"إن غرقت في البحر سيكون واحدًا من الأسرة مات، وإن عشت ووصلت إلى أوروبا سنحيًا جميعًا". هذه عبارة موجعة قالها أحد الشباب المصريين ذات يوم، وهو ممن وقعوا فريسة لسماسرة "الهجرة غير الشرعية"، وكان آخرهم سبعمائة وخمسون شخصًا انقلب بهم المركب بالقرب من سواحل اليونان، وغرق أغلبهم، وبينهم مئات المصريين.
وباتت ظاهرة الهجرة السرية تشكل قاسمًا مشتركًا بين كافة الدول المشاطئة لجنوب البحر المتوسط، وإفريقيا، بل والعالم الثالث كله. وتقلق أوروبا على وجه الخصوص، لدرجة أن وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند قال في تصريح له "المهاجرون الأفارقة يهددون مستوى المعيشة والنسيج الاجتماعي الأوروبي"، أما رئيس حزب رابطة الشمال الإيطالي ماثيو سالفيني، فذهب إلى ما هو أبعد من هذا، حين دعا إفريقيا إلى "الانتباه لأهمية تحديد النسل"، فيما شرعت فرنسا وبريطانيا في اتخاذ خطوة عملية لمكافحة هذه الظاهرة حيث وقعتا اتفاقا لتعزيز أمن الموقع ومكافحة الشبكات الإجرامية للمهربين والهجرة السرية.
الهجرة غير الشرعية نتيجة لعدم اكتمال عملية إنتاج الدولة المدنية الحديثة
وتعود هذه الظاهرة إلى عدة أسباب أولها اقتصادي، حيث تتسع رقعة الفقر والبطالة في مجتمعات جنوب المتوسط وإفريقيا، وتبدو الدول عاجزة عن تلبية احتياجات وطموحات شريحة من الشباب تخرجت من الجامعات والمعاهد والمدارس العليا، ولم تستوعبها سوق العمل.
ويبدو طريقها شبه مسدود في تكوين حياة طبيعية لائقة، لا سيما مع غياب مشروعات حقيقية للتنمية، وتطبيق برامج التكيف الهيكلي، وتعاظم الاحتكارات، ووجود خلل جسيم في توزيع الثروة، أو في تساقط ثمار التنمية على القاعدة الغالبة من السكان.
والسبب الثاني سياسي، حيث الاضطرابات التي تضرب بقسوة الكثير من دول جنوب المتوسط وإفريقيا، جراء الصراع على السلطة من جانب، ومحاولة قطاعات اجتماعية التمرد على الأوضاع الظالمة القائمة من جانب آخر، وكل هذا بسبب عدم اكتمال عملية إنتاج الدولة المدنية الحديثة التي ترتب سبلًا طوعية لانتقال السلطة، وتضمن التمثيل السياسي لمصالح كافة الفئات والشرائح والطوائف الاجتماعية، وتصون الحريات العامة في التفكير والتعبير والتدبير.
في المقابل يدرك المهاجرون أنهم ذاهبون إلى بلدان تحترم حقوق الإنسان، وإن وجدوا فيها موطئ قدم ستتغير حياتهم بالكلية.
أما السبب الثالث فاجتماعي، يرتبط تارة بالتهميش المستمر وظاهرة ترييف المدينة، وتارة أخرى بانسياب حكايات مثيرة وأسطورية حول عملية الهجرة وما يترتب عليها، لا سيما أن هناك قصص نجاح فعلية، يتم تداولها على نطاق واسع، سواء بالطرق التقليدية أم عبر السوشيال ميديا. وطالما ينجذب الشباب الراغب في الهجرة إلى قصة نجاح واحدة لمهاجر، ويزيحون عمدًا قصص فشل لا تحصى، انتهت بمآسٍ.
وهناك سبب رابع نفسي لا يمكن إنكاره، ويلعب سماسرة الهجرة عليه، حيث يضيق بعض الشباب بطبيعة الحياة في بلدانهم، في ظل امتلائهم بشعور جارف بأنهم يستحقون أكثر مما هم عليه، وأن لديهم طاقة جبارة غير مستغلة في أماكن لا تتيح لهم أي فرصة للتحقق، وينظرون إلى مستقبل بلدانهم بتشاؤم مفرط، ينسحب على نظرتهم إلى الآتي في حياتهم الخاصة.
إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات
والسبب الخامس يتمثل في ثورة الاتصالات والإعلام الجديد التي حولت العالم إلى غرفة صغيرة، وجعلت قطاعات عريضة من شباب دول العالم الثالث على دراية بأنماط العيش في المجتمعات المتقدمة، ويقارنونها بما يكابدونه في بلدانهم، ومن ثم تتزايد داخلهم الرغبة في الهجرة، لا سيما في ظل القرب الجغرافي لأوروبا من إفريقيا، وكذلك ما يعلمه الراغبون في الهجرة عن ظاهرة تناقص السكان في القارة العجوز، ووجود أعمال هامشية في الفلاحة والتشييد والبناء والخدمات لا يقبل عليها الأوروبيون، وتبقى فرصًا متاحة أمام المهاجرين.
وهناك سبب سادس يتعلق بقيام البلدان الأوروبية بفرض قيود صارمة على الهجرة الشرعية واللجوء السياسي، مما حدا بالشباب إلى أن يسلكوا ذلك الطريق السري في سبيل الوصول إلى أرض أوروبا بأي شكل من الأشكال. كما أن بعض الأوروبيين من أرباب الأعمال باتوا يفضلون المهاجرين غير الشرعيين، فأجورهم زهيدة وأعمالهم مؤقتة لا تتطلب ضمانات ولا تأمينات ولا ما تفرضه عقود العمل من التزامات.
والسبب السابع يتمثل في وجود شبكات متكاملة ترتب الهجرة غير الشرعية وتقوم بالدعاية لها والترغيب فيها، وتستثمر فيها الكثير، معولة على أن العائد منها بات كبيرًا، والطلب عليها لا ينقطع.
وهناك سبب ثامن، لا يأتي أحد على ذكره، يرتبط بما يسميه عالم الاجتماع المصري أنور عبد الملك "فائض القيمة التاريخي" حيث تراكمت الثروات في أوروبا جراء نهب دول العالم الثالث خلال الحقبة الاستعمارية، فيما تحارب الدول الصناعية المتقدمة أي برامج تنمية حقيقية في البلدان النامية والفقيرة حتى تظل سوقًا رائجًا لمختلف منتجاتها.
ولعل العبارة التي ذكرها العالم الفرنسي المتخصص في الدراسات السكانية ألفريد صوفي تلخص الأمر برمته حين قال بشأن ظاهرة الهجرة غير الشرعية "إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات".
في كل الأحوال، لن تتوقف هذه الظاهرة بمجرد الصراخ في وجوه هؤلاء المهاجرين، أو بمعنى أدق الهاربين: ابقوا في بلادكم، يمكنكم العيش هنا، لا تخاطروا. إنما وقوفها يتطلب وجود خطط تنمية تستوعب الشباب الذي تتزايد نسبته بين السكان في جنوب المتوسط عمومًا، ومصر خصوصًا، ووجود أمل لدى الناس بأن الغد يحمل شيئًا جديدًا طيبًا، وليس هذا الأفق المسدود، والحاضر الذي يقبض على النفوس والقلوب والجيوب.