بعد يومين فقط من إعلان غرق قارب صيد يحمل مئات المهاجرين من الحالمين باللجوء لأوروبا أمام السواحل اليونانية، غالبيتهم من مصر وسوريا وفلسطين وباكستان، وسط اتهامات بالتقصير والاستهتار بحياتهم للسلطات اليونانية، بدأت مأساة إنسانية أخرى تتعلق بحادث غرق الغواصة الصغيرة "تيتان" التي حملت خمسة أثرياء من أمريكا وبريطانيا وفرنسا، دفع كل منهم 250 ألف دولار لمشاهدة حطام السفينة تيتانيك.
كان التناقض مؤلمًا وصارخًا في حجم الاهتمام الدولي والإعلامي باختفاء غواصة الأثرياء مقابل قارب المهاجرين. تطوعت الكثير من الدول الغنية لإرسال غواصات ومعدات متقدمة مرتفعة التكلفة، حتى تم الإعلان عن العثور على حطامها وتأكيد مقتل كل من فيها، بينما ساد التجاهل أو عدم الاكتراث بمقتل نحو 500 من اللاجئين أمام سواحل اليونان. وهو ما دفع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى القول وسط تصفيق الحضور في محاضرة في اليونان أن هذا التناقض "أمرٌ لا يطاق".
تعاطف العالم والملايين من عشاق الفيلم الشهير تيتانيك، الذي مر 25 عامًا على إنتاجه، مع الحدث، وتابعوه لحظة بلحظة، بينما اعتبروا غرق مركب الصيد حدثًا معتادًا، لم يعد يحرك أي مشاعر.
السلطات اليونانية تقاعست عن إنقاذ المهاجرين في موقف يكاد يكون يومي بالنسبة لهم، في مواجهة سيل لا يتوقف من محاولات الهجرة غير الشرعية، التي ضاق غالبية الأوروبيين بها، سواء كانت حكوماتهم ليبرالية منفتحة كما هو الحال في فرنسا وألمانيا، أو شعبوية عنصرية كما في المجر وبولندا.
بل إن الحكومة اليمينية السابقة في إيطاليا كانت بصدد سن قانون يجرم تقديم المساعدات إلى اللاجئين ويهدد من يقدمها بالسجن. وترفض دول أوروبا الشرقية السابقة استقبال أي لاجئين. بينما تعطلت في بريطانيا خطة توصلت لها حكومة المحافظين مع رواندا لترحيل اللاجئين غير الشرعيين إليها، بسبب قضايا رفعها نشطاء حقوق الإنسان أمام المحاكم.
الناجون اتهموا سلطات خفر السواحل اليونانية، وفقًا لتقرير نشرته النيويورك تايمز، أنهم تجاهلوا استغاثاتهم، ورفضوا إمدادهم حتى بالماء والطعام. وعندما حاول اليونانيون التدخل بعد أكثر من خمسة عشر ساعة، وألقت سفينة بحبل لقارب الصيد المتهالك وانطلقت بقوة، تسبب ذلك في غرق القارب وغالبية من كانوا على متنه وبينهم عشرات الأطفال.
من نفذوا عمليات الإنقاذ قالوا إن من جرى إنقاذهم 104، جميعهم من الرجال، بينما غرقت كل النساء، وبعضهن يحتضن أطفالهن.
فلو كان الباكستانيان داود من الفقراء كما ضحايا قارب الصيد أمام اليونان لما اهتم بهما أحد
نفت اليونان الاتهامات، وقالت إن ركاب القارب هم من رفضوا تدخلهم أو تلقي أي مساعدات، لأنهم صمموا على الوصول إلى إيطاليا، حيث فرص الاستقرار أو الانتقال إلى دولة أوروبية مجاورة أفضل من اليونان، المعروفة بالتشدد في التعامل مع اللاجئين واحتجازهم في معسكرات أقرب للمعتقلات.
مفارقة طبقية
المأساة كان وقعها كبير في باكستان، صاحبة العدد الأكبر بين الضحايا، المقدر بنحو 350، وكذلك للمفارقة. اثنان من ركاب غواصة الأثرياء التي غرقت في قاع المحيط الأطلنطي أصولهما باكستانية ويحملان الجنسية البريطانية، رجل أعمال ملياردير ونجله البالغ من العمر 19 عامًا، شهزاد وسليمان داود.
وهنا يختلط البعد الطبقي بالعنصري، فلو كان الباكستانيان داود من الفقراء، كما ضحايا قارب الصيد، لما اهتم بهما أحد. ومن المعروف أن الباكستانيين تحديدًا يشكون العنصرية في بريطانيا ويشعرون بإهانة شديدة عندما يشير لهم الإنجليز البيض بلفظ باكي/Paki.
كان قارب الموت يحمل الكثير من الأطفال أقل من 18 عامًا
الحكومة الباكستانية تضامنت مع الغضب الشعبي وأعلنت الاثنين 19 يونيو/حزيران حدادًا وطنيًا. كما طالب رئيس وزرائها من السلطات اليونانية إجراء تحقيق مفصل، وإنزال أقصى عقوبة ممكنة على المتورطين في تهريب البشر وأي مسؤولين عن الحادث.
الفقراء بدورهم، وعلى مستوى العالم، لم يخفوا الشماتة في الأغنياء المحشورين في الغواصة الصغيرة، وأطلقوا النكات على السوشيال ميديا متمنين لهم أن يكونوا ذوي فائدة في حياتهم يومًا بأن يتحولوا لطعام مغذٍ للأسماك.
ذكريات مركب رشيد
أما لدينا في مصر، اكتفت الخارجية ببيان متحفظ يعزي أسر الضحايا ويشير إلى التواصل مع السلطات اليونانية لمتابعة حالات الناجين، كذلك من لقوا مصرعهم والذين يقدر عددهم بنحو مئة مصري، بجانب تسعة آخرين اتهمتهم الشرطة اليونانية بإدارة قارب الموت وتهريب البشر.
حرصت السلطات المصرية على تأكيد أن القارب انطلق من طبرق الليبية وليس من الأراضي المصرية، كما كان الحال مع الحادث المأساوي عام 2016 والمعروف بـ مركب رشيد، والذي أدى لمقتل أكثر من 400 شخص، بينهم الكثير من الأطفال.
وكان قارب الموت الأخير أمام اليونان يحمل أيضًا الكثير من الأطفال أقل من 18 عامًا، الذين دفعت أسرهم نفقات سفرهم الباهظة، التي تقدر بنحو 4500 دولار، أو نحو 140 ألف جنيه بالسعر الرسمي، للاستفادة من القوانين التي تمنح اللجوء بشكل فوري للقصر القادمين على متن قوارب الهجرة.
صحيح أن بعض المواقع الإخبارية اهتمت بالحدث وزارت القرى التي أتى منها الضحايا في الشرقية والمنوفية وأسيوط لسرد مآسي أسرهم، ولكن عدد المصريين الكبير مثّل إحراجًا للحكومة التي تتمسك أمام الأوروبيين بأن مصر لم تعد مصدرًا للهجرة غير الشرعية منذ حادث رشيد. بل إننا من أكبر بلدان إفريقيا استقبالًا للمهاجرين الأفارقة الذين يلقون معاملة كالمصريين، كما يكرر الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أشار أيضًا إلى أن عدد اللاجئين في مصر الآن يتجاوز التسعة ملايين.
ومن المعروف أن الاتحاد الأوروبي يقدم معونات مالية للدول المطلة على البحر المتوسط من أجل اتخاذ إجراءات للحد من الهجرة غير الشرعية، كما تتوقع مصر وصول مئات عدة من ملايين الدولارات مع تدفق السودانيين على مصر منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان.
المؤكد أن الأجهزة الأمنية التي لديها الوقت والقدرة على متابعة كل ما ينشر على السوشيال ميديا، واعتقال من يتجاوز الخطوط الحمراء التي يحددونها هم، على دراية جيدة بشبكات تهريب البشر التي تنتشر في القرى، وتجمع الشباب وتهربهم إلى ليبيا حيث ينطلقون نحو أوروبا.
وشاهدنا مؤخرًا صورًا مدهشة لآلاف المصريين عائدين إلى مصر سيرًا على الأقدام من شرق ليبيا، بعدما تم العثور عليهم في "مخازن" تابعة لمهربي البشر، في انتظار السفر.
لكن يبقى السؤال، لماذا اهتم العالم بغواصة الأثرياء مقابل مقتل المئات؟ وهل طرح هذا السؤال به نوع من التزيّد والرغبة في مهاجمة الغرب في جميع الأحوال؟ فوسائل الإعلام الغربية تابعت عن كثب محاولات إنقاذ الطفل المغربي ريان قبل أكثر من عام عندما سقط في بئر، وقدمت المساعدات، كما كان الاهتمام بالغًا بحادثة الأطفال التايلانديين الذين حاصرتهم المياه في كهف في العام 2018 على مدى 17 يومًا حتى تم إنقاذهم.
ربما تكون الأعداد الكبيرة من الضحايا أحد أسباب عدم الاهتمام، فدراسات إعلامية عدّة أشارت إلى أن المشاهدين يتعاطفون مع الحالات الفردية التي يستطيعون التعرف عليها، أكثر من التعاطف مع جموع لا يعرفون وجوهها.
وفي هذا السياق مثلًا، خلقت صورة الطفل الكردي إيلان، حالة واسعة من التعاطف في الغرب بعد العثور عليه غارقًا على الشاطئ ووجهه منكفئ في المياه بحجمه الصغير وملابسه البسيطة في العام 2015، مما دفع ألمانيا إلى فتح أبوابها أمام اللاجئين السوريين.
وفي المقابل، فإن حالة الغضب التي شعر بها سكان الجزء الفقير الذي نعيش فيه من العالم كان منصبًا على الأغنياء والحكومات الأوروبية معًا. فأبناء القرى في مصر وباكستان وسوريا وفلسطين لن يتفهموا أبدًا كيف يبدو الغرب مرهف المشاعر والأحاسيس عندما يطال الأمر أغنياء أو أصحاب بشرة بيضاء.