يتحرك المهاجر الإفريقي الأسمر الوسيم ببذلته الأنيقة على المنصة، لا يفقد رشاقته وجاذبيته ولو للحظة واحدة. يختار من بين جمهوره إحداهن، لينظر لعينيها مباشرة، مخاطبًا مشاعرها، راويًا قصته بشاعرية مفرطة "كان عمري وقتها سبعة عشر عامًا، بينما ألعب مع رفاقي في بلدتي الإفريقية، رأيت طائرًا معدنيًا محلقًا، فأخذت حجرًا وقذفته باتجاهه، سقط الحجر ولم يسقط الطائر المعدني الهائل! لم أفهم السبب، ولحظتها بدأ فضولي تجاه الرجل الأبيض".
راوي هذه القصة هو عثمان عمر، مولود في غانا عام 1988. بدأ رحلته مع الهجرة غير الشرعية في عمر سبعة عشر عامًا، أي بالتقريب عام 2005، بعد أن شاهد هذا الطائر المعدني الهائل/الطائرة. واستغرقت الرحلة خمسة أعوام، ليصل في آخرها للأراضي الإسبانية.
تبدو القصة في منتهى الشاعرية، لكنها ليست شعرًا، بل قصة حقيقية. ليست مثل الشعر ينحو للمجاز، فنحن لا نسأل أنفسنا بينما نتلقى صورة أو قصة في هيئة قصيدة، إن كانت قابلة للتصديق أم لا. لكن عثمان يريدنا أن نصدق ما يرويه كقصة حقيقية، ونتأثر بشاعريتها في الوقت نفسه، مفترضًا أن جمهوره سيصدق أن مراهقًا في سن السابعة عشر، بدايات الألفية الجديدة، يرمي حجرًا على طائرة، يسقط الحجر، وتستمر الطائرة في مسارها، فيعجز عن فهم السبب، لكنه يعي في لحظتها أن الرجل الأبيض هو من صنع الطائرة، وأن ذلك الرجل الأبيض يقطن شمالًا، فيقرر الرحيل باتجاهه.
تسقط الشاعرية المفرطة، أو تنهار واقعية القصة، بنفس سرعة تساقط الدموع من الأعين المتأثرة، إن تأثرت.
في مديح القلق
إن كان المهاجر من النوع القلق، الذي يطرح على نفسه الأسئلة، ولا يكتفي بالإجابات السهلة، فسيتعلم مبكرًا درسَين أخلاقيين؛ الأول أن يمتنع عن نصح الآخرين بشيء، سواء بالهجرة أو بالبقاء. أما الدرس الثاني فهو أن ينتبه جيدًا إن تحدث مع ناسه، فقد يتحدث بلسان مثقل بأفكار التنمية البشرية، وأن كل فرد منا "يستطيع"، سواء هاجر أو لم يهاجر، أن يصنع لنفسه مستقبلًا أفضل، فصناعة النجاح الفردي هي مجرد قرار عقلي وروحي على المرء اتخاذه، فيتحقق. وهو ما لا يعني أي شيء، وينافي القانون الأساسي الذي يحدد مصائر البشر؛ الظروف الموضوعية التي تختلف من شخص لآخر.
يحكي عثمان عمر بنفس شاعرية قصة الطائرة والحجر، وفضوله تجاه الرجل الأبيض، أنه لم يكن ذاهبًا إلى إسبانيا، بل إلى الجنة.
وصل فعلًا إلى الجنة، وظل وحيدًا لمدة شهرين. ولأنه مغرم بالاستعارات الشعرية والمجاز، يقول إنه عانى في إسبانيا خلال الشهرين الأولين من وحدة لم يعانِها خلال مروره بالصحراء الغربية الشاسعة. يريدنا عثمان أن نتلقى كلماته بمشاعرنا وبعقلنا، لكنه يتجاهل عقولنا قليلًا، يستكمل كلامه كيلا يمنحنا دقيقة صمت للتفكير، فلا نسأل أين هم المهاجرين الأفارقة من أمثاله، وجمعياتهم الموجودة في أغلب المدن الإسبانية، التي تستقبل الوافدين الجدد. فتترسخ صورته المتخيلة باعتباره "الإفريقي الوحيد".
المهم أن الشعور بالوحدة انتهى، ففي أحد الأيام حضرت سيدة مسنة بيضاء، متطوعة مع منظمة الصليب الأحمر، لتتكفل برعايته. منحته قبلة على جبينه، فكانت أجمل لحظة في حياته، ولشدة تأثره وانفعاله، وزوال الوحدة بعد هذه القبلة، بكى طيلة الليل.
في هجاء الثقة
هناك إحساس متضخم بالذات عند الكثير من الأطباء والمعالجين النفسيين، وهو مبرَّر بدرجة كبيرة، فقد درسوا خلال سنين طويلة شيئًا معقدًا وصعبًا وفي منتهى الخطورة. ولدى أغلب الكتاب والسينمائيين نفس "الإيجو" المتضخم، فهم يصنعون الأفلام ويكتبون الكتب. السؤال الذي ليست له إجابة هو من أين يأتي العاملون في مجال التنمية البشرية بهذه الذوات شديدة التضخم، التي تجعلهم يتصورون أنهم يقولون الحقيقة، وأنهم ببضعة كلمات، كالحديث عن قبلة على الجبين، أو طائرة محلقة وحجرًا يهوي، سيغيرون حياة المستمعين.
لنستكمل قصة عثمان عمر. شق عثمان طريقه، أسس منظمته غير الحكومية التي تعمل في إفريقيا، وشعارها "نُغذي العقول"، يكتب الكتب، وأصبح نموذجًا شهيرًا لما يمكن تسميته بـ"الداعية المتجول"، ناشرًا أفكاره ليقنع الشباب الأفارقة من أصحاب الفضول مثله، ألا يهاجروا. ويبهر الرجال والنساء ذوي البشرة البيضاء حين يخبرهم عن إنجازه؛ توفير عمل لتسعة عشر شابًا في غانا، عبر منظمته، لصالح سبعة شركات إسبانية للبرمجة عن بعد. وبالتالي لن يفكروا في الهجرة وسيستمتعوا بحياة أفضل.
لا نحتاج إلى بحث معقد كي نستنتج أن هؤلاء الشباب، الذين "يعملون في إفريقيا لصالح أوروبا"، مثلما قالت المذيعة التلفزيونية سهوًا، يكسبون أقل بكثير من نظرائهم "العاملين في أوروبا لصالح أوروبا"، وليس لهم تأمينات اجتماعية، أو أية امتيازات مما يحصل عليه العامل الأوروبي. ولا نحتاج إلى مقاربات عددية؛ تسعة عشر شابًا من بين مئات الملايين الساكنين في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
في الجنة
يتحدث عثمان عن رحلته وإنجازاته بعد ثلاثة أيام من مأساة غرق مركب صيد كبير محمل بالمهاجرين على بعد مائة وخمسين مترًا فقط من الشواطئ الإيطالية، يوم 26 فبراير/شباط الماضي، ليغرق أكثر من مائة شخص، بينهم أطفال. منعت إيطاليا قبل شهور فرق الإغاثة التطوعية من الاستمرار في عمليات الإنقاذ داخل مياهها الإقليمية، ولم تتحرك فرق الإغاثة البحرية الإيطالية الرسمية إلا بعد أن غرق المركب فعلًا، على الرغم من معرفتها بأنه يتعرض للخطر بسبب حالة البحر. قفز ليلًا للمياه الباردة صيادون إيطاليون ليحاولوا انتشال من يستطيعون انتشاله، حيًا أو ميتًا. وحمل بعدها وزير الداخلية الإيطالي المسؤولية للغرقى، للضحايا، قائلًا "عليهم ألا يأتوا".
ولم يسأله أحد السؤال الأهم "لماذا لم يعد لإفريقيا؟"، فقد فهم لماذا سقط الحجر ولم تسقط الطائرة
يشير عثمان للمشاهد التلفزيونية المنتشرة للمأساة، والجثث وبقايا المركب على الشاطئ، دون أن ينتبه إلى أن هؤلاء الغرقى لم يغامروا لأنهم كانوا مراهقين لديهم فضول تجاه الرجل الأبيض مثله. بل كانوا عائلات كاملة هاربة من أفغانستان وسوريا، من حروب مستمرة منذ سنين، هاربة من قتل وقمع وجوع، فيعود للشاعرية "حين أرى هذه المشاهد أتأكد من أن الدور الذي ألعبه في منتهى الأهمية". فيقف على نفس الأرضية مع حكومة "ميلوني" اليمينية المتطرفة والعنصرية، ومع وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برايفرمان، ابنة المهاجرين، التي تحمّل المهاجرين المسؤولية عن مشاكل بلدانهم الأصلية وتتخذ القرارات الإدارية لطردهم، "عليهم ألا يأتوا".
لم يتحدث عثمان عمر عن إنقاذهم، أو عن تنمية دولية عادلة، أو عن وقف بيع السلاح الأوروبي في مناطق النزاعات، أو عن ميزانيات للإغاثة والإنقاذ على حدود أوروبا.. إلخ. ولن أتحدث هنا عن النهب التاريخي للقارات الفقيرة، ولا أريده أن يتحدث عنه، كي لا يوصف أيًا منا بأنه "موضة قديمة".
نعرف من بعض نشرات الأخبار عن مكالمة تليفونية تلقاها مركز الإنقاذ التابع للبحرية الإيطالية من شخص في قارب آخر، بعد القارب الأول بأيام. أبلغهم بأنهم يغرقون، فجاءته جملة عبر الهاتف "شكرًا لإخبارنا". أُنهيت المكالمة، وغرق القارب.
يصرخ عثمان على المسرح "سألت نفسي من هم بيض البشرة؟"، فقاده هذا السؤال لرحلة هجرة طويلة. ينظر في أعيننا مباشرة، بنظرته الوسيمة وبابتسامة أسي، ليخبرنا أن نسبة كبيرة من رفاق الطريق ماتوا خلال المحاولة. ويختتم مونولوجه بجملة رجال الدين التقليدية بعد أن ينصحوك "أنت تقرر بنفسك".
لم يسأله الصحفيون، والمشاركون في انتشاره وشهرته كنموذج، عمن منحه الاستحقاق الأخلاقي ليقول للآخرين أن يهاجروا أو أن يتجنبوا الهجرة. لم يسأله أحد عن رحلته الصعبة دون شك بين لحظتين، لحظة الوصول لإسبانيا دون أي شيء، ولحظة تحقق النجاح والأناقة. ولم يسأله أحد السؤال الأهم "لماذا لم يعد لإفريقيا؟"، فقد فهم لماذا سقط الحجر ولم تسقط الطائرة، فلماذا البقاء فيما تصور أنه الجنة؟
غياب هذه الأسئلة ضروري، لتستمر قصة نجاح رجل إفريقي أسود في بلاد الجنة، دون أن تتلوث بالأسئلة.