
بصحبة كيفن كوستنر في كوبا.. هو في النور وأنا في الظلام
اعتاد أصدقائي تبادل النكات عن علاقتي بكوبا. هذه العلاقة التي بدأت قبل 16 سنة، لم تخلُ سنة منها من زيارة أو اثنتين للعمل، للدرجة التي جعلتني أعتبر كوبا بيتي الثالث، بعد مصر وإسبانيا.
يرتبط هذا المزاح بجانبين؛ أولهما أن الكثير من الحوادث الكبرى وقعت وأنا هناك. موتُ فيدل كاسترو، زيارتا أوباما وفريق The Rolling Stones التاريخيتان للجزيرة، فوز ترامب برئاسته الأولى، كارثة الكوفيد، إعصار رفائيل المدمر، وغيرها من أحداث. أما الجانب الآخر لمزاح أصدقائي، فيتعلق بأنني خلال السنوات الأخيرة، أخبرهم كل مرة أعود فيها من كوبا بأنها على الأغلب زيارتي الأخيرة لها. وهو ما سأكرره بعد أيام، حين أغادر كوبا من جديد.
أكتب هذا المقال جالسًا أمام شرفة الشقة المخصصة لإقامتي في المدرسة الدولية للسينما. أمامي وادٍ شديد الاتساع ينتهي بهضبة تقع خلفها مدينة هافانا حيث يوجد الآن، في أفضل فنادقها، الممثل والمخرج والمنتج الأمريكي كيفن كوستنر. لا أعرف هل هناك كهرباء في هافانا الآن أم لا. لكن في شقتي لدي كهرباء، بدليل كتابتي لهذا النص.
نستطيع القول بأن كيفن كوستنر وأنا صحبة. صحيح أن هناك حقولًا واسعة تفصل بيننا، ومناطق مقطوعة عنها الكهرباء، وحرائق صغيرة في بعض الأراضي الزراعية، يُضرمها الفلاحون الكوبيون في هذا الموسم. لكننا، ورغم هذه الحقول، نجتمع على أرض اليوتوبيا، حيث الجميع "رفاق"، متساوون، يشعرون بهذه "الوحدة الرفاقية" في الجزيرة الصغيرة حيث ترفرف أعلام الاشتراكية وصور التشي جيفارا.
تعلَّمنا، أنا وكيفن كوستنر، قانون المساواة ذاك، حتى وإن أقام هو في فندق فاخر، وأنا في شقة متهالكة في مدرسة السينما، حيث أختبر خلال السنوات الأخيرة مشاعر جديدة، يعرفها الكوبيون جيدًا أثناء ممارستهم لفعل متكرر؛ إلقاء الطعام في صفيحة الزبالة لأنه فسد بسبب انقطاع الكهرباء. طعام لا يملك أغلبهم تعويضه.
الحطام
حين بدأت في المجيء لكوبا، كان حلم اليوتوبيا ذاك ما زال حاضرًا، متحديًا العالم بأكمله؛ حاضرًا في اليوتوبيا الصغيرة؛ المدرسة الدولية للسينما، في وسط عالم السينما الذي يتغير بسرعة حولها، وحاضرًا أيضًا في اليوتوبيا الكبيرة؛ كوبا، التي لم تسقط مع الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات.
في المدرسة؛ اليوتوبيا الصغيرة، يأتي الجميع تحت شرط المساواة، نظريًا على الأقل؛ كوبولا، كيروستامي، هيرتزوج، وصولًا للزائر العابر سبيلبرج، وغيرهم. نقف جميعًا، هؤلاء، وأصغر وأفقر عامل نظافة في المدرسة، وإدارتها ومدرسوها وموظفوها، في الطابور نفسه أمام العاملة التي توزع علينا الطعام في أوقاته، ونأكل في القاعة نفسها شديدة الاتساع.
تمسكي بالعودة لليوتوبيا هو تمسك بالحلم ذاته، رغم أنه انتهى، وإن دون إعلان عن هذه النهاية. أعلم أنه انتهى قبل زيارتي الأولى. لكنه تَمسُّكٌ بإمكانية عودته، تطهره، وأن يعود ممكنًا من جديد، رغم التردي شديد السرعة لكل التفاصيل اليوتوبية الصغيرة والكبيرة.
انهارت قبل أيام قليلة شبكة الكهرباء الكوبية بالكامل، مما أدى لانقطاع الكهرباء عن الجزيرة كلها لـ24 ساعة متواصلة. ليبدأ بعدها التيار في العودة بشكل متقطع في بعض الأماكن، ثم ينقطع عنها مجددًا ليصل لمناطق أخرى.
إنه الانهيار الرابع، والأقصر، في الشهور القليلة الماضية. سببه المباشر ليس فقط نقص البترول في الجزيرة بسبب فقرها، والحصار الأمريكي المفروض عليها منذ أكثر من ستة عقود، بل لأن نظام الكهرباء نفسه تهالك تمامًا، وستأتي لحظة ينهار فيها نهائيًا، إن لم يُجدد بالكامل.
انقطاعات الكهرباء المؤقتة ليست جديدة على الكوبيين، تحدث بمعدل شبه يومي منذ عقود. لكنَّ هناك فروقًا كبيرة بين الانقطاع المُبرمَج للتوفير في ساعات محددة سلفًا من اليوم، والانهيار الكامل للنظام الكهربائي في بلدٍ ما، لدرجة أن ينتظر مواطنوه إبداعات بضعة مهندسين لا يعرفون أسماءهم أو ملامح وجوههم، لتعود الكهرباء، ومن دون أن يعرفوا متى سينجح هؤلاء المهندسون في مهمتهم.
كأن غياب الإعلان الصريح عن موت اليوتوبيا مقصود ليعاني الناس أكثر فأكثر قبل أن تأتي لحظة خلاصهم
وصل كيفن كوستنر إلى كوبا قبل انهيار النظام الكهربائي بيومين. إنها زيارته الثانية بعد تلك التي قام بها مطلع الألفية. استقبله في الزيارة الأولى "القائد"، "الزميل"، "أبُّ الوطن" فيدل كاسترو. ولأن الممثل الأمريكي يأتي اليوم بمشروع سينمائي جديد، استقبله في قصر الرئاسة، المُسمَّى بقصر الثورة، رئيس الجمهورية ميجيل دياز كانيل، ليخبره بأن الشعب الكوبي يحبه ويقدره. حدث هذا اللقاء في اليوم التالي لعودة الكهرباء، ليتحدثا سويًا عن مشروع كوستنر الجديد؛ "الحطام تحت الماء"، أو "البقايا الأركيولوجية" في البحر الكاريبي.
بتأمُّل الكوبيين والكوبيات في الشوارع، وبعد أعوام طويلة من الانهيارات، ومن التآكل والاضمحلال التدريجيين، نجد أن الكثيرين منهم اليوم أصبحوا يشبهون الحطام الذي يحيط بهم فوق الأرض، لا ذلك الموجود تحت الماء الذي جاء السينمائي الأمريكي للبحث عنه. لكنه، ومن شرفة فندقه، يستطيع تأمل البيوت التي تتآكل جدرانها، وأكوام القمامة المتراكمة عند نواصي الشوارع المتهالكة، والقصور القديمة التي تحوّلت لخرائب. وربما يستطيع رؤية طوابير الكوبيين بالساعات أمام متاجر لا يعرفون إن كانوا سيجدون فيها ما يحتاجونه، وإن كانوا قادرين على دفع ثمنه إذا وجدوه.
من شرفة قصر الثورة، حيث يقطن الرئيس، ومن شرفة فندق كيفن كوستنر، لا يمكن ملاحظة الخراب والتهالك الذي أصاب أرواح ونفسيات الكوبيين، بسبب تراكم السنين التي يُستَهلكُون فيها يوميًا، وفي طقس يمتاز بالحر والرطوبة والمطر، ساعات طويلة في طوابير للحصول على وجبة طعام متواضعة.
يقيم كيفن كوستنر في أحد فنادق هافانا الفاخرة، التي أقيمت خلال الوباء والحظر، حين تصورت الحكومة الكوبية أن عليها أن تستنزف قطاعًا كبيرًا من ميزانيتها على بناء الفنادق ذات النجوم الكثيرة، متصورة أن السياح سيتدفقون عليها مع تراجع الوباء، بدلًا من إطعام شعبها، أو ترميم شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي المتداعية، أو الإنفاق على نظام الرعاية الصحية والتعليم، ليستعيدا بعضًا، مجرد بعض من مجدهما في زمن السبعينيات والثمانينيات.
الموت من دون يوتوبيا
نشرتُ في المنصة قبل عامين ونصف العام مقالًا عن مفردات الموت الكوبي، عن انهيار نموذج اليوتوبيا تدريجيًا، بانتظار لحظة الموت الأخيرة. لكنَّ هذا الموت الذي كنا نتوقع وصوله في أي لحظة، نحن؛ الزوار الدائمين والكوبيين، ونكاد ننتظره، والكثيرون يتمنونه، حتى وإن أتى بالفوضى، يبخل بحضوره على الكوبيين.
كأن غياب الإعلان الصريح عن موت اليوتوبيا مقصود، ليعاني الناس أكثر فأكثر قبل أن تأتي لحظة خلاصهم، ليعيشوا ما يتصورونه طبيعيًا؛ الاستغلال والفقر في نظام رأسمالي عادي، وعودة التبعية المُذلَّة للولايات المتحدة حتى وإن كانت تحت حكم ترامب، بديلًا عن الفقر البالغ، والحاجات التي لا تُلبى أبدًا، تحت حكم نظام ما زال يتحدث بشعارات الاشتراكية والثورة، من دون اشتراكية، ومن دون ثورة.
السيد كيفن كوستنر والسيد كانيل يمتازان بالوسامة والهدوء، وأيضًا بالأناقة. يجلسان مبتسمَين أمام كاميرات وسائل الإعلام، بملابس نظيفة. بينما في أغلب شوارع كوبا لا يزال الناس يحاولون التقاط وجبات الطعام، ويتحايلون للحصول على ماء وصابون لغسل أجسادهم، وملابسهم القليلة المتسخة.
الوقاحة سمة من سمات الحكام في كل البلاد التي لا يتولون فيها الحكم ويتركونه عبر الانتخابات
المجتمع اللا طبقي الذي طمحت الثورة الكوبية إلى تحقيقه تحول مع الوقت لمجتمع التناقض الطبقي الحاد. من ناحية نجد الأقلية، أصحاب "البيزنس الجديد"، الذي يملكه، في الخفاء غالبًا، أبناء الكبار من الحزب الحاكم والجيش والبيروقراطية. وعلى الناحية الثانية، تقف الأغلبية الساحقة من الكوبيين، لا يملكون شيئًا ولا يستطيعون دخول مناطق الفئة الأولى.
تعلم جيدًا الفئة الثانية، الأغلبية، أن الفئة الأولى المتغنية بالاشتراكية والثورة، دأبت على قمع معارضتها اليسارية، بقسوة تفوق معارضتها اليمينية. فلا يكون الخلاص سوى بيمين أمريكي سيلتهم ما تبقى من خيرات الجزيرة، لتعود كوبا إلى مكانها القديم ملهىً ليليًا لمختلف أشكال المتع، ومكانًا لغسل أموال الشماليين.
الوقاحة سمة من سمات الحكام في كل البلاد التي لا يتولون فيها الحكم ويتركونه عبر الانتخابات. وقاحة الارتكان لأجهزة الأمن المتعددة والجيش، وصولًا للاستغناء عن جهاز الإعلام في لحظة وعي الحاكم بأن شعبه يكرهه، وأن الأكاذيب الإعلامية لم تعد تقنع أحدًا. جانب من هذه الوقاحة ألَّا يخجل هذا الحاكم من التباهي في وسط الركام، والتبجح بالحديث باسم الشعب، الذي ينتظر السياح، ويحب العزيز كيفن كوستنر.
هل يعرف القارئ العربي هذه الحالة؟! نعم يعرفها، وجيدًا.
سياحة التباهي بالانهيار والتآكل، حلَّت محل سياحة التباهي بالقدم والأصالة وتوقف الزمن الكوبي عند الخمسينيات. تكاد أن تصل لعرض أجساد الكوبيين المتهالكة والمريضة، ليقدِّم لها السائح حسناته. وصلت هذه السياحة لأطفال ونساء القرى والأحياء الفقيرة، ليتأملهم السائح العابر، وكأنهم حيوانات منقرضة، بقيت من زمن اشتراكية الستينيات والسبعينيات، من دون بهاء الزمن القديم.
بينما يرقد الرئيس في قصره الرئاسي، ويرقد كيفن كوستنر في فندقه، تحت الأنوار الساطعة، الناتجة عن المولدات الكهربائية التي لا تفتقد للبنزين الشحيح، كانت المستشفيات مظلمة، فالكثير منها بلا مولدات كهربائية. ولنا أن نتخيل الحالات الحرجة التي تحتاج للأجهزة ليعيش أصحابها.
اجتمع الكوبيون أثناء الإظلام العام عند النواصي وداخل الأزقة، أمام مولدات كهربائية بدائية وصغيرة، لشحن تليفوناتهم، ليعرفوا عبرها، وعبر النميمة الكوبية التقليدية، ما يحدث في بلدهم، وماذا تقول الحكومة عن الكهرباء، وليتعاطفوا مع بعضهم البعض ناقلين أخبار المناطق المختلفة.
كانوا قد اجتمعوا رمزيًا قبل الإظلام العام بأيام، حين علموا أن هناك طفلًا مصابًا باللوكيميا، ويحتاج للعلاج خارج كوبا. احتجوا على رفض مكتب رعاية المصالح الأمريكية منح الطفل وعائلته فيزا للعلاج، واحتجوا على تبجح حكومتهم بأنها قادرة على علاجه. جمعوا من بينهم، وفي أقل من 24 ساعة، ما يقارب الأربعين ألف دولار، لنقله. وبقروشهم القليلة وبتضامنهم فرضوا إرادتهم على الحكومتين.
حكى لي صديق كوبي هذه القصة حين أخبرته، بينما نسير في شوارع هافانا المظلمة، أنني واعٍ، وواثق، للمرة الأولى منذ بداية زياراتي لهذه الجزيرة، أن كل ذلك سينهار فجأة. كل هذه اليوتوبيا ستنتهي بأبشع الأشكال، بالفوضى والعنف اللذين سيسمحان لليمين الكوبي الترامبي بالعودة للجزيرة، فهي اللحظة العالمية المواتية. وأخبرته بأمنيتي؛ أن يكون الكوبيون وقتها قادرين على التضامن فيما بينهم، وألَّا يأكلوا أجساد بعضهم البعض.
قبل عشرة أعوام قالت لي زميلتي السينمائية الكوبية؛ "لا أريد أن أكون هنا حين ينهار كل ذلك". التقينا هذه المرة أثناء انقطاع الكهرباء، فذكَّرتها بجملتها القديمة وسألتها: ألم ترحلي؟! أجابتني: سأرحل قريبًا. أخبرتها أنني، ورغم فضولي الشديد لمعاينة لحظة الانهيار المفصلية، لا أريد لهذا الانهيار أن يكون الحدث الكبير التالي الذي يقع وأنا في كوبا. إنني مثلها، لا أريد أن أكون هنا عند الإعلان الأخير عن موت كل هذه اليوتوبيا الثقيلة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.