
المشردون الجدد.. أولاد الشوارع في الإسكندرية
جماعةُ فرسان الرمال أبطال الرواية التي تحمل الاسم ذاته للروائي البرازيلي الشهير جورجي أمادو، والتي تدور أحداثها في مدينة سلفادور بولاية باهيا جنوب البرازيل في أربعينيات القرن الماضي، هم أولاد مشردون، زعيمهم لم يتجاوز الـ15 عامًا، يسرقون، وينامون في مستودع مهجور صار مأوى للجرذان بعدما غطت الرمال واجهته وامتدت أمامه ولم تعد السفن ترسو هناك.
" كانوا يلبسون أسمالًا بالية وقذرين، أشباه جائعين باستمرار، وعدوانيين يطلقون الشتائم ويدخنون أعقاب السجائر، وكانوا في الحقيقة سادة المدينة، أولئك الذين يعرفونها بكاملها والذين يحبونها كليًا، وكانوا هم شعراءها".
يروي أمادو كيف يقضون يومهم ويحثون عن هدف لاستمرارهم في الحياة وسط هذا المناخ العدائي من طبقات المدينة العليا. يكرر في روايته أن أجمل لحظاتهم داخل المدينة، التي تلخص الهدف من استمرارهم، عندما ينسون أنفسهم كمشردين أو سارقين ويعودون أطفالًا يلعبون مع نظرائهم من أطفال المدينة في مضمار الخيول الخشبية الياباني.
في طفولتي، بالرغم من امتلاكنا بيتًا بحديقة، كنت أفضّل لعب كرة القدم في تقسيمات الكرة الشراب مع "أولاد الشارع" الذين ينتمون لطبقة أقل نسبيًا. كان المصطلح يحمل تمييزًا فقط في مخيلة عائلات الطبقات المتوسطة وليس في الواقع، فقد كانوا أسياد الشارع دون منافس.
استوقفني وصف أمادو للمشردين بأنهم شعراء المدينة، كونهم يعرفونها جيدًا، جوّالين يعرفون كل خرم وزاوية ومأوى، لذا يحبونها كليًا بدون انحياز أو تفضيل لمكان على آخر، على عكس الطبقات التي تنحاز لما يحميها؛ هذا ما منحهم لقب شعراء.
المشردون الجدد
خلال رحلتي اليومية بالترام من محطة فيكتوريا أصوب عيني دائمًا على حرم الترام يمينًا ويسارًا حيث يعيش أولاد الشوارع الذين يحتلون المقاعد الرخامية للمحطات التي تمثلُ نقطة تجمع مثل مستودع فرسان الرمال في الرواية.
تصادفني عادة ثلاثة تجمعات على التوالي في محطات السرايا وسان ستيفانو ثم محطة شوتس. المشترك بين هذه النقاط تلك العزلةُ النسبيةُ التي تحوط بالمحطة وتفصلها عن زحام المجتمع الآخر. محطات تشبه البيوت، لها أسوار وحدود، وعمود فقري يربط محطةً بأخرى عبر خط حديدي ممتد للأمام، فلا مجال للضياع المستقبلي، فخط الترام يعيد منح المكان رمزًا عائليًا، من حيث الترابط والحماية.
في الصيف وحصيرته الواسعة أجدهم مستيقظين مبكرًا يسعون في الأرض، بعضهم يحمل شكارة قديمة من شكائر الدقيق المستعملة ليجمع فيها المخلفات. أما في الشتاء فتجدهم تحت البطاطين، ورؤوسهم مدفونة داخلها، فلا حياة ولا أمل ينتظرهم في الخارج.
تفوح رائحة البول المتحلل، وتظهر طبقة كثيفة من السناج تغطي سقف محطة السرايا. رأيت مثيلاتها في عدد من معابد مصر القديمة بسبب حرائق الرومان المتعمدة واستخدامهم نيران الطهي داخلها. ربما هذه الطبقة الحديثة بسبب إشعال هؤلاء الأولاد للأخشاب في الشتاء، بغية الحصول على الدفء، فالمحطة قرب البحر.
قبل سنوات لا تتجاوز العشر كان يحتل هذا المقعد الاستراتيجي للنوم على محطة السرايا رجلٌ فوق الأربعين، يحمل شنطة بلاستيكية كبيرة يضع فيها ملابسه، ويصفُّ بها بطانياته، نهارًا، ثم يعود ليفردها ليلًا.
كنت أراه في الصباح مضطجعًا بكسلٍ لذيذٍ، ووجهٍ مصوّبٍ ناحيةَ ركاب الترام ساهمًا في ملكوته، لا يرى هؤلاء الذي يسددون له نظرات استعطاف أو استنكار أو استحقار من نوافذ العربات المتتالية. يحلق ذقنه، ثم يهوّي فرشته على السور، ينظف المكان، يتريض لدقائق، ثم يغادر، ليعود ليلًا. ويكرر اليوم الذي مضى.
اختفى بعد ظهور هذا الجيل الجديد من أولاد الشوارع ونبَّاشِي القمامة، الذي لا يطيقون العيش في عزلات انفرادية مثله، إنما يقيمون عزلات جماعية كبيرة، فكل منهم يحمل أرشيف عنف مُورس عليه ومارسه، جنسيًا أو جسديًا، لا تتحمله وحدته.
"فضلًا عن الاستغلال والإساءة الجنسية والجسدية لهم، تشير بعض الدراسات إلى وقوع أطفال الشوارع في تجارة الجنس، وربما يعبر عن ذلك فى عدم قدرتهم على مواجهة الإساءة الجنسية من قِبل مرتكبيها، أو الوسطاء، حيث يُستغلون في البغاء والصور الإباحية بغوايتهم في ممارسة الرذيلة"، وفق ما تقوله منى السيد حافظ في دراستها عن أطفال الشوارع.
وتوضح "من أهم أسباب تنامي هذه الظاهرة هو علاقة مصر وبلدان أخرى بمنظومة رأس المال العالمي، التي أفرزت ما يسمى بالنمو المشوَّه؛ الذي أسهم في تنامي مشكلة أطفال الشوارع، أو ما يمكن أن نسميهم المشردين الجدد".
تحالفات اضطرارية
أولاد الشوارع ليسوا فقط أطفالًا، فالأعمار تبدأ من السادسة وربما تتجاوز الأربعين. نما تحالف اضطراري خلال عقود "النمو المشوَّه" بين المشردين والنباشين والعاطلين والمتسربين من التعليم، والمطرودين من بيوت فقيرة، كل جماعة منهم لها زعيم ثم كونوا كتلة واحدة، مثل جماعة فرسان الرمال.
وفق الدراسة المشار لها، تضخّم هذا المجتمع وانضم إلى مجتمعات أخرى هائمة "انفصلوا عن عالم الكبار التقليدي ودخلوا في علاقات مع عوالم المهمشين مثلهم". لتشعر بأن هناك مجتمعًا موازيًا ومهدِّدًا، داخل المجتمع الذي تتحرك فيه، ليس بينك وبينه أي تماس سوى نظرات الخوف أو الشفقة أو العنف المتبادلة من الطرفين.
ما دام البنت خرجت من بيت أهلها وخدِتْ على الشارع مرة واتنين وتلاتة خلاص تنسى البيت وتنسى الأهل
في حشود 2011 كانوا ذائبين داخل المتظاهرين في الشوارع والحدائق والميادين، يشكلون صفًا ثانيًا من الحراك. ربما كانوا فرحين بهذه الجموع التي تعيد لهم إحساس التماهي مع الأسرة والطفولة المفقودة، كما "فرسان الرمال" أثناء لعبهم في مضمار الخيول الخشبية وسط الأضواء.
الجيل الجديد منهم جذريٌّ في تشرده وضياعه، مقطوع الصلة بأي طبقة متوسطة تقاطع معها ذات يوم، يوجه عنفه بقوة لجسده وجسد غيره. جيل بلا رجعةٌ، فالشارع والجماعة هما البيت والعائلة. ملابسهم رثة وأجسادهم متسخة، ربما بسبب جمعهم مخلفات القمامة. يختلفون عن جيل الهامشيين القدامى الذي كنت تشم في ملامحه وسلوكه بقايا بعيدة لرائحة طبقة مخفية. هذه البقايا هي التي مدت في أعمارهم وحافظت على مستوى تشرد وظيفي له قوانينه وتقاليده، حتى تجاوزوا سن المعاش.
شاهدت على محطة السرايا، قبل أسبوع، في الجزء المسور بسورٍ عالٍ، مكان الجبل القديم الذي تم شق خط الترام وسطه، فوجًا من النباشين الصغار والكبار، يسيرون مترنحين بخيلاء على القضبان في صف واحد كأنهم ساموراي غازون بدون خيول وعلى ظهر كل منهم شيكارة المخلفات.
جلسوا مصطفين على الأرض وظهورهم لهذا السور العالي كأسوار السجون أثناء فسحة التريض اليومية. منهم عراة الصدر، لكنهم يحرصون على أن يحوطوا أعناقهم بالشيلان الصوفية الطويلة، لتكون أعناقهم مصانةً، فالشيلان ترد لهم بعض هيبة مكان الميلاد، في الصعيد. لمحت بينهم فتاة تجلس في نهاية هذا الصف، لم ألحظها إلا عندما اقتربت فهي تبدو في ملابسها كالأولاد.
"ما دام البنت خرجت من بيت أهلها وخدِتْ على الشارع مرة واتنين وتلاتة، خلاص تنسى البيت، وتنسى الأهل"، تقول إحدى بطلات الفيلم التسجيلي "البنات دول" من إخراج تهاني راشد، 2007.
سرعان ما تولدت شرارة العنف وسط هذا التجمع. شرارة بسيطة تعيد مسرحة ماضي العنف والنقار بين الديوك في حلبة مغلقة. ينزفون في حدود، ليقضوا على ملل حياتهم. أحدهم خطف عقب السيجارة من فم زميله، فبدأت المعركة.
كما تقول واحدة من بنات الفيلم "الخنقة بتخليني أعوَّر جسمي وأعوَّر نفسي، وأعوَّر ده واتخانق مع ده، وعايزة أضيَّع اليوم، أجيب برشام وكُلَّة، أضيَّع اليوم".
آخرون كانوا يحملون كرابيج مصنوعة من هلاهيل الملابس المضفرة بعضها ببعض، بمقدمات أقل ثخانة نسبيًا. يدورون بها عدة دورات في الهواء، ثم تأتي صوت الطلقات المتتالية التي تخترق الجسد، يعلو صوت الطرقعة ويرتد الصدى من السور العالي خلفهم. انفصل أحدهم عن الجماعة، سار بحذائي على المحطة، مترنحًا ومتعبًا، ثم تمدد على المقعد الرخامي ونام، وسط توجس رواد المحطة، ويده اليمنى على جبهته.
هايد بارك سان ستيفانو
تعد محطة سان ستيفانو هايد بارك كبير لأولاد الشوارع بكافة مللهم ونحلهم، في حماية فندق الفورسيزونز الذي يطل عليهم من أعلى. يلتقون للتشاور في أمورهم والاسترواح تحت ظل أشجار الفيكس التي تشغل جانبي المحطة وتظلل على دائرة رخامية للجلوس، حيث نافورة معطلة في كل جانب. وفي الوسط مبنى به مكتب ناظر المحطة وحوله عدة مقاعد للاحتماء من المطر.
حركة لا تهدأ، جماعات صغيرة تتحرك من مكان لآخر في فضاء المحطة الكبير. حدث تفاهم صامت أو خوف صامت، بينهم وبين موظفي هيئة النقل، سُمح لهم بالوجود في هذا المكان الخاص لينامون في هذا الركن المغطى من المبنى في الشتاء. أما في الصيف وحصيرته الواسعة، يُستخدم هذا الركن للمداولات السرية فيما بينهم بعيدًا عن أعين الغرباء من رواد المحطة، أو لاستقبال ضيوف من جماعات أخرى عابرة.
أغلب أسوار المحطات تحولت لمناشر، تتشمس عليها أغطية النوم ومراتبه وحصائره ومخداته. شجر الفيكس لعب دورًا تاريخيا في الحفاظ على هذه الجماعات. داخل حرم الترام ما بين محطتي شوتس وصفر، على خط ترام باكوس، الأقل تميزًا وطبقيةً من خط النصر حيث عمارات المساكن الشعبية والمجاري الطافحة، وأكوام القمامة المستلقية على جدران أحد المصانع المعطلة؛ هناك شجرة فيكس تظلل بفروعها جزءًا من حرم الترام.
اتخذ أولاد الشوارع والنباشون من مساحة الظل هذه استراحة للنوم والترويح والتقاط الأنفاس بين وردية وأخرى. كرسي صالون قديم، مرتبة، عدة مخدات، حصيرة، وأقدام ممدودة عن آخرها تتقاطع في هذا الحيز الضيق من الظل. لم تتغير الصورة في رواحي ومجيئي، حتى لو تغير قاطنو هذه الاستراحة.
عرض أجساد هزلي
على أرصفة محطة سان ستيفانو، خصوصًا فترة بعد الظهر، تقام عروض مرتجلة لشباب وفتيان من أولاد الشوارع، يسيرون في ثنائيات مأنججين بعضهما البعض، ذهابًا وعودة بطول رصيف المحطة، يعرضون أجسادهم وملابسهم الرثة، أمام ركاب الترام.
فتاة من إحدى هذه الثنائيات تسير وبطنها منتفخة أمامها، وفي ركابهم أطفال صغار يحبون أو يتعثرون في المشي، ترصدهم عيون تخشى عليهم دخول الترام للمحطة، يهرع الجميع لالتقاط الطفل الشارد بيد واحدة، ابن الجميع، مثل ابن هند وكاميليا في فيلم محمد خان.
هناك مجتمع موازٍ يعيش وينجب ويعيد استهلاك تقاليد المجتمع الكبير داخل هذا الحيز الجديد الذي يعيش فيه، ويرمي بقوة إنتاج مهزومة داخل زوايا المجتمع الكبير بقوة روابطه حتى ولو كانت واهية أو مأزومة، هناك مساحة للحب متشابكة تمامًا مع مساحة العنف، والإيذاء الجسدي، والإهانة. ولكن ما زالت للمرأة مكانة وصوت حتى داخل هذا السياق من العنف.
مساحات وبؤر في المدينة تتسع حدود سيطرتها وتهديدها بل وتفرض قانونها تنتظر علاقة ما مع هذا المجتمع الآخر الذي يخشاها
بطلات فيلم "البنات دول" يعبرن عن ذلك:
"ممكن أكون فاشلة في كل حاجة، فاشلة في بيتنا، فاشلة من جوايا، مش مديَّه الثقة في نفسي، لكن لما بحب، بحب بجد".
"أنا هربتْ من الملجأ، قعدت في جنينة أبو السعود عندنا في مصر القديمة، جه ولد اسمه حسن فُرشة بيحبني، شرَّبني سجاير وخمرة، ضِعتْ خالص، رحت كشفت عرفت إني ضِعتْ خالص، بقيت أضيَّع في نفسي، أعوَّر في نفسي".
"البت اللي تقدر تحافظ على وشها في الشارع وماتتعورش، تبقى بطلة".
بؤر في المدينة تتسع مساحة سيطرتها وتهديدها، بل وتفرض قانونها، تنتظر علاقة ما مع هذا المجتمع الآخر الذي يخشاها وينظر إليها من بعيد، بدون وجود لأي تصور من قبل الدولة يحد من آثار هذا النمو المشوه، ويضبط العلاقة بين المجتمعين.
ربما لحظة التماهي هي البداية، بكل ما فيها من صدام، كما في رواية "فرسان الرمال"، إعادة استخراج الطفل المنسي، أو البحث عن لحظة نسيان جديدة، تبدأ بعدها محاولة فهم الظاهرة الكارثية التي سنعاني منها كمجتمع في عقودنا القادمة داخل حدود مدن تنهار روحيًا وعمرانيًا.
"في بدء الليلة هطل عارض من المطر لكن الغيوم تلاشت بسرعة من السماء، وتلألأت النجوم، وتألق البدر وعند الفجر وصل فرسان الرمال وسيَّر ذو الرجل الرخوة المحرك، ونسوا أنهم لا يشبهون الأولاد الآخرين، ونسوا أنهم ليس لهم أب ولا أم ولا منزل، وأنهم يعيشون من السرقة، نسوا كل شيء، وأصبحوا مشابهين لجميع الأولاد ممتطين خيول المضمار الخشبية، دائرين مع الأضواء".
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.