في صباح اليوم التالي لتنحي مبارك، كنا على موعد مع ميدان جديد بعد ليلة طويلة قضيناها فيه، نهنئ بعضنا بعضًا، ونحضن بعضنا بعضًا، وندمع أمام بعضنا البعض، منذ إذاعة بيان التخلّي حتى الفجر.
ذلك الصباح، ظهرَت بوضوح تلك المسافة النفسية الكاشفة بين الحشود التي كانت تسكنه وبينه، بعد أن كانت ملتصقة به كرمز أمومي طوال أيام الاعتصام. بدأت تراه بصورة جديدة، بعد زوال الضغوط والمخاوف التي كانت تربطها به، بالتنحي، فصار الميدان كائنًا جديدًا ينتظر سلسلة أخرى من التحولات، ستنقله من كونه رمزًا جمعيًا، إلى رمز شخصي، أو مرآة، يخص كل فرد على حدة.
كانت هناك لحظة نشوة وسعادة تعم الجميع، تهانٍ ومباركات بمستقبل سعيد، كما يحدث في صباح الأعياد، ومع هذه النشوة المؤقتة أزيح الستار أيضًا عن مخزون ذاتي كامن بذاكرتنا، كصندوق باندورا، لشعب عاش عقودًا يأكل من تاريخه، ناسيًا من أين يبدأ، وإلى أين سينتهي، خاصة في العقد الأخير من حكم مبارك الذي كان فيه على حافة الانهيار.
الميدان القرين
في ذلك الصباح، كان يحق للجميع أن يستدعوا كل الذكريات السعيدة، وأيضًا أن يستدعوا كل الذكريات الحزينة. هذه الندوب والجروح والذنوب التي عرَّتها السعادة والنشوة المفرطة، بعد أن انفضَّ التمترس وتشكيلات الحشود التي كانت تغطي على هذه الشروخ النفسية العميقة.
كان ما يميز هذا الصباح في رأيي، وله دلالة عميقة لا أنساها؛ تلك المجموعات من الشباب، فتيات وفتيان، من كل الطبقات، الذين حملوا أدوات وسوائل التنظيف التي امتدت إلى كل زاوية في الميدان، لتزيل من أرضيته ما رسب فيها من تراب الماضي والحاضر معًا، ومن خلفها جرادل المياه، التي كانت تهرق بكميات وفيرة كأننا داخل بيتنا الكبير الذي أهملناه لزمن، وأردنا أخيرًا أن نعيد إليه بريقه أمام الضيوف القادمين، فكان العمل يجري بهمَّةِ مَن استيقظ متأخرًا ويريد أيضًا اللحاق بالقطار!
كانت المياه تندفع بقوة على الأسفلت، مع رغاوي الصابون التي يُعكِّرها لون الغبار الأسود، مع الحماس المفرط للشباب المبتهج بهذا النهار الجديد، الذي كان يشحن أدوات النظافة من مكانس ومسَّاحات وغيرها بطاقةٍ مضاعفة.
خُيِّل لي وقتها أن هؤلاء الشباب يريدون أن يتجاوزوا هذه الطبقة المتجلطة من التراب والأوساخ، ليصلوا إلى طبقة أخرى من ذنوب الماضي، كانت شاخصة تحت الأسفلت، وأيضًا في دواخلهم، أخرجتها اللحظة إلى النور، ويريدون بفعلهم هذا، بسخاء اللحظة والأمل الذي أتاحه التنحي، أن يتطهروا منها.
ربما كنا نقف أمام أنفسنا مباشرة، نتطهر أمامها، وبكل ما علق بها من ذنوب وتراب الماضي، نقف أمام هذه الذات الجمعية التي تكونت داخل الميدان، وتماهينا معها، نريد أن نمحو منها أيضًا ما علق بها من ذنوب الماضي وترابه.
كنا نتعامل مع الميدان كأنه قرين لنا، ننظر إليه في المرآة.
الذنب يسكن الميدان
كان الذنب يتخذ من هذا الحيز الجمعي الذي ضمه الميدان سكنًا مؤقتًا ليسمح لهؤلاء الذين استوطنوه مؤقتًا في هذه المرحلة من رحلة حياتهم، بالتطهر منه، لأنه أخيرًا أصبح له مكان. كأن أيام الاعتصام كانت بمثابة رحلة حج دنيوي، غير مخطط له، ونهاية غير محسوبة عواقبها.
كان مشهد المياه الوفيرة المتدفقة ورغاوي الصابون، وصوت المكانس والمسَّاحات وهي تجلط هذه الطبقة المذنبة من الأسفلت، مثيرًا، وله بصمة شخصية، كأن الجميع صاروا واحدًا، كما نستيقظ صباحًا بين النوم واليقظة، ونسهو لثوانٍ أمام عمود المياه المندفع من صنبور حوض الحمام، لتتدفق وراءه الذكريات، وتتجاوز عمود المياه، لتلامس منبع الألم الذي يحركها، ويدفع بها إلى الأمام.
هكذا كنت أرى هذا المشهد الذي يتكوَّن أمامي في الميدان. لحظتها كان هؤلاء الذين يطهرون الذات الجمعية/الميدان من ذنوبه، كانوا ينظرون في الوقت نفسه إلى دواخلهم، ساهين عن هذا التدفق الغزير للمياه، للوصول إلى منبت هذا الذنب خارجيًا وداخليًا.
كان ذنبًا تاريخيًا قديمًا، رغم حداثة أعمار الشباب والشابات، تكثف داخل هذا الصباح الاستثنائي. كل من حضر كان يحمل جزءًا منه، ويريد أن يصفي حسابه معه.
أصبح أهل الحي الراقي يتعايشون مع القمامة دون الإحساس بالذنب على الأقل حتى الآن
ربما ليس بهذه السهولة والسرعة، نستشعر هذا النوع من المسؤولية، وهذا السهو الكاشف، إلا عبر الإحساس المكثف بالذنب، كونه إحدى أدوات التغيير لأي شعب يريد أن يضبط مساره التاريخي، الذي احتاج الكثير من التكتلات، وأيضًا المياه.
ثم عاد الميدان نظيفًا، وأخذ كل فرد من الحاضرين هذا الجزء من الذنب وعاد به إلى بيته وحياته اليومية، يريد أن يمنحه مذاقَ عاداته، ليتعايش معه بدون منغصات. ولكن مع التحولات التي أتت بعد ذلك، لم يتكيف الذنب مع الواقع والعادات اليومية، وكانت إحدى مفاجآت صندوق باندورا الثورة.
مرت الأيام والسنون، وعاد هذا الذنب التاريخي ينمو من جديد تحت جلودنا، وتحت أرجلنا في الشوارع، ولم يعد أي منا قادرًا على أن يحمله بمفرده، فالمسافات تباعدت، ولم يعد هناك ميدان أو أي مكان رمزي يمكن أن نتطهر أمامه.
قمامة وذنوب
أسير في شوارع الإسكندرية، أشاهد أكوام القمامة، ومن حولها النبَّاشون الذين يفرزونها لأكل العيش منها، فيتسع مركزها ليفرش مساحة معتبرة من نهر الطريق.
أصبح أهل الشارع في الحي الراقي، الذي يقع فيه الجاليري الذي أعمل به، يتعايشون مع القمامة دون أي إحساس بالذنب، على الأقل حتى الآن. ولا يُنتظر أن يزيلها أي منهم، في يقظة نظافة مستقبلية، ربما لأن من يقفون أمامه، بهذه المسافة الكاشفة، التي تجلت في ميدان يناير؛ لا يزال غائبًا.
يتراكم الذنب مع أكوام القمامة. أنتظر لحظة الجريان الحر للمياه، التي أسهو أمامها، والتي هي إحدى صور الذات الجمعية في تسامحها الذي يغسل الشارع والمدينة، ويمتد لمساحات أوسع من ذاكراتنا الحزينة.
أفكر، ربما هناك نقطة حرجة لهذا الذنب لم يصل إليها بعد، ليندفع بالقصور الذاتي، ويكون هذه الذات الجمعية من جديد.
الفتوات الجدد
أمام مكان عملي، في الجاليري الصغير، حاربت منذ منتصف التسعينيات لكي لا تكون هناك أي قمامة تتراكم في حيزه، سواء من أهل الحي، أو الغرباء. مع تقادم السنوات، أصبح هذا الضمير الجمعي الذي كنت أقف أمامه، ويمنحني القوة لأتشدد في موقفي، يضعف هو الآخر، ويخفت صوتي، ويقل اعتراضي، وأكتمه داخلي، ويتقادم الذنب.
يوميًا أجد آثار تلك الجماعات من "النباشين" الذين يتخذون من رصيف الشارع مكانًا لتجمعهم ليلًا ويغادرون عند الفجر، حيث ينامون ويأكلون ويتغوطون. ذنوب آدمية تثقل قلب المدينة. يتحول الشارع ليلًا إلى مدينة أشباح من الهائمين بدون بيوت يملكونها، مثل مدينة فيلم الملك الصياد/ The Fisher King لتيري جيليم، وبطولة روبن وليامز، أو نيويورك فيلم حدث ذات مرة في أمريكا/Once Upon a Time in America لسيرجيو ليوني وبطولة روبرت دي نيرو.
تلك الجماعات الهائمة هي التي شكلت جزءًا من نشأة المدن الأمريكية، وتركت وراءها جرائمَ وذنوبًا عدة لتنجو من الموت، فتأسست المدينة وفي جوفها هذا الذنب المعلق الذي تحول إلى رأس مال وتجارة وأحلام وحكايات.
يمكن لهؤلاء النبَّاشين أن يلعبوا دور حرافيش نجيب محفوظ الجدد الذين تحدث عنهم في روايته التي تؤرخ لبدايات تأسيس القاهرة الحديثة، تلك المدينة مقطعة الأوصال، التي ينتشر فيها الفتوات، ويسهل فيها الهروب بالجريمة والذنب معًا، والاختباء من السلطة ردحًا من الزمن.
تعلو وجوه هؤلاء النبَّاشين وأجسادهم طبقة من السواد، من أثر الغبار المتراكم، التي لن تجلوها مياه أو تطهر أو حساب. لا يحتاجون لأقنعة يقفون خلفها ليستروا هذه الدرجة من المهانة، صارت جلودهم ووجوههم السوداء، الأقنعة التي ينظرون من ورائها للآخرين.
هذه الدرجة المزرية من الفقر والمهانة والانحطاط في السلوك والأكل من القمامة وعدم تقديرهم لأنفسهم كآدميين، منحتهم القوة والسيطرة على الشارع، فالسباق عكسي، ليس على الترقي، بل التخلي عن قيمته كإنسان، أصبح يعيش ويكسب ويأكل من القمامة.
لا يملكون ما يخشون فقده
يشكل هؤلاء النبَّاشون طبقة جديدة من طبقات المدينة، الفتوات الجدد الذين يخشاهم الجميع ويتجنبونهم، حتى عمال النظافة الحكوميون، في غياب أي سلطة أخرى مرئية.
هذا "الاستبياع" الذي يتعاملون به مع حياتهم والآخرين، منحهم مرتبة عليا من حيازة القوة لأنهم لا يملكون ما يخشون فقده. خرائط القوة اليومية يعاد ترسيمها من جديد، من طرف هؤلاء، في ظل عالم جديد، ومدينة مقطعة الأوصال والطبقات.
ينضم لهؤلاء الذين لا يملكون ما يخشون فقده، سائقو التكاتك ومواقف الميكروباصات وسيّاس العربات، وبائعات الخضروات الريفيات والبائعون السريحة، وغيرهم، وغيرهم، الذين ينتشرون في كل أرجاء المدينة ويسيطرون على زوايا هذه المدينة مقطعة الأوصال، بحشودهم المتفرقة، لكسب الرزق في أوقاتٍ عزَّ فيها هذا الرزق.
صارت المدينة الكبيرة مدنًا أصغرَ مزدحمةً وعلى وشك الانفجار، بينما تنظر لنا المدن الجديدة المستقبلية من عليٍّ ساخرة من هذا النمل الذي فقد نظامه وتصطدم مساراته.
تحت البيت الذي أسكن فيه، هناك تجمعات ليلية تحتل شطرًا من الليل حتى الواحدة والثانية صباحًا. أطفال ومراهقون ما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، يتشاجرون فيما بينهم كنوع من الهزار الثقيل، أو العشم الأخوي الثقيل، مع سيل من الشتائم البذيئة المتبادلة بين الجميع.
يسلون سهرتهم بخلافات يبتدعونها، تتخللها فقرة للذكريات، وأخرى لمطاردة بعضهم البعض، قفزًا فوق العربات المركونة في الشارع.
أخويات جمعها الفقر، وربما تتحول مع الوقت إلى عصابات صغيرة تبدأ رحلة ذنب جديدة ومختلفة داخل طور جديد من أطوار المدينة.
ربما نعيش الآن لحظة إنسانية جديدة في حياة المدينة والمدنية، تعيد لنا روح مدينة قاهرة الحرافيش، التي يجري الذنب بين جنباتها.