قبل ساعات قليلة من موعد طائرتي التي ستقلع فجرًا، قلت لصديقي الذي جاء يودعني إنني أكره الطائرات والمطارات، بينما أحب محطات القطار. أخبرته كيف كنت أذهب مراهقًا إلى محطة القطار في ميدان رمسيس، "باب الحديد"، لأتجول داخلها، متطلعًا بشوق للقطارات المغادرة، متجاهلًا الآتية، وبالذات في الشتاء.
نظر إلى نقطة بعيدة في المكان ولم يعلق، وكأنه غادر لمنطقة بعيدة بسبب تعليقي، متذكرًا سفرياته الكثيرة سابقًا، قبل أن تُضيِّق سلطة الزي العسكري على مجال عمله، فيندر السفر. أدركت فورًا أنه يتمنى أن يكون مكاني في تلك اللحظة، وألا يشتكي من كثرة السفر، وأن يتحرك بين المطارات، أن يخرج من البلد مؤقتًا ليستريح منه قليلًا، أن يزور أماكن جديدة، ليعرف أناسًا جددًا.
اضطررت للاستطراد لتقليل وقع ذلك الكره الذي أشهرته لما يحن إليه، ولأضع نفسي في موقع مغاير، لتقليص التمايز بيننا فيما يخص السفر، وتقليل شعوري بالذنب. فأضفت أن المطارات والطائرات تصيبني بالإرهاق والملل. صحيح أنها أماكن تدعو للتلصص، وتثير شهية الفضوليين من أمثالي لمراقبة الآخرين، لكن فضولي ورغبتي في التلصص يصلان سريعًا لحالة فاترة من عدم الاهتمام.
***
من أكثر الأماكن قبحًا في المطارات هي تلك المكاتب المفتوحة بنوافذ عريضة على صالات الوصول الواسعة، المخصصة للإبلاغ عن الحقائب المفقودة. مساحة لا توجد بها سوى بضع طاولات، وتتكدس بجوانبها حقائب بعضها ممزق، غير معروف أصحابها. وأمام نوافذها أشخاص وصلوا للتو من السفر، جاؤوا للإبلاغ عن حقائبهم التي لم تصل، ليأخذوا نسخة من تقرير قصير لإثبات الحالة.
عند المرور أمام نوافذ تلك المكاتب، وبالالتفات السريع لمن يقفون أمامها، نشكر القدر أو الحظ أو الإله لأننا لا نقف بينهم، نشعر بالراحة، لأنهم عادة ليسوا من الأغنياء، أحضرتهم شركات طيران رخيصة، وغالبًا من مطارات فقيرة، وقاموا بعمل ترانزيت في مكان ما، حيث فُقدت حقائبهم.
المطارات بتعقيداتها تكتسب هويتها كمساحات لاستعراض الطبقة والمكانة، وللتعري الطبقي أمام الآخرين
***
تختلف المطارات عن محطات القطار والأتوبيس بسبب تعقيدات السفر بالطائرة، وعبور الحدود، وفحص جوازات السفر وتصاريح المرور. كل تلك التعقيدات، وما تلى أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 من إجراءات أمنية إضافية، جعلت المطارات مكانًا مختلفًا تمامًا عن محطات القطار والأوتوبيس.
لا نحتاج إلى وقت طويل أو إجراءات معقدة لنستقل القطار، والتقسيم الاجتماعي بين الدرجات المختلفة واضح منذ البداية، يفصل الركاب في عربات مختلفة، فلا نرى عن قرب إلا من ينتمون إلى جماعتنا الاجتماعية الفضفاضة.
أما المطارات بتعقيداتها، وبوجود ممثلي السلطات الموزعين في مهام مختلفة، وفي كل الأماكن، تكتسب هويتها كمساحات لاستعراض الطبقة والمكانة، وللتعري الطبقي أمام الآخرين في صفوف التفتيش وخلع الأحذية وفتح الحقائب.
يستطيع معتادو السفر الجلوس في أي مكان من المطار ليطلعوا على الآخرين، سيعرفون الطبقة الاجتماعية من شكل الحقائب والملابس وطريقة الحركة ودرجة الثقة. سيعرفون سريعًا من هم المتمرسون مثلهم، ومن المستجدون والتائهون. ستلتقط أعينهم دون عناء القادرين على فهم زحام اللغات المختلفة المثبتة على لوحات إرشادية، وستلتقط المرتبكين ممن لا يعرفون تلك اللغات، وينتظرون تسول المساعدة من آخرين يقفون بجوارهم بالصدفة ويبدو أنهم من بلدانهم.
سيواجه الضعيف في المطار ضعفه وهشاشته بدرجة أكبر، وسيشعر بأن طبقته الاجتماعية لا تفارقه وكأنها ظله. أما الأقوياء والأغنياء، فهذا أحد أماكنهم المفضلة لإثبات مكانة اجتماعية أعلى من الآخرين، حتى وإن اختفوا في قاعات المسافرين المهمين، الـ"VIP"، ليظهروا فجأة، يتجاوزون الصفوف المنتظمة ويحققون تفوق كونهم معفيين من الانتظار، ولهم الحق في الوصول لمقاعدهم قبل الآخرين.
***
قبل شهور، فرز موظفو شركة الطيران الأوروبية الركاب في مطار تونس العاصمة، أخرجوا من الصف المواجه للكونترات المخصصة لاستخراج بطاقات السفر جميع الشباب التونسيين الذكور، ونظموهم في صف مواز. وبدأ موظف شركة الطيران يتأكد من أهليتهم لدخول الأراضي الأوروبية، بناءً على قواعد اخترعها شخص مجهول صاحب سلطة مجهولة. قام باستجواب كل واحد منهم بصوته العالي والمهين؛ عن حسابه البنكي، عن حجز الفندق، ليأمرهم بإخراج الأموال التي يحملونها في حافظاتهم باليورو، يعدها بين يديه أمام الجميع، ويُملي قيمتها على زميلته لتقييدها في كشف ورقي مرتجل. فعرفنا جميعًا كم يحمل كل واحد منهم من أموال.
تنازعتني مشاعر متناقضة بينما أراقب المشهد؛ إحساس بالتفوق والراحة لأنني من الناجين، فبحكم السن والهيئة وجواز السفر لا أقف عاريًا من أي خصوصية في هذا الصف، وإحساس آخر بالغضب، وإحساس ثالث بالذنب لأنني ناج، مع استعادة شعور الارتباك في مرات السفر الأولى.
بان الارتباك على أحدهم، حرص على تجنب النظر في عيوننا، يبدو أنه يسافر للمرة الأولى. أثبت "التدقيق الطبقي السريع" أهليته لدخول الأراضي الأوروبية كسائح، وليس كعامل. وبعد دقائق، وبينما يجتاز الحاجز الأول قبل قسم الجوازات، ذهب في اتجاه خطأ. نهره رجل الأمن صارخًا ليصحح مساره، صراخ مصحوب بنظرة متعالية، وكأن الشاب لا يستحق السفر أو الوجود في ذلك المكان المهيب، فازداد ارتباكه.
على الأغلب لم يسافر رجل الأمن هذا على طائرة من قبل، لا يعرف شيئًا عن الإشارات واللافتات الكثيرة، وكيف تصيب المسافرين الجدد بالارتباك. لكن أداءه الجسدي كان أداء الرجل المتمكن، كصاحب سلطة على بوابة تافهة، فصرخ بتعال في مسافر ينتمي لنفس طبقته الاجتماعية.
هناك تراتبية للضعف في المطارات، لا يقف في آخرها الفقراء، أو المستجدون، أو حتى كبار السن، أو غير القادرين على دفع الوزن الزائد لحقائبهم، يقف في آخرها اللاجئون
***
سافرت للمرة الأولى خارج مصر عام 1997. كان عمري وقتها 24 سنة، وكنت مرتبكًا مثل هؤلاء الشباب، متيقظًا لأي خطأ، أشعر وكأنني أقوم بمهمة كبرى للمرور من عالم إلى آخر، وكأنها عملية مصيرية. لم تُخِفني أبدًا الطائرات، بل المطارات، وأخافني أصحاب السلطة فيها، من أصغرهم إلى أكبرهم. غاب الخوف مع التمرس والسن، لكن شبح التجربة الأولى يظهر مع كل مرة أدخل فيها مطارًا.
في رحلة العودة من تلك التجربة الأولى، أقلعت الطائرة التي أقلتني من مدريد إلى أثينا متأخرة عن موعدها، فوصلت بعد أن غادرتْ الطائرة المتجهة إلى القاهرة. منحوا كل الأوروبيون الذين فاتتهم طائراتهم بطاقات إقامة وطعام بفندق قريب. لكنهم استثنوني بسبب جواز السفر المصري. حين حاولت أن أتفاهم معهم، كانوا حاسمين بفظاظة.
كان عليَّ أن أقضي يومًا كاملًا بالمطار، علبة السجائر توشك على الانتهاء، ونفدت دولاراتي القليلة خلال الرحلة. نُقلت بصحبة شاب مصري مقبوض عليه، إلى قسم آخر من المطار. حكى لي الشاب كيف كسر الفيزا قبل ثلاث سنوات للعمل في اليونان، وفَّر بعض الأموال وقرر العودة. جاء إلى المطار، فقبضوا عليه وسيرحلونه بعد التحقيقات والتحريات التي ستستغرق بضعة أيام. تلقيت قصته وكأنها كارثة، بينما كان يضحك، يطمئنني شارحًا ببساطة الموضوع.
منحوني كوبون للعشاء في أحد مطاعم المطار. المطعم به قسمان؛ قسم للزبائن العاديين، من سيطلبون ما يريدون ويدفعون نقدًا، وأدخلوني بصحبة رجل وامرأة ورضيعهما، من أفارقة جنوب الصحراء، لقسم آخر مغلق وكئيب، سلمنا الكوبونات التي منحتنا إياها شركة الطيران لتناول وجبة محددة سلفًا، وتشاجرنا مع النادل حين رفض أن يحضر كوبًا من الحليب للرضيع. اضطررنا لإنهاء المشادة معه عملًا بحكمة معروفة للجميع؛ لا تتشاجر مع من سيعد لك طبق الطعام.
لم أحتمل 24 ساعة، أقنعت موظف شركة الطيران أن يمنحني مقعدًا بديلًا في الطائرة المتجهة للإسكندرية صباحًا، على أمل أن أصل بأي شكل إلى مكان أعرفه ويعرفني، أن أصل لطمأنينة أنني بصحبة من يشبهونني.
***
هناك تراتبية للضعف في المطارات، لا يقف في آخرها الفقراء، أو المستجدون، أو حتى كبار السن، أو غير القادرين على دفع الوزن الزائد لحقائبهم، يقف في آخرها اللاجئون، وخصوصًا إن جاؤوا من بلدان ملعونة بالفقر والجنوبية. يعرفون أن على باب الطائرة، وقبل أن يخرجوا منها لتلمس أقدامهم أرضًا أوروبية، يقف شرطيان، يختاران من يوقفونه لفحص أوراقه بناءً على ملامح الوجه والملابس، وربما يعيدان بعضهم لنفس المقاعد التي جاؤوا جالسين عليها، ليقوموا بالرحلة العكسية، رحلة العودة إلى البلد الملعون.
***
قبل أسابيع قليلة، وبعد أن ودعني صديقي، ضاعت حقيبتي خلال الترانزيت في مطار بوخارست. فكان عليَّ الذهاب لعمل محضر في ذلك المكتب القبيح، الذي نخشاه نحن المسافرون، ونتعالى على من يقفون أمامه.
البعض، وأنا منهم، مهما بلغت درجة إيماننا بالعلم، وتمسكنا بما هو مادي وملموس، ورفضنا لكل ما هو غيبي، نبحث في وقت الأزمات عن تفسيرات في منطقة الخرافة. بالطبع لم أصلِّ كي تظهر حقيبتي، لكنني خلال 24 ساعة لا أعلم خلالها مصيرها، بحثت عن كل التفسيرات غير العقلانية لفقدان حقيبتي للمرة الأولى بعد خمس وعشرون سنة من السفر المتواصل.
وفي المترو، وبينما أبدأ ذهنيًا في تعداد قائمة الغيبيات، صعدت في إحدى المحطات سيدة عجوز، ملامحها إفريقية سوداء، لكن لكنتها الإسبانية تدل على لاتينيتها، فقيرة، لا تطلب المساعدة، بل توزع على ركاب المترو مطبوعًا صغيرًا عليه صورة المسيح وفقرة من الإنجيل. تتحرك أمامنا مكررة عبارات قليلة "المسيح لن يتركك.. المسيح يحبك.. المسيح لن يسمح أبدًا أن تضيع".
تكرر السيدة أن المسيح يحبنا، لن يتركنا، بينما هي تتجول في محطات المترو الباردة بملابس لا تقيها البرد. أما أنا، فلا أفكر في ضياعي، أو في إن كان المسيح سينقذ روحي يومًا ما، بل في ما إن كان المسيح راضيًا على ضياع حقيبتي.