقابل ربح يوم بيوم.