تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
العنف ضد الزوجات

لا بيوت آمنة للمعنفات في قرى مصر

منشور الخميس 25 أيلول/سبتمبر 2025

تزوجتْ محاسن أحمد(*) في سنٍ صغيرةٍ كعادةِ أكثرية أبناء محافظتها سوهاج. لم تكمل تعليمها واكتفت بالشهادة الإعدادية. "اتجوزت قريبي، موظف وأموره المادية مستقرة، وشكله كان كويس"؛ وبدت حياتها عاديةً، غير أن ذلك لم يدم.

"جوزي عرف طريق المخدرات، وبدأ العنف. ضرب خفيف يعدي. مع الوقت بقى يزيد، لحد ما كان بيخلي جسمي كله مليان جروح ودم"، تقول محاسن لـ المنصة.

لا تجد الزوجة التي تبلغ من العمر 26 عامًا ملجأً سوى بيت أهلها في كل مرة تتعرض فيه للعنف "كنت بجري عليهم عشان ينقذوني. في كل مرة كنت بلاقي نفس الرد لازم ترجعي لبيتك.. الطلاق عيب، وهو قريبنا".

ليست محاسن وحدها، فالنساء في القرى والنجوع بجنوب مصر وشمالها لا يعرفن مأوى يلجأن إليه حين يتعرضن للعنف الزوجي سوى الأهل والأصدقاء.

مقهورات بأمر الرجال

حسب الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مطلع 2023، التي نشرها موقع الأمم المتحدة، فإن عدد النساء والفتيات اللاتي يتعرضن للعنف سنويًا في مصر يقدر بنحو ثمانية ملايين.

وتضع المنسقة العامة لـمبادرة المرأة الريفية لمياء لطفي تقديرات أعلى للمعنفات، وتؤكد لـ المنصة أن "العنف ضد النساء في الريف المصري منتشرٌ بشكل مقلق، وتقديري الشخصي أنه يتجاوز نسبة الـ90% بأشكاله المختلفة من عنف نفسي وجنسي واقتصادي وبدني. الأخطر أن كثيرًا من هذا العنف يبرر اجتماعيًا، بل ويُقدَّم أحيانًا كنوع من التربية أو الحماية، خصوصًا حين يأتي من الأب أو الزوج أو الأخ".

تشدد لمياء لطفي على أن ثقافة قبول العنف هي ما يجعل فكرةَ مغادرةِ المرأة للمنزل شبهَ مستحيلة؛ وهو ما تؤكد محاسنُ على صحته "أهلي كانوا شايفين إن اللي بيعمله جوزي ده مجرد نزوة، وإن ربنا ممكن يهديه، حاولوا يصلحوا بينا مرات كتير".

"مرة من المرات ضربني لدرجة حسيت إن روحي بتتسحب، جسمي كله كان بينزف، وما قدرتش أرجع عند أهلي تاني، لأني عارفة إنهم هيجبروني أروح له من جديد، لجأت لواحد من أقاربي، لكن حتى هناك ما لقيتش حل"، تضيف محاسن.

الهروبُ ليس حلًا ملائمًا لمحاسن وغيرها من نساء الريف، كما تؤكد منسقة مبادرة المرأة الريفية لأنهم "بيخافوا يتعرضوا لعنف أكبر، أو الملاحقة من الأسرة، أو حتى القتل"، أو كما تقول محاسن "عندنا ما ينفعش الست تعيش عند صاحبتها أو في أي مكان غير بيت قرايبها". 

بالتالي لن يكون مناسبًا "تشجيع النساء على ترك منازل العنف إن لم يكن لديهن مكان آمن يلجأن إليه"، وفق نصيحةٍ من بندانا رانا، مؤسِّسة الشبكة العالمية للبيوت الآمنة.

مساحة آمنة لمحاسن

تبحث محاسن، التي لا تستطيع مقاومة ضغوط أهلها لإعادتها إلى زوجها الذي تركته من 6 أشهر ، عن مأوى ينقذها من المصير المعتاد، "عايزة أي مكان أستخبى فيه، وأقدر أبدأ من جديد، بس أهم حاجة يكون تبع الحكومة عشان أبقى محمية فيهم". 

لمثل هذه الظروف القاسية، من المفترض أن وزارةَ التضامن، توفّر، إلى جانب بعض المبادرات الحقوقية النسوية، بيوتًا آمنةً لاستضافة النساء المعنفات اللواتي لا مأوى لهن. إلا أنها تظل محدودةً وتواجه الكثير من التحديات التي تحول دون استفادة النساء، خصوصًا في الريف منها.

البيوت الآمنة هي مأوى مؤقت ومؤمّن للنساء المعنّفات، الهدف منه حماية الناجيات من التعرض المستمر للعنف، وإعادة تأهيلهن نفسيًا واجتماعيًا وتمكينهن من اتخاذ قرار مستقل بشأن مستقبلهن.

تجربة مصر مع البيوت الآمنة محدودةٌ للغاية.. القليل منها متاحٌ وأغلبها يُدار في سرية

تعود تجربة البيوت الآمنة في مصر إلى عام 2003، حين أُنشئت أول سبعة بيوت بقرار وزاري بعد ثلاث سنوات من المناقشات والتحضيرات، إلا أن بعضها أُغلق بعد عام 2011، كما تؤكد المحامية نورا محمد رئيسة مؤسسة قضايا المرأة المصرية لـ المنصة "عملنا محاولات جادة لإعادة افتتاح بعضها وحصلنا على حكم قضائي يُلزم الوزارة بإعادة تشغيل أحد هذه البيوت، ولكن لا يزال مغلقًا".

وتصف دراسة بحثية أجرتها مؤسسة نظرة للدراسات النسوية، في 2016، تجربةَ مصر مع البيوت الآمنة بأنها محدودة للغاية؛ "القليل منها متاح، وأغلبها يُدار في سرية، وأحيانًا غير مؤهلة لاستقبال حالات صعبة، بعضها لا يُعلن عن مكانه إطلاقًا، ويكتفي بخط ساخن أو تحويلات من جهات معينة، بينما تكتفي بعض البيوت بمكتب إداري يوجه النساء إلى الملجأ لاحقًا".

 11 مركزًا حكوميًّا لا تكفي 

تؤكد وزارة التضامن الاجتماعي على توفر عدد من البيوت الآمنة الموزعة على المحافظات المختلفة، تُعرف باسم مراكز استضافة المرأة، وتصرُّ مدير إدارة المرأة بوزارة التضامن الاجتماعي أروى نور على أن الوزارة لديها منظومةٌ متكاملةٌ لدعم النساء اللاتي يتعرضن لمختلف أشكال العنف، سواء النفسي أو الجسدي أو الاقتصادي، وتعمل على توفير الدعم النفسي والقانوني لهن.

وتوضح لـ المنصة أن الوزارة تديرُ 11 مركزًا لاستضافة وتوجيه النساء موزعة على محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية والإسكندرية والفيوم والمنيا وبني سويف والدقهلية وسوهاج وكفر الشيخ ودمياط.

توفر هذه المراكز، حسب أروى، خدمات متكاملة تشمل الإيواء الآمن للمرأة وأطفالها في حالات الأزمات إلى جانب تقديم استشارات قانونية ونفسية واجتماعية متخصصة، كما تقدم مساعدات عينية ومادية عاجلة، وتساعد في استخراج الأوراق الثبوتية للمرأة التي تفتقر إلى المستندات الرسمية، بالإضافة إلى تنفيذ برامج التمكين الاقتصادي التي تهدف إلى مساعدة النساء على تحقيق الاستقلال المالي. 

هذا العدد القليل من البيوت لا يتوزعُ بشكل عادل، فالقاهرة وغيرها من العواصم أفضلُ حالًا؛ فكما تؤكد هالة بدر، مسؤولة مراقبة ومتابعة البيوت الآمنة في إدارة غرب مدينة نصر ، يوجدُ بالقاهرة أحد أهم نماذج الاستضافة، وهو مجمع الأسمرات، الذي يتبع وزارة التضامن مباشرة، فضلًا عن مركز الاستضافة التابع لجمعية عمر بن عبد العزيز بمنطقة أرض الجولف، فيما توجد مراكز مماثلة أيضًا في محافظة الجيزة، وتؤدي دورًا فاعلًا في حماية النساء والفتيات من مختلف أشكال العنف الأسري، سواء كان من الأزواج أو الإخوة أو حتى الآباء.

أغلب  البيوت تكون مكدسةً والدخول إليها صعبٌ

 

وفيما تشير هالة بدر إلى أن وزارة التضامن تمتلك قاعدة بيانات كاملة تشمل كل مراكز الاستضافة على مستوى الجمهورية، وتوفر إمكانية الوصول إليها بالتنسيق مع المجلس القومي للمرأة، فإن عزة سليمان رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة المصرية ترى أن التواصل مع دور الاستضافة في المحافظات والقرى يظل محدودًا، ليس فقط بسبب نقص البيانات أو صعوبة الوصول إلى معلومات محدثة، ولكن لأن "الثقافة المجتمعية نفسها بتمنع الستات تطلب الدعم وبتجبرهم على الصمت".

إلا أنه، ومن وقع خبرتها، تشكي عزة من غياب قاعدة بيانات معلنة حول أماكن وتفاصيل البيوت، و"ده بيخلي التواصل صعب في الحالات الطارئة"، منوهة بأن المؤسسة ساعدت بعض الحالات "وفي الغالب ما بتستقرش فترة طويلة في البيوت، إما لأنها بتكمل إجراءات قانونية وبتنقل لسكن تاني، أو ما بتلاقيش اللي بتدور عليه فبتمشي"، معقبةً "ودي إشكالية كلنا عارفين إنها جزء من الواقع المعقد للبيوت دي".

ولا ترى نهى صدقي، المسؤولة الإعلامية لوزارة التضامن الاجتماعي، تقصيرًا حكوميًا في التعريف بهذه المنازل، "عملنا أفلام قصيرة ووثائقية بتتكلم عن مراكز الاستضافة زي فيلم راسك مرفوعة اللي اتصور في الأسمرات والإسكندرية"، تقول لـ المنصة مشيرة إلى أهمية الخبرة الشخصية في تداول المعلومات حول هذه المراكز. 

فيما تؤكد نهى عبد الوهاب، مؤسسة مبادرة صوت، على أنه لا يوجد حصر رسمي شامل لأعداد النساء المعنفات أو حجم الاحتياج الفعلي لبيوت الأمان، وكل ما لدينا حتى الآن اجتهادات فردية ومحلية من مبادرات أو مؤسسات مجتمع مدني.

كما أن أغلب هذه البيوت تكون مكدسةً، و"الدخول ليها صعب عشان فيه شروط أهمها توافر بطاقة رقم قومي، وسداد اشتراك رمزي، وده مش متوفر في كتير حالات، الستات بتبقى مطرودة من غير ورق ولا فلوس"، تقول نهى لـ المنصة

مبادرات نسوية

لا ترى منسقة العامة مبادرة المرأة الريفية لمياء لطفي في الدور التابعة للوزارة حلًا مثاليًا؛ لأنها غالبًا ما تكون بعيدةً جغرافيًا عن النساء المستهدفات، وغير مؤمنة بشكل كافٍ، وأماكنها معروفة، "وأهل الست بيعرفوا يوصلولها وده بيعرضها هي واللي شغالين في الدار للخطر".

إضافة إلى ذلك، "لما الست تقرر تلجأ لدار استضافة بتلاقي صعوبات في التنقل وبتضطر تسيب شغلها ودراستها، ما فيش دعم حقيقي جوا الدور".

لهذه الأسباب، تلجأ كثير من النساء إلى المبادرات والجمعيات النسوية المستقلة التي تكون أكثر مرونة وسرعة في التعامل، وتستطيع التدخل ميدانيًا لمساعدتهن بشكل فوري؛ فعلى سبيل المثال، تؤدي مبادرة صوت دورًا تنسيقيًا في مساعدة المعنفات الباحثات عن مكان استضافة.

"نلجأ  أولًا لبيوت الوزارة، فإن لم تجد مكانًا متوفرًا، نبحث عن بدائل زي دار مؤسسة قضايا المرأة المصرية اللي اتقفلت، أو بنلجأ لشبكة المبادرات زي براح آمن أو ممكن نقدم دعم اجتماعي، زي توفير سكن مؤقت أو حتى تغطية مصاريف ضرورية"، تقول نهى عبد الوهاب.

تعتبر  مؤسسة "صوت" أن الإنجاز الحقيقي للمبادرة، هو إعداد خريطة بيوت الأمان الرقمية لأماكن دعم المرأة في مختلف المحافظات المصرية، وتشمل جميع البيوت التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي بشكل مباشر، والأخرى التابعة لجمعيات أهلية ولا تعمل تحت إشراف الوزارة. وتوفّر بيانات دقيقة مفعّلة بالـ GPS، "لو ست واقفة في سوهاج تضغط على أقرب نقطة وتعرف المسافة والوقت اللازم للوصول". 

في رحلة بحثها عن مكان آمن، وجهت المنصة محاسن للاتصال بالخط الساخن للوزارة 16439، وجرى توجيهها بالفعل إلى المركز الموجود بقرية الكوامل بحري، باعتباره أقرب مركز استضافة لها، وفيه يمكن أن تقيم لمدة تبدأ بـ3 شهور قابلة للمد حتى عام كامل. 

"دلوقتي مش نفسي في حاجة غير الأمان"، هذا كل ما تأمل فيه محاسن؛ أن تجد مأوى يحميها من زوجها وأهلها، وهو ما تراه لمياء لطفي أمرًا ليس سهلًا، فقصص نجاح لجوء المعنفات من الريف لدور استضافة "اسثنائية"، وقليلات منهن من لديهن القدرة والقوة للخروج من الدوامة.


(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر