"وضرب الرئيس المرشح مثلًا عن دولة مات فيها 25 مليونًا جوعًا دون أن يتذمروا أو يخربوا دولتهم لكنهم قاموا ليبنوها". سيعيش هذا القول في كتب التاريخ مثلما عاشت أقوال تشبهه في كتب المقريزي والجبرتي. ورغم فرط غرابة الفكرة، فإن 57.1% من المصريين، هم سكان الريف، يواصلون صنع موتهم وبناء قراهم في صمت.
ولنعرف كيف يموت القرويون ويبنون بلادهم في صمت، علينا تصفية الذهن بعيدًا عن الصورتين الزائفتين اللتين يروج لهما خيال عقيم مسلح بالجهل: ريف مضعضع مستند إلى عصاه، لا حياة له بدون برنامج "تكافل وكرامة"، وريف مجرم يُبوِّر الأرض الزراعية ليبني العمارات بوحي من الشيطان، لا لهدف غير إيقاع الأذى بمصرنا الحبيبة!
والصحيح أن الريف مجتمع كغيره من المجتمعات، تتفاوت مستويات سكانه الاقتصادية للأسباب نفسها التي تصنع التفاوت في أي مكان. لكن هناك عاملًا حاسمًا في حظوظ القرى من الفقر والغنى، هو السفر، وإلى أوروبا بالذات. هناك قرى لم يعرف أبناؤها مراكب الفرار السرية التي تحملهم إلى إحدى الحسنيين: الغنى أو الشهادة. وهناك قرى عرفتها وصار اقتصادها معتمدًا تمامًا على السفر برصيد أكبر من الأحزان على الغارقين من أبنائها في عرض البحر.
الثروة إلى الشَمَال دائمًا
السبب الأول في محنة ونعمة السفر هو التعليم. مستوى التأهيل الذي يتلقاه أبناء القرى غير صالح للمنافسة في سوق العمل المصرية قليلة التنوع؛ معظمهم من حملة الدبلومات الفنية، غادروا الأمية بالكاد دون أن يتعلموا صنعة، ومثلهم خريجو الجامعات الإقليمية ببيئتها الجامعية المتدنية. باختصار: تعليم يؤهل بالكاد للفرار.
ليس أمام أبناء قرى الدلتا شمال يتطلعون إليه داخل مصر، فركبوا البحر إلى أوروبا
والرقعة الزراعية هي العامل الثاني الحاسم في محنة ونعمة السفر؛ فالقرى ذات الرقعة الزراعية الصغيرة هي الأكثر ضيقًا بشبابها، لذا عليهم أن يجدوا بأنفسهم الحياة في مكان آخر. السفر الآمن إلى الخليج بحاجة إلى خبرات لا يمتلكونها وتأشيرات سفر، فكان لا بد من التطلع إلى المكان الآخر، الذي يتراوح بين القاهرة والدول العربية التي لا تتطلب تأشيرة: ليبيا والعراق والأردن. ثم حديثًا؛ أوروبا.
خريطة إعادة انتشار الفارين من الفقر تشبه خرائط اللاجئين الفارين من الحرب. الأكثر فقرًا رحلته أقصر لا تتجاوز عبور الحدود إلى الجارة. الأغنى درجة بوسعهم اختيار بلد أبعد قليلًا، والأغنى والأكثر تعليمًا يقصدون أوروبا وكندا وأمريكا سعيًا إلى نوعية حياة أفضل.
سكان قرى الصعيد هم الأكثر فقرًا، ويتبقى أمامهم العمق الشمالي مع النيل، وفي أذهانهم سرديات الذين سبقوهم إلى أسواق الخضار والمعمار في القاهرة وصاروا مليونيرات. وهناك الدول العربية التي بلا تأشيرة، وبتكلفة سفر بسيطة.
فرار الصعايدة إلى هذه الدول، حتى وهي في حالة حرب، يكشف حجم المأساة. وكان يجب لهذه الحقيقة المريرة أن تصيب السلطة بالخجل، لو كان للحياء مكان في السياسة. وقد رأينا كيف عاش الصعيد تحولات الحرب في ليبيا، بحصيلة موت جماعي بين وقت وآخر، من المشهد المروع لذبح تنظيم داعش الليبي 21 مسيحيًّا مصريًّا في 2015، إلى ضحايا بني سويف الأربعة والسبعين في إعصار درنة الشهر الماضي.
ليس أمام أبناء قرى الدلتا شمال يتطلعون إليه داخل مصر، وهم ليسوا بفقر شباب الصعيد الذين يلجأون للجوار الليبي، لهذا كان عليهم اكتشاف أوروبا. ركبوا البحر في رحلات سرية تتساوى فيها فرصة النجاة أو الموت.
وأتصور أن على المبادرات الحقوقية المصرية المستقلة الضغط لإقرار حقوق اللاجئين الأممية للمسافرين المصريين؛ لأن الهروب في المراكب الخطرة والهروب إلى مناطق الحروب، يجعل منهم لاجئين حقيقيين أولى بالرعاية؛ لأن الهروب إلى الحرب أقسى من الهروب منها.
أتصور أن واجب الأصوات المصرية الحقوقية المستقلة انتزاع حقوق السفر الآمن إلى أوروبا على قاعدة المعاملة بالمثل، فالشماليون يأتوننا بلا تأشيرات. لقد تقصيت الظاهرة عام 2009 في الريف المصري وفي إيطاليا، ووضعت استقصائي الموسع في كتابي العار من الضفتين..عبيد الأزمنة الحديثة في مراكب الظلمات، الذي صدر عشية ثورة يناير، وتُرجم إلى الإيطالية عام 2013.
أثر العائدين
بدأ فرار الشباب القرويين الأكثر فقرًا لأوروبا أوائل التسعينيات. لم يكن الحصول على التأشيرات السياحية الأوروبية مستحيلًا، ولكن سرعان ما انتبهت أوروبا لنوعية السياح الذين يتزاحمون أمام سفاراتها، فتشددت في منح التأشيرات، لتبدأ إثر ذلك ظاهرة التسلل في المراكب. هذه حصة أوروبا من عار الغرق في مياه المتوسط، كما أنها تتظاهر برفض العمالة غير الرسمية لكنها تحبها لرخص سعرها.
تصاعد الحس التضامني بين المسافرين بعد أن شعروا بأن قراهم تشبه المراكب التي هاجروا فيها: وحيدة ومعزولة
على أية حال، هناك من يفلتون من الموت في ليبيا ويساهمون في تمدد قراهم بالصعيد، وهناك من يصلون بأمان إلى أوروبا من لاجئي الدلتا ويعودون بأضعاف ما يعود به القادمون من ليبيا، لهذا فقرى الدلتا هي الأكثر تمددًا، حيث لا يجد العائدون تصريفًا استثماريًّا لأموالهم.
يشرع المسافرون في بناء البيوت الأفخم من بيوت أغنياء الماضي، كما يشرعون في شراء الأرض، رمز الوجاهة الريفية. وفي بيئة اجتماعية شديدة التنافسية، شأن كل المجتمعات الصغيرة، بدأ أبناء الأغنياء رحلات اللجوء إلى أوروبا، لاستعادة تفوقهم الاجتماعي؛ أصل عريق مع ثروة جديدة.
عمرانيًّا تضخم حجم هذا النوع من القرى بسرعة شديدة، وفي غياب الإحصائيات الدقيقة، أعتمد على مشاهداتي لقرى أعرفها، وأجازف وأقول إنها تضخمت خمس مرات خلال عشرين عامًا لا غير، حتى أنها بدأت تستخدم المواصلات في الانتقال بين أحيائها.
وليس للحكومة أدنى وجود في هذا التطور سوى ببعض حملات الإزالة التي تتم بوشاية أحد سكان القرية، ثم يُعاد إصلاح الضرر، ويُستأنف بناء البيت الذي يُشيَّد بخامات صلبة ويُخطط بمعرفة صاحبه، كما كان الأمر في بناء الدور الطينية، ومثلما يجري حتى الآن في عشوائيات المدينة.
مقارنة بعائدات السفر، لم تعد هناك أهمية اقتصادية للطيور المنزلية، ولا حتى للبهائم أو الزراعة التي ساهمت الدولة في تدهورها؛ فكان من الطبيعي أن تختفي الحظائر والأفران من البيت الريفي الجديد دون أسف، لتنقطع دورة اقتصادية مربحة ودورة التدوير البيئية للمخلفات، ومع دخول أكياس البلاستيك في بقالات القرية في غياب جامعي القمامة، ازداد الأمر سوءًا في البيئة الريفية.
ظهرت في البيت الجديد دورة المياه النظيفة، وهي حق للفلاحين، لكنها تستخدم الماء بكثافة، ولم تواكبها شبكات صرف صحي ومحطات معالجة. ولحل المعضلة بدأت القرى، الأكثر غنىً، تنشئ على نفقة سكانها شبكاتها الخاصة للصرف الذي يُلقي حصيلته في المصارف الزراعية. ولأن نقص مياه الري يجبر الفلاحين على ري أرضهم من المصارف أحيانًا، انتشرت الأمراض بين كل من يستهلك منتجات تلك القرى في أي مكان.
القرى الأقل غنىً وتطورًا لجأت إلى خزَّانات الصرف الأرضية "الطرنش"، وصار المرض قدر سكانها وحدهم، حيث يتسرب ماء المجاري إلى طبقات الأرض وترفعه طلمبات الشرب مجددًا، لأن صهاريج المياه النظيفة التي أقيمت في عهد عبدالناصر لم تُجدد أو تتوسع. كل هذه العوامل تفسر تمدد السرطان في أجساد المصريين بالتوازي مع سرطان التمدد العمراني.
في العقد الأخير، وبتأثير السوشيال ميديا، انتشر الوعي الصحي بكل هذه المخاطر، وأخذ الحس التضامني بين المسافرين يتصاعد بعد أن شعروا بأن قراهم تشبه المراكب التي هاجروا فيها: وحيدة ومعزولة ويجب أن يتكاتفوا من أجل نجاتها.
هكذا نشأت في القرى مبادرات، غالبًا ما تبدأ في المهجر، لتحسين الحياة في القرية. صارت هناك محطات رفع وفلاتر عملاقة يقيمها شخص على نفقته الخاصة أو بشكل تشاركي، ويصطف الناس للحصول على مياهها المستخرجة من أعماق بعيدة.
عيون لا ترى وآذان تسمع
توفير الماء النظيف بالجهود الذاتية ليس الوجه الحسن الوحيد للريف الغني الآن، فالتكافل الفردي بين المسافر وباقي أسرته موجود، والتكافل التشاركي موجود كذلك لإعانة المحتاجين وتعليم الأيتام وبناء المسجد والمستشفى والمدرسة. ولكن يستتبع ذلك خلل في الأولويات التنموية بالطبع؛ فالمسجد مُقدَّم على المدرسة والمستشفى، والمعهد الأزهري على المدرسة العامة، لأن الأزهر والأوقاف أكفأ من وزارتي التعليم والصحة في التعامل مع التبرعات والمبادرات الأهلية.
في مواجهة تآكل السلطة القديمة، كان على الدولة أن تتقدم لتقيم نظامًا جديدًا، لكنَّ هذا لم يحدث
من الطبيعي أن يحدث هذا الخلل في الأولويات، لأن اجتهاد التكافل القروي ليس الحل المثالي، كما أن صورة التكافل الريفي تقابلها صورة التنافس المنفلت. عندما نتحدث عن مجتمعات فكل شيء موجود.
هناك التنافس الاقتصادي الذي يتجلى في تسارع تبوير الأرض والمبالغة في الإنفاق على البناء، والمضاربة على أسعار الأرض الزراعية حتى في ظل تدهور جدواها الاقتصادية. وهناك التنافس الاجتماعي للفوز بالعروس الأجمل وتطليقها في أول بادرة خلاف أو شك في السلوك.
تدهورت النظرة إلى المرأة والنظرة إلى التعليم، لأن قيمة الإقامة الأوروبية أهم من قيمة الشهادة الجامعية. وكثيرًا ما تجري في هذا الإطار منافسات الزواج بين شاب غير متعلم وطبيب أو مهندس، وغالبًا ما تكون الغلبة لصالح حامل الإقامة لا الشهادة، بما يعنيه ذلك من تدهور مكانة التعليم المتدهور بمناهجه والنقص المروع في المعلمين وتدريبهم، والتعليم ملف حزين آخر أساسي في القضية العمرانية.
على صعيد الأمن العام، الأمر مخيف، لأن السفر جعل القرية تغادر النظام القديم القائم على الأخلاق والذي يقوم فيه القضاء العرفي بالدور الحاسم، دون أن يحل مكانه نظام جديد قائم على القانون.
يسافر الشباب صغارًا، قبل أن يراكموا خبرات احترام الكبير وخشية العيب. كما أعاد السفر رسم خريطة الثروة في مجتمع القرية ككل وفي داخل الأسرة الواحدة. وهكذا تراجعت العائلات عريقة الملكية، وتراجعت مكانة الأب لأن السلطة انتقلت مع الثروة إلى الولد المسافر.
في مواجهة هذا التآكل للسلطة القديمة، كان على الدولة أن تتقدم لتقيم نظامًا جديدًا قائمًا على القانون، لكنَّ هذا لم يحدث حيث لم تتوسع مرافق الأمن. غير أن السلطة التي تغلق عينها عن الريف حتى لتبدو غير موجودة في حياته، لا تغلق أذنها، وليست نائمة فيما يخص الأمن السياسي، وقد طورت شبكة من العيون، بحيث لا تُقال كلمةُ ضيقٍ في مجلس ريفي مساءً، إلا وتصل إلى فرع الأمن الوطني بالمركز والمديرية في الصباح، بكل ما يستتبع ذلك من تهديم للروابط ونشر للبغضاء.