في صغري، حين كانت أمي ترغب في إيصال رسالة "غير مباشرة" لي، كانت تختار مشهدًا في فيلم أو مسلسل يقدِّم رسالته بطريقة مباشرة وخطابية، ثم تتبادل هي وأبي تلاوة دروس الأخلاق عمومًا، وحتمية نهاية رحلة البطل السيئة، خصوصًا، لأنه حاد عن الطريق الصحيح.
كرهت هذه الأعمال الفنية المباشرة والدروس التي كانت تضيّق الغرفة عليَّ، فأتحجج بأي شيء لإنهاء المشهد التمثيلي السيئ، كله؛ القادم عبر الشاشة والموجود في محيط الغرفة. لم تنفعني هذه الدروس في أيِّ مرة، ولم أحبها.
أفضل ما صنعه مسلسل أعلى نسبة مشاهدة أنه أعفانا من هذه الدروس. ألهانا عن "الخناقة" وجلسات المحاكمة المجتمعية لفتيات تيك توك والممتدة طوال سنوات، وجعلنا نشاهد أنفسنا، بيوتنا، قصصنا بشكلٍ أو بآخرٍ، في عمل فني منسوج بجمال وصدق وواقعية.
لفت نظري ما كتبَته صديقة على فيسبوك، أنها ترى نفسها في شخصية شيماء؛ لمستها، روحها الحرة، وحركاتها الرشيقة، فشاركت صورتها في مشهد شارع المعز وهي ترقص بخفة. كانت شيماء شفافة فرأينا أنفسنا فيها، أنا أيضًا فعلت، ليست صديقتي وحدها.
لو كُتب المسلسل بطريقة أمي وأبي في توجيه التحذيرات والإدانات، لما رأينا أنفسنا في شيماء. ما نجح المسلسل فعلًا في تحقيقه، وأخفقت فيه بيانات النيابة العامة ومعركتها في "الدفاع عن قيم المجتمع"، هو أنَّه قدم لنا المجتمع نفسه، قدَّمنا نحن، لم يأتِ بأستاذٍ وعصا، ليلقنا الدرس.
أن نتماهى
قبل نحو عامين، حضرتُ ورشة نقد سينمائي مع الناقد عصام زكريا، قال فيها إنَّ ما يميز التمثيل عن غيره من الفنون، أنه يدور في دوائر ثلاث؛ الذات والمجتمع والعالم، وكلما كان العمل محبوكًا ومتقنًا ومنسوجًا بدقة، نجح في جعل المُشاهِد يتصل بهذه الدوائر كلها.
أن ترتبط كمشاهد بشخصية ترى فيها آلامك وهمومك، وأن ترتبط هموم الشخصية وآلامها بمحيطٍ أكبر؛ أسرة أو شلة أصدقاء أو مجتمع، ثم محيط أكبر هو العالم بأزماته وأسئلته وقيمه، هذا هو التماهي. ما أن يحقق العمل الفني هذه الخلطة، تزول أهمية اللغة، فحتى لو كان صامتًا سيُلهمك، وستظل تتذكره.
من هذا المنطلق، "أعلى نسبة مشاهدة" هو عمل متقن، ربطني بشيماء، التي تحلم بأن تكون فتاة عادية، أحلامها أقل من البسيطة، تعاني اضطهادًا وتنميطًا وتنمرًا من محيطيها الضيق والواسع، وبالصدفة، أصبحت مشهورة. تبدَّل حالها، ومع ذلك لم تتبدل في يوم وليلة، فهي مثلنا، مرَّت بتغيرات على مراحل، تركت كلٌّ منها أثره فيها. وفي كل مرحلة نظل نحبها، ونتعاطف معها، ونرى فيها ذواتنا.
صحيحٌ أنَّ المسلسل مع تقدُّم حلقاته بدأ يفقد ما أبهرني في البداية، عندما تنجرُّ البطلة لما يعتبره محيطها الضيِّق وطبقتها الاجتماعية "عيبًا وحرامًا"، فتتسرب الإدانة على لسان الأم مرة، وعلى لسان شيماء نفسها وهي تتشاجر مع شقيقتها، ومرة ثالثة على لسان الأخت الأكبر. لكنَّ السياق الذي يحدث فيه كلُّ ذلك مقنعٌ، ومتوقع أن يصدر عن هذه الشخصيات في هذه الطبقة.
مسلسلات تيك توك
ولأنَّ للمسلسلات موضةً، كان انطباعي الأول عن المسلسل سلبيًا لأنني لا أنجذب للقضايا المستهلكة، منها التوظيف الدرامي لتيك توك. أكره الازدواجية، نستخدم تيك توك ثم نحاكمه، فيصبح انتقاده أكثر ابتذالًا من أكثر محتوىً مبتذل قد أشاهده هناك.
وربما بسبب عقدة الدروس الأبوية أيضًا، اعتقدت أني لن أكمل المشاهدة. لكن ومع توالي الحلقات، أصبحت أنتظره، وأتكلم عنه، ثم أنصح بمشاهدته.
أزال "أعلى نسبة مشاهدة" تجربتي السيئة مع مدرسة الروابي في جزئه الثاني، لأنَّ دروس "احذروا الشهرة.. احذروا تيك توك" لن تفيد أحدًا.
يحكي مدرسة الروابي عن سارة، الطالبة المنبوذة بين زملائها، التي لا تلفت انتباه أحد بينما تتمنى أن تصبح مشهورة. وبالصدفة، يركب أحد فيديوهاتها الترند، فتصبح الفتاة غير المرئية نجمة المدرسة.
ترغب سارة في مجاراة رفيقات أغنى، فتستجيب لطلب بسيط بتصوير "مانيكير قدميها" مقابل 300 دولار، وبعدها تتعرض لابتزاز إلكتروني، تستجيب له أمام عجزها عن مواجهته، وتُفضح في المدرسة في نهاية المطاف، رغم أنني لا أدري الجرم الكبير الذي يستحق كل رد الفعل هذا، هي فقط فتحت أزرار القميص، لم تتعرَّ.
المهم أنَّ سارة تُوصم، ويُسجن أخوها الأصغر بسببها، وتجري الأحداث في سلسلة من المبالغات لتقدِّم دروس أبي وأمي. وفي النهاية، تلقي سارة بنفسها الدرس الأخير المستفاد، وتحذرنا من أن نصبح مثلها.
ولأنَّ هناك في مدرسة الروابي شخصيةً تموت كلَّ موسم انتحرت فتاة أخرى كانت مثل سارة غير مرئية على نحوٍ ما. تناول المسلسل قضايا مهمة مثل التنمر ومرض اضطراب الأكل والابتزاز الإلكتروني، لكنه كان ثقيلًا مُملًا في كل حلقة.
نجح مسلسل أعلى نسبة مشاهدة في كسر هذا النمط. صحيح أنه يتناول القصة نفسها تقريبًا، مع اختلاف دوافع الشهرة لدى سارة وشيماء لاختلافهما الطبقي، فضلًا عن الفرق بين الأردن ومصر، لكنه تفوق على الروابي في الحرفية وروحه الفنية والوعي الطبقي، والأهم أن شيماء لم تصرخ في وجهي مثل سارة، "اوعي تبقي زيي".
قدم "أعلى نسبة مشاهدة" لأول مرة موهبة ليلى أحمد زاهر، ورغم انتقاد من اعتبروها مبالغة في أدائها، لكني رأيت شخصيات في الواقع تتحدث بنفس طريقة اعوجاج الفم، ربما فقط هم لم يحتكوا بهذه الطبقات.
أثبت لنا المسلسل أيضًا أنَّ التطور ممكن في الفن، والموهبة قد تُولد بالمثابرة والتجارب والتدريب، مُجسدًا في سلمى أبو ضيف.
أعرف آمال أيضًا، رأيتها كثيرًا في بيوت منطقتي الشعبية بحي العمرانية، أو حي الجمالية، حيث بيت جدي. من شدة إتقان فرح يوسف في أداء الدور أشعر أنني سأصادفها في الشارع.
خطوة للوعي
توجه المسلسل تدريجيًّا نحو مواءمات تُرضي "قيم المجتمع" في تقديم دوافع فتيات الطبقات الدنيا وواقعهن، وأثر مغازلة حلم الشهرة والمكسب السريع، ثم أدانهم بدلًا من الدفاع عن حريتهم على طول الخط. لكن رغم ذلك، يكفيني أنه عند ذِكر مودة وحنين وغيرهما في المرات القادمة، سيخجل المجتمع من أن يسلط سوطه عليهن مباشرة.
لن يضمن المسلسل، أو حتى الأعمال الأكثر وعيًا ونسويةً منه، ألَّا تواجه أخريات الاتهامات ذاتها في المحاكم، لكنَّ الدراما تلعب دورًا مهمًا في تغيير الوعي شيئًا فشيئًا. قبل المسلسل، كان الكثيرون يرون مودة وحنين "فاجرتين تستحقان الرجم"، الآن يكفيني أن نُحدث هزة في هذا المجتمع.
ربما في أعمالٍ أخرى، سيكون بإمكاننا أن نغوص بعمقٍ أكثر في مساءلة هذا المجتمع: لماذا يحاكمنا من الأساس على اختيارات شخصية لا تضرُّ أحدًا، لماذا تصبح السلطة راعيةَ القيم؟ لماذا تتركنا السلطة للفقر ثم يجلس على منصة القضاء من يستند إلى قوانين ذكورية لسلب الفتيات والنساء أعمارهن؟