
النساء يدفعن الثمن لأنه "مفيش راجل يستحمل كده"
عن "ساعته وتاريخه" وقضايا قتل وانتحار النساء
عرضت منصة Watch it في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مسلسلًا دراميًا تشويقيًا ومرعبًا، مقتبسًا عن جرائمَ حقيقيةٍ من أرشيف المحاكم المصرية، بعضٌ من ضحاياها نساء، هو ساعته وتاريخه، من إخراج عمرو سلامة وعمرو موسى وأحمد عادل، وتأليف الكاتب محمود عزت، وبطولة نجوم برنامج كاستنج، إلى جانب نخبة من نجوم الدراما المصرية، ويقدم تصورًا دراميًا للحظات التي تسبق ارتكاب الجريمة كاشفًا عن دوافعها وأسبابها في حلقات منفصلة.
هذا العرض يأتي في ظل توجهات سياسية بتهيئة مناخ يبدو داعمًا ومناصرًا للنساء، عبر توجيهات مستمرة بتحسين صورة المرأة المصرية وأدوارها الاجتماعية على الشاشة، استجابت لها العديد من المسلسلات من بينها فاتن أمل حربي، الذي يناقش العقبات التي تواجهها امرأة مطلقة بسبب معوقات التقاضي أمام النساء في قانون الأحوال الشخصية، لكنَّ المسلسل غرق في بحر من النمطية والمبالغة غير المبررة، ما حال دون اكتساب أرضية جماهيرية.
كما ظهرت مجموعة من المسلسلات التي تصور النساء على أنهن بطلات خارقات يتحدين المستحيل، طارحة صورة غير واقعية عن النساء وما تواجهنه من مشكلات حقيقية في المجتمع المصري مثل مسلسلات إلا أنا وعملة نادرة وحضرة العمدة.
النهايات المؤلمة ضريبة الجرأة
مسلسل ساعته وتاريخه لا يمكن إدراجه في هذه الفئة. وهو في تصوري، تميَّز بشيء من الجرأة التي تمثلت في منحه البطولة ومن ثَمَّ التعاطف الدرامي مع بطلات القصص اللاتي خرجن عن المعايير المجتمعية.
تبدأ الحلقة الأولى بإلقاء الضوء على حياة الفتاة الجامعية نادية، وترصد تفاصيل رحلتها اليومية من منزلها إلى الجامعة داخل أوتوبيس نقل عام، وتنتهي بطعنها على يد زميلها الذي يلاحقها في كل مكان، بسبب رفضها إقامة علاقة عاطفية معه. سرعان ما ربط الجمهورُ الحلقةَ بقضية نيرة أشرف، الطالبة بجامعة المنصورة، التي ذُبحت بدم بارد أمام جامعتها. كانت هذه الجريمة هي الأعنف، والأكثر مشهدية بحكم وقوعها على مرأى ومسمع من المارة.
تظهر هنا جرأة المسلسل في تجسيده شخصيات/ضحايا يرفضها المجتمع الأبوي؛ شخصيات تخرج عن معايير المجتمع. فنادية فتاة متمردة ترغب في أن تعيش في القاهرة مستقلةً، تمتهن التمثيل، وتمضي قدمًا في حياتها رغم الخوف والتهديد والقلق الذي يجبرها على تناول بعض الأدوية لتخفيف حِدّتَه.
قبل قتل نادية/مايان السيد، تحذرها زميلتها التي يبتزها القاتل بصور مفبركة، من وجوده بالقرب منها، فترد نادية بجرأة "طب أنا عايزاه يقرب وتشوفي أنا هعمل فيه إيه، ولما تشوفي أنا هعمل فيه إيه مش هتخافي من راجل تاني أبدًا". تجرأت نادية مرتين؛ مرة لقولاها "لأ"، ومرة أخرى لظنها أنها قادرة على حماية نفسها وزميلتها، فكان مصيرها الذبح بوحشية.
لم يختلف مصير فاطمة/أمنية باهي، بطلة حكاية الحلقة الخامسة "راجل البيت"، عن مصير نادية لكن الدافع للقتل كان مختلفًا. كانت فاطمة ضحية لجهل زوجها الذي له بالطبع الكلمة الأولى في تحديد مصير الأسرة. وهنا أيضًا، تنكشف علاقات القوة بين الجاني والضحية. ففاطمة بسيطة تخضع للأوامر، يهددها الزوج بالطلاق فتتراجع عن معارضته، لكنها لم تستطع رؤية ابنها يُقتل، فدفعت حياتها ثمنًا لإنقاذه من إجرام زوجها، الذي أوهمه شيخ دجال بأنه سيجد آثارًا ثمينة حين يذبح ابنه ترضيةً للجنّي حارس الآثار!
قضايا هزت عرش قيم الأسرة
لم يكن مسلسل ساعته وتاريخه الأول الذي يستلهم قضايا هزت المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، ففي 2021 عُرض مسلسل الطاووس الذي سرعان ما ربطه الجمهور بقضية فيرمونت.
أراد صنّاع العمل بوضوح أنْ يتعاطف الجمهور مع الناجية من جريمة الاغتصاب الجماعي، لكن الوسيلة التي اتكأوا عليها لتحقيق ذلك، هي انتقاء بعض التفاصيل من قضية فندق فيرمونت والتغاضي عن تفاصيل أخرى كالطبقة الاجتماعية للناجية مثلًا، وإضافة جزئيات تعيد إنتاج كليشيهات الدراما المصرية عن هذه الجرائم؛ لترسيخ الصورة النمطية لـ"ضحية" العنف الجنسي التي لا حيلة لها، والمُستحِقة للدعم طالما توّفر في نمط حياتها وسلوكها مجموعة من الشروط.
بعدها ظهرت أعمال قدمت طرحًا جريئًا ومختلفًا مثل أعلى نسبة مشاهدة الذي عُرِض في رمضان الماضي، وناقش قضايا فتيات التيكتوك كاسرًا حالة وصاية المجتمع على النساء، إذ حاول خلق تعاطف معهن كاشفًا عما يعشنه خلف الشاشات.
الصورة النمطية لـضحية العنف الجنسي لا حيلة لها،ويتوّفر في نمط حياتها وسلوكها مجموعة من الشروط
ومع ذلك، بدا موقف المسلسل من الفتيات مرتبكًا مشوّشًا، فالتعاطف الدرامي كان أقرب إلى التعاطف مع فتيات "أخطأن"؛ يطلبن السماح من المجتمع مما أوقع المسلسل في فخ الوعظ الدرامي لصياغة نهاية ترضي الرقابة.
امتدت هذه الجرأة إلى قضايا يتحسس منها المجتمع، حتى وإن كانت جرأة رشيدة، كالتي استخدمها مسلسل صلة رحم الذي عُرض في رمضان الماضي أيضًا؛ ليس لمناقشته تأجير الأرحام التي تعد القضية الأساسية للمسلسل فقط، لكن لطرحه الإجهاض بصورة جريئة وغير نمطية كحق للنساء في التصرف في أجسادهن، وتعرية تناقضات المجتمع المصري على لسان الطبيب خالد وحججه حول إجرائه لعمليات الإجهاض.
مفيش راجل يتحمل كده
يستمر مسلسل في ساعته وتاريخه، في كسر الأنماط التقليدية ففي الحلقة الثانية "ساعة شيطان" نكتشف جريمة قتل زوجٍ لزوجته، وحفظ جثتها في برميل على سطح المنزل. تقف الأم مع قاتل ابنتها، وتقول لحفيدتها التي اكتشفت الجريمة "أمك كانت ست مفترية، كانت بتضرب أبوكي"، مبررةً بهذه الكلمات جريمة قتل ابنتها.
إذا كانت مرتكبة العنف امرأة فهنا تُنفى عنها هويتها كامرأة في المقام الأول وتصبح "مفترية"
كنسوية، أتلقى وأسمع عشرات الشهادات عن العنف الأسري ضد النساء بشكل يكاد يكون شبه يومي. وقفت طويلًا أمام هذه الكلمات المعبرة، فالعنف صفة مرتبطة اجتماعيًا بالرجولة، أي الهوية الاجتماعية "رجل". ففي مجتمع أبوي محافظ يُصبح العنف حكرًا على الرجال، ومرتبطًا بهويتهم الاجتماعية وسلوكياتهم بالتبعية، ويكون مُنكرًا على النساء. لذلك تظهر النساء دائمًا مُستقبِلاتٍ للعنف، غير مُمارِسات له. الرجال يُمارسون العنف، والنساء يُمارس ضدهن هذا العنف. هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا.
يبقى الضرب شكلًا من أشكال العنف المُجرَّم أيًا كان مرتكبه، لكن هذه محاولة لتفكيك وفهم الرؤية السائدة للعنف الذي تتعرض له النساء بمباركة مجتمعية وقانونية أيضًا. فالغالبية العظمى من المصريات يتعرّضن للعنف الأسري، ولا يوجد نص قانوني لتجريمه، وتتجاهل الدولة مطالب النسويات بضرورة وجود قانون موحد للعنف ضد النساء. أما إذا كانت مرتكبة العنف امرأة فهنا تُنفى عنها هويتها كامرأة في المقام الأول، وتصبح "مفترية" كما وصفتها الأم، لتبرر جريمة قتلها.
الأبوية تقتلنا مرتين
تناقش الحلقة الثالثة من ساعته وتاريخه قضية الابتزاز الإلكتروني، وتعرض قصة فتاة ابتزها شاب حتى انتحرت. شهد المجتمع المصري العديد من جرائم الابتزاز الإلكتروني، التي انتهت بإنهاء الفتيات حياتهن. من أمثال بسنت خالد.
يستخدم المبتزون المعايير الأبوية في تنفيذ جرائمهم، وأيضًا في الإفلات بها. فطبقًا لدراسة أجرتها مبادرة Speak Up شارك 176 شخصًا تعرضوا للابتزاز، 90% منهم نساء، 10% فقط منهن تقدمن ببلاغات. وكان في المرتبة الثانية من أسباب عدم الإبلاغ: الخوف من الأهل، يليه الخوف من المجتمع.
يلعب الجاني على ذلك الوتر، لن تجرُؤ الفتاة على مواجهة أهلها بحقها في التصرف في جسدها، إذا كانت الصور غير مفبركة. وإن تجرأت وأبلغتهم، سيتخلون عنها مثلما فعل أهل ندى في المسلسل.
الأسرة التي تختزل وجودنا فيما تمثله أجسادنا ضمن ثنائية الشرف/العار
وهنا تتكالب مشاعر الخوف من الجاني ومشاعر الخذلان من تخلي الأهل، الذين هم المصدَر الأول والأساسي للدعم غير المشروط على الفتاة. وحتى إن كانت الصور مفبركة لن يجرؤ الأهل على مواجهة المجتمع وتحمل وصم الاشتباه في ابنتهم، هكذا يفلت الجناة بسهولة، وتقع الفتاة في الفخ.
تختلف الجرائم التي تدفع النساء حياتهن ثمنًا لها. مع ذلك، حين نفكر فيها، ربما يجب أن نسأل "من المسؤول؟" هل هي أجهزة تنفيذية تتواطأ مع الجناة ضد النساء وتتجاهل البلاغات مثلما حدث مع نيرة؟ أم هي المؤسسة القانونية والتشريعية التي تتغافل عن عدم وجود قوانين تحمي النساء داخل الأسرة مُعتبرةً ذلك شأنًا خاصًّا بالأسرة؟ أم هو المجتمع الذي يلوم بدوره الضحية ويتعاطف مع الجاني، أو في أفضل الأحوال يتعاطف مع الضحية بشرط خضوعها للمعايير المجتمعية؟ أم هي الأسرة التي تختزل وجودنا فيما تمثله أجسادنا ضمن ثنائية الشرف/العار، وتتجاهل الأذى الذي نتعرض له حتى لو كان هذا الأذى جريمة قتل عمدية؟
إجابات هذه الأسئلة تضع محاولات الدولة المستمرة لتحسين أوضاع المرأة المصرية وتمكينها، في موضع اختبار حقيقي لمدى جديتها ورغبتها في تحقيق ذلك.
لم يعالج المسلسل قضايا القتل على خلفية الرفض وتعاطف المجتمع مع الجاني والتشكيك في أخلاق الضحية مثلما حدث في جريمة نيرة أشرف التي تلتها عدة جرائم بنفس النهج، ولم يتطرق لقضايا العنف الأسري ضد النساء بسبب فورمات المسلسل وتركيزه على الساعات الأخيرة قبل وقوع الجريمة والمشاعر المرتبطة بها.
مع ذلك، أراه عملًا دراميًّا مهمًّا يعالج أحداثًا مروعة، وقعت خلال الأعوام الماضية. مسّني العمل كامرأة مهتمّة بقضايا العنف ضد النساء، ورأيته نقطة ضوء وسط أعمال دراميّة أخرى لم أرَ نفسي وقضايايَ مُمثلةً فيها.
سبَّب لي المسلسل رد فعل عاطفيًّا وأشعل بداخلي غضبًا، ليس لقسوة الجرائم التي عالجها فحسب، بل ليقيني بأن هذه الجرائم ستظل تتكرر، كما يقول الصحفي اللبناني إبراهيم الغريب "من المؤلم أن نكون على يقين بأنها لن تكون الجريمة الأخيرة طالما ما زلنا تحت وطأة نظام أبوي متسلط، ومجتمع يستطيع أن يسأل بكل وقاحة بعد كل جريمة من هذا النوع: ماذا فعلت الضحية لكي تُقتل؟".