برخصة المشاع الإبداعي- ويكيميديا
من مهرجان الأقنعة في فينيسيا، 2010

مهارة الفرجة على الموت.. وتجنب رائحته

منشور الثلاثاء 4 يوليو 2023

تمتلئ واجهات المتاجر السياحية بمدينة فينيسيا الإيطالية بالأقنعة المصنوعة من خامات مختلفة، متنوعة الجودة والسعر. ولأنها السلعة الأكثر حضورًا، لا يملك الزائر سوى أن يتأملها، ولو بشكل عابر، سواء زار المدينة متجولًا على قدميه، أو متنقلًا بين قنواتها/شوارعها في أحد القوارب.

هذه الأقنعة اللامعة والمفعمة بالألوان، والتي تصل أحيانًا للبهرجة، اُستخدمت تاريخيًا للتنكر خلال الكرنفال الشعبي، لتمنح الجميع فرصة العربدة، أن يمارسوا كل ما هو ممنوع أو مُحرم أو مُستهجن من ملذات، أن يتستمتعوا دون أن يعرف أحد هويتهم الحقيقية.

لجأ أطباء فينيسيا خلال الطاعون الأسود في منتصف القرن الرابع عشر إلى نوع محدد من هذه الأقنعة، يغطي الوجه بأكمله، العينان محميتان بزجاج، والأنف مبالغ في طوله وممتدًا لأسفل، يبدو كماسورة صغيرة تُوضع بداخلها ورود وأعشاب لها رائحة طيبة، لخداع حاسة الشم لديهم، كي لا يستنشقوا رائحة آلاف الجثث المتعفنة.

تراجع الطاعون، لكن أقنعة خداع رائحة الموت لم تختف، أصبحت من علامات المدينة واحتفالاتها وكرنفالها، أصبحت رمزًا للاحتفال بالحياة والمتعة والجنس، دون أن تحضر ذكرى الموت الجماعي.

صحافة الفرحة

قبل سنوات، كان لصحفية لاتينية/أوروبية مشروعًا لتأسيس موقع صحفي جديد، يختلف عن كل المواقع الأخرى، فلن ينشر كل الأخبار، سيكتفي بالأخبار الإيجابية والمفرحة. لحسن الحظ، لم تجد ممولين للمشروع، فتراجعت عنه بعد شهور قليلة لم تتمكن خلالها من تقديم إجابات متماسكة حول ما وصفته بالأخبار الإيجابية والمفرحة.

لا يوجد خبر مفرح لجميع البشر، فزواج امرأة شهيرة من شخص تحبه، سيكون سببًا لحزن عشاقها الآخرين، وخبرًا لا يهم الكثيرين. وإن كانت من بلد أوروبي يسمح بزواج المثليين، وتزوجت من امرأة أخرى، سيصبح الخبر سببًا لغضب كل المعادين لحقوق مجتمع الميم واليمين المتطرف.

هذا إن تحدثنا عن مجتمع النميمة والمشاهير، أما إن دخلنا فيما هو سياسي واقتصادي واجتماعي، فالفكرة ساذجة ولا تخلو من السخافة، وتتطلب اتخاذ مواقف فكرية ووجودية شديدة الصرامة والإطلاقية. فهل صدور قانون برفع أجور العاملين في القطاع الخاص خبرًا مفرحًا أم محزنًا؟ سيكون مفرحًا بالطبع للملايين من العاملين، لكنه مُحزن لرجال الأعمال. وهل سينشر الموقع خبرًا عن تقنين الموت الرحيم؟

أصبحت مشاهد الغرق والموت الجماعي معتادة ويومية خلال الأعوام الأخيرة

غرقت الباخرة تيتانيك في 1912. أراد ملاكها إبهار العالم وفئة الأثرياء، بسرعتها في الوصول من أوروبا للولايات المتحدة خلال أيام قليلة، فاصطدموا بجبل من الثلج. "الاستعراض المبهر" أسفر عن غرق 1500 شخص، لتصبح الكارثة البحرية الأكبر مأسوية في زمنها، ولتتحول لأيقونة بسبب وجود بعض من أغنى أغنياء العالم من بين ركابها، أكسبوها بوجودهم مرويات رومانسية وأيقونية.

غرقت تيتانيك في شمال الأطلنطي، قبل زمن الموت الجماعي غرقًا بعقود طويلة، قبل أن يتحول البحر المتوسط لما يشبه المقبرة الجماعية، الجامعة لعشرات الآلاف من الموتي الذين حاولوا النجاة من بلدان الجنوب. أصبحت مشاهد الغرق والموت الجماعي معتادة ويومية خلال الأعوام الأخيرة، وبالذات بعد ثورات منطقتنا وحروبها، لتضم أشخاصًا ينتمون لبلدان لم يعتَد أبناؤها على هذه المغامرة.

سياحة الموت

تركز مشهد الغرق الجماعي سابقًا في مضيق جبل طارق، وكان أبطاله الأساسيون من المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء، المحاولين عبور كيلومترات قليلة تفصل شمال المغرب عن جنوب إسبانيا. لكن المقبرة اتسعت، اكتسبت طرقًا جديدة، والأنف الصناعي المعبأ بالورود كي يخدع رائحة الموت في فينيسيا، تطور شكله، تحول إلى ريموت كنترول لتغيير القناة التليفزيونية والابتعاد عن الأخبار الحزينة.

لنعود إلى مشروع الموقع الخبري الإيجابي والمفرح؛ هل وصول المزيد من القوارب المحملة بالمهاجرين واللاجئين لشواطئ أوروبا خبرًا مفرحًا أم محزنًا؟ الإجابة عن السؤال سهلة، إن كان للشخص الذي سيجيب موقعًا سياسيًا وفكريًا واضحًا. لكنها تصبح أكثر تعقيدًا إن وُضع السؤال في سياق مقاربة لافتة مرتبطة بزمن محدد.

انشغل العالم قبل أيام بمصير خمسة من الأثرياء ذهبوا في رحلة قصيرة داخل الغواصة الصغيرة "تيتان" لحطام تيتانيك. انقطع الاتصال بهم أيام عدّة قبل الإعلان عن موتهم، ليس بسبب انقطاع الأكسجين مثلما توقع ملايين المتابعين لسباق فرق الإنقاذ مع الزمن، بل نتيجة انفجار الغواصة في اليوم الأول لاختفائها.

دفع كل راكب من هؤلاء 250 ألف دولار مقابل رحلة قصيرة إلى معبد الموت القديم؛ تيتانيك؛ رحلة لمشاهدة ما تبقى من المأساة القديمة، ليمرحوا خلالها، فالموت لم يعد سببًا للحزن. ومثلما تُستخدم أقنعة فينيسيا الآن للكرنفال والمتعة والعربدة، بدأت موضة السياحة للموت التاريخي، القديم، المحمل بالرومانسية والأيقونية.

بينما على مقربة من موقعه، ودون مخاطر كبيرة، كان بمقدرة الأثرياء الخمسة زيارة الموت الحاضر، المتكرر، للمئات من الغارقين يوميًا في البحر المتوسط خلال مغامرة تحقيق حياة أفضل، وأكثر كرامة، من تلك التي نالوها في بلدانهم.

بالتزامن مع مغامرة الأثرياء الخمسة، وبينما يترقب العالم محبوس الأنفاس مصيرهم، وبينما تحشد بعض الدول إمكانيات ضخمة لإنقاذهم، كانت هناك قوارب أخرى، تحتل الأخبار الفرعية، تحظى باهتمام أقل، فهي تنتمي لمشاهد الموت المعتاد.

في هذه الأيام نفسها غرق قارب صيد محملًا بأكثر من سبعمائة إنسان، أغلبهم من سوريا ومصر وباكستان، أمام سواحل اليونان، دون أن يخصص لهم ولو نسبة شديدة الضآلة من الإمكانيات المخصصة لإنقاذ غواصة الخمسة.

مكان الفقير تم تحديده في خبر صغير، بعنوان هامشي

كل هذا عادي، للغني نصيب وافر من الاهتمام والإمكانيات، حتى وإن رأى الكثيرون أن رحلته/مغامرته بها بعض السخافة. والمقاربات السياسية والإعلامية والفكرية، بين الحادثتين الواقعتين في نفس التوقيت تقريبًا، قادرة على إثارة الغضب، لكنها أيضًا أصبحت معتادة. فمثلما أشارت شابة مصرية على السوشيال ميديا، كانت برقيات التعازي الرسمية من نصيب الأثرياء الخمسة، وكان من نصيب المئات من الفقراء الغارقين في مركب الصيد عناوين الأخبار التي تصفهم بالمهاجرين غير الشرعيين، وتقرنهم بمافيات الإتجار بالبشر.

يكتسب الغني في سياق الموت الإجلال، بينما يكون من نصيب الفقير، الذي حاول الحصول علي حياة كريمة، التجريم.

فقرة اعتراضية

يحكي فيلم تيتانيك، المنتج في 1997 للمخرج جيمس كاميرون، عن قصة حب بين الصعلوك والفقير جاك، وابنة الأغنياء روز، على سطح الباخرة، قبل وأثناء غرقها. فهل كان مشروع الفيلم مؤهلًا للنجاح الكاسح الذي حققه كفيلم/كأيقونة رومانسية، إن كانت روز فقيرة كجاك؟ أو لم يكن جاك على درجة وسامة ليوناردو ديكابريو، وكان شابًا عاديًا؟

عودة لمقاربات الموت

الفروق في المعاملة من جانب السلطات السياسية والإعلامية والمالية الأوروبية، بحيث تخصص كل الاهتمام والكثير من الإمكانيات لإنقاذ الخمسة، بينما تُضيق على المنظمات الإنسانية التي تحاول إنقاذ المهاجرين في البحر، وتسجن قواربهم في بعض المواني، ويُلاحق متطوعيها قضائيًا بتهمة تشجيع الهجرة غير الشرعية لمجرد محاولتهم إنقاذ البشر من الغرق، طبيعيًا. بل إن طبيعيته وصلت إلى مستوى جديد، ففي حالات متكررة امتنعت الأجهزة الرسمية الأوروبية عن إنقاذ قوارب من الغرق، رغم مكالمات ورسائل الاستغاثة.

لكن ما لم نعتده بعد، وظهر خلال هذه الأيام التي تزامنت فيها حادثتي غرق المركب واختفاء الغواصة، هو أن يتحول موضوع غواصة الأثرياء لـ"تريند" عند بعض العرب، تريند لإشهار الألم، والقلق، والقلوب الموجوعة على مصيرهم، وليس على الغارقين يوميًا من أبناء بلداننا.

كتب أحدهم، محقًا، عن الرعب حين تكون في مكان مغلق في أعماق المحيط منتظرًا للموت. لكن هناك رعبًا آخر، أن يتحول هذا البحر المتسع، الذي رأيناه أطفالًا وشبابًا محملًا بالأحلام والمعاني الرومانسية نتيجة خيالاتنا عما يوجد على الضفة الأخرى، إلى كابوس، إلى مقبرتك. أن يتحول صوت هدير أمواجه المحبب إلى صوت مرعب، حين تظل لأيامًا محاطًا به، مكدسًا بين آخرين فيما أشبه بعلبة السردين بينما ترى الماء يتسرب داخلها.

مكان الفقير تم تحديده في خبر صغير، بعنوان هامشي، ليس له أن يتحول لتريند فيسبوكي، مثل ضرورة أن يكون جاك وسيمًا وروز فاتنة وثرية، في فيلم تيتانيك.

كيف لنا أن نشهر ألمنا على خمسة أشخاص لم نرهم أبدًا، ولن نقترن بهم أبدًا، حتى وإن هاجرنا مدينتهم الأوروبية نفسها لن نلقاهم بسبب الفروق الطبقية، ولم نشهره بسبب غرق الآلاف من أبناء بلداننا في البحر؟ الآلاف ممن نراهم يوميًا في الشوارع والحارات، نعرف ملامحهم الفقيرة، ونلقي عليهم تحية الصباح.

تبدو هذه الأسئلة كتعبير عن أزمة أخلاقية، لكنها تشكل جوهر مشروع من أرادت أن تؤسس موقعًا صحفيًا مفرحًا؛ أن تضع لنا في هذه الأنوف الطويلة للأقنعة المبهرجة بعضًا من الأعشاب حلوة الرائحة، أن تشكل الميديا مشاعرنا، أن تصنعها، أن توهمنا بأن مشاعرنا الإنسانية واحدة، وأن الموت واحد حتى وإن اختلفت أسبابه، أن نتعاطف أو نشعر باللا مبالاة دون أن ننتبه، بناء على قرارات أصحاب السلطة القلائل.


ملاحظة ختامية: كاتب هذا المقال لا يشكك في صدق من أشهروا وجعهم وقلقهم على حياة خمسة أشخاص ذهبوا في رحلة سياحية تنظمها شركة لم تراع أبسط قواعد الأمان، رغم التحذيرات، وهم يعلمون جيدًا احتمالية أّلا يعودوا، لكنهم رأوا أن المغامرة غير المعتادة تستحق، وأن الحفاوة بهم، إن نجحت مغامرتهم، تُستحق بدورها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.