الدراما، مهما صغر شأن كاتبها، ومهما تفهت حواديتها، فإنها تحمل معنى ما. وكل قصة أُلِّفت، تعكس رؤية للمجتمع والعالم، مهما صغرت هذه الرؤية أو تفهت. وحين تجتمع قصص وحكايات حول موضوع واحد في مجتمع واحد وزمن واحد، فهي لا تعكس فقط وجهة نظر فردية، ولكن رؤية جمعية، تمثل أغلبية أو قطاعًا كبيرًا من هذا المجتمع.
تشغل صورة الأب مكانًا ومكانةً كبيرين في المخيلة الإنسانية، باعتباره النمط الذي بُنيت عليه المجتمعات والدول في آخر ثلاثين قرنًا من عمر البشرية، وذلك منذ أن تحول الرجل إلى رب الأسرة، مطيحًا بالأم التي كانت تشغل المكانة الأساسية في المجتمعات الأقدم.
ورغم أنَّ هذه الحقبة البطريركية من عمر البشرية بدأت تختل منذ قرن تقريبًا، مع صعود حركات النساء في العالم، ومحاولتهن استعادة بعض حقوقهن ومكانتهن القديمة، فهي تواجَه في العالم العربي بأكبر قدر من المقاومة، والتشبث المستميت بالتفوق الذكوري.
كل هذا، وغيره، من نوافل القول، لا أريد من ورائه سوى أن يكون في أذهاننا، ونحن نتأمل هذا الاستعراض الذكوري الهائل والمهووس بنفسه في مصر خلال العقد الأخير، في محاولة ليس فقط لقمع الصعود النسوي المتزايد، ولكن أيضًا لقمع كل مظهر أنثوي، من الأجساد والوجوه وحتى الطبيعة!
لا غرابة إذن أن يكون لصورة الأب حضور طاغٍ في مسلسلات رمضان الماضي، بأشكال مختلفة، تسعى إلى تأسيس وتقديس هذه الصورة، أو على الأقل ترميمها، وفي حالات نادرة نقدها ومعارضتها.
فيما يلي سأناقش صورة الأب في عدد ضخم من مسلسلات موسم رمضان؛ بابا جه، وخالد نور وولده نور خالد، وإمبراطورية م، وبيت الرفاعي، ومسار إجباري، وصلة رحم، وبدون سابق إنذار.
إعادة تأسيس الأبوة
يقوم مسلسل بابا جه على فكرة إعادة تأسيس الأبوة في العصر الحالي، حيث يتمتع الأبناء بحقوق لم تكن متاحة للأجيال القديمة. الابنة، التي تؤدي دورها الطفلة الموهوبة لافينا نادر، تستمع إلى مشاجرات والديها أكرم حسني ونسرين أمين، بعد أن فقد الأب عمله منذ جائحة كورونا. وخلال المشاجرة، تصف الأم الأب بأنه "مالوش لازمة".
الابنة، المستاءة من أبيها بسبب استيلائه على الأموال في حصالتها، وعدم شرائه فستانًا لها ترتديه في حفل المدرسة، تصعد إلى مسرح المدرسة في الفقرة التي يتبرع فيها الطلبة بأشياء لا يحتاجون إليها، وتعلن أنها متبرعة بأبيها لمن يريده، لأنه "مالوش لازمة"، وبالفعل يعلن طفل يتيم بأنه يريد هذا الأب.
هذه الانتكاسة المؤلمة التي يتعرض لها "الأب" تكون بداية لعملية إعادة تكريس "الأبوة" بشكل أكثر قوة. يذهب هشام لقضاء يوم مع الطفل الذي يشعر بالسعادة الغامرة، وتعرض عليه الأم أن يقضي المزيد من الأيام مع الولد مقابل أجر، وتتطور المسألة، حتى يتحول إلى "أب بالإيجار"، ليتبين أنَّ معظم الناس يريدون أبًا، لسبب أو آخر!
تحمل الحلقة الأخيرة عنوان "أبو هشام"، حيث يظهر هشام في برنامج تليفزيوني يتحدث بجدية، شارحًا العبرة من المسلسل، فيروي أنَّ أبيه كان تقليديًا صارمًا، ولذلك أصبح هو متساهلًا ومتسامحًا مع ابنته، وأنَّ على الآباء أن يفهموا أنَّ أبناءهم في أمسِّ الحاجة إليهم، أكثر من المال والعمل، وأن عليهم قضاء وقت أطول معهم.
بعد نهاية الحلقة، يظهر والد المذيعة الذي سارع بالحضور إلى الستوديو بعد مشاهدته الحلقة (دعك من استحالة حدوث ذلك في الواقع) ليعتذر لها عن إهماله ويسألها إذا كانت لم تزل تحتاج إلى أب، لتتألق الدموع في عينيها، وهي المذيعة الكبيرة الشهيرة الثرية، فرحًا باستعادة أبيها.
أما هشام، فيرى صورة لأبيه بحوزة عمته، فيتأملها ويتحدث إليها، بعد أن قرر أنَّ أباه كان على حق في أسلوب تربيته له، ويقرر أن يعمل بنصائحه، ثم يفتح محل كشري يطلق عليه "أبو هشام"!
في المشهد الأخير، يوبخ هشام مراهقَين أتيا إليه طلبًا لأب بدلًا من أبيهما المشغول عنهما، فيخبرهما بأنه غائب لأنه يعمل من أجلهما!
دعك من تصدعات السيناريو، فهشام لم يهمل ابنته، بداية، بسبب انشغاله بالعمل، بل سبب المشاكل أنه لم يكن يعمل. والدرس الذي يعطيه للمشاهدين في الأبوة مشوش، إذ يطلب منهم ألَّا يشغلهم العمل عن أطفالهم، بينما يفعل هو ذلك في المشهد التالي عندما يقرر البقاء مع ابنته، ولكنه يخبر صورة أبيه بأنه كان على حق في صرامته، ويطبق هذه الصرامة مع المراهقَين في آخر مشهد.
ربما كانت العبارة الأفضل التي ذكرها في لقائه التليفزيوني هي أنه لا توجد وسيلة واحدة ناجحة لكي يكون المرء أبًا جيدًا، لكنه لم يذكر أن هناك عشرات الوسائل لكي يكون المرء أبًا فاشلًا. وأسباب هذا الفشل "شخصية" تتعلق بالأب كفرد، ولكن هناك أيضًا أسبابًا أكثر عمومية، مثل الأزمة الاقتصادية وصراع معظم الآباء من معظم الطبقات في سبيل البقاء، ومنها غياب أساليب وثقافة التربية، بين رجعية قاسية حد العنف الإجرامي أحيانًا، وتدليل وتساهل حد الإهمال والتسيب في أحيان أخرى.
رابطة المخ!
يبدأ مسلسل "خالد نور وولده نور خالد" بفكرة ألمعية: صبي يتوفى أبوه عالم الذرة وأمه في حادث تجربة نووية تتسبب فيه الأم، يكبر وهو يحلم بالحادث، ليكتشف ذات يوم أنَّ هناك نسخة أخرى من أبيه وأمه، ومنه شخصيًا، لا تزال حية، بعد أن نجوا جميعًا من الحادث!
يخوض مغامرات لإقناع أبيه والآخرين بما حدث، ما يؤدي إلى الاعتقاد بأنَّ الأمر نتج عن التعرض للإشعاع، ولكن في نهاية الحلقات يتبين أنَّ ما حدث بالفعل هو أنَّ الشاب كان تعرض لحادث، فنقل أخوه (جراح المخ والأعصاب) خلايا من مخ الطفل، ابن عالم الذرة، إلى مخ بطلنا، ما أدى إلى اعتقاده بأنه هو ذلك الطفل!
بعيدًا عن القصة، ومشاكل المسلسل الفنية كتابة وتنفيذًا، فإنَّ الشاغل الأساسي للعمل بداية من العنوان هو العلاقة بين الشاب وأبيه، أو من يتصور أنه أبوه. أما الأم، فهي موضع سخرية الأب والمسلسل طوال الوقت، وحب الابن لها لا يقارن بحبه وتعلقه بأبيه.
يمكن أن نفكر في هذا الارتباط بشكل أفضل إذا تخيلنا أنَّ ما يحدث هو العكس، وأن الشاب تعلق بشابة في مثل عمره معتقدًا أنها أمه! في هذه الحالة كانت القصة ستحيلنا إلى تضمينات تتعلق بالحب بين الجنسين وكيف تؤثر العلاقة مع الأبوين على اختيار الشخص الذي نقع في حبه، وإلى طرافة العلاقة بين الشاب والفتاة التي يعتقد أنها أمه.
ولكن ما ذهب إليه خيال صناع المسلسل هو العلاقة بين الشاب وأبيه، باعتبارها الركيزة الأساسية لتكوينه النفسي وشاغل حياته، وأيضًا إلى فكرة النسب الذكوري (أو الانتساب للأب) باعتباره الهوية الأساسية.
يتضح هذا الهوس بالعلاقة الذكورية إذا لاحظنا الطريقة التي تُصور بها النساء في هذا المسلسل، فليست الأم (زوجة خالد نور) فقط هي البلهاء، ولكن كذلك زوجة الابن، وزوجة الأخ التي تفتعل المشاجرات وتطلب الطلاق كل نصف ساعة. كلهن يعانين من أعراض الهيستيريا والضعف العقلي.
ويزداد الشك حول تضمينات هذه الروابط بين الابن وأبيه المتخيل، إذا لاحظنا كم الإفيهات الجنسية حول العلاقة بينهما.
الإمبراطورية المفقودة
"إمبراطورية ميم" مقتبس عن قصة بالعنوان نفسه لإحسان عبد القدوس، سبق تحويلها إلى فيلم شهير بطولة فاتن حمامة وإخراج حسين كمال عن سيناريو لنجيب محفوظ. والمقارنة بين النسخ الثلاثة للعمل، تبين فكرتنا بوضوح.
نُشرت قصة إحسان عام 1965 ضمن مجموعة "بنت السلطان"، وهي تدور حول أب وزوج شرقي، هو راوي القصة، لديه ستة أبناء كلهم ذكور، ويحلم بأن ينجب كلٌّ من أولاده ستة ذكور آخرين، يطلقون على كل منهم اسمًا يبدأ بحرف الميم، لكي يحقق إمبراطوريته "الذكورية" العظمى.
لكنَّ ابنه الثاني، مجدي، غريب الأطوار ومتمرد، على عكس إخوته، فهو يحب القراءة، ويؤسس مكتبة عامة في المنزل، جذاب للفتيات، يهتم بالسياسة، ومن أنصار "الاشتراكية الديموقراطية". وعقب مناقشة حادة بين الأب وابنه حول أحقية الأب التحكم في أبنائه، يقنع الابن أمه وأخوته بإجراء انتخابات "سياسية" في المنزل، ليختاروا صاحب السلطة في إدارة شؤونه. لكن عندما تجرى الانتخابات يكتشف الأب أنَّ الجميع اختاروه، بمن فيهم مجدي!
قصة إحسان بسيطة ومباشرة، لكنها تحمل لغة مبالغ فيها ونبرة تهكم تجعلها قابلة لعدة قراءات متناقضة، على السطح تمتدح الأب/الزعيم/عبد الناصر، وكونها تروى على لسانه، فهي تفسح المجال لوجهة نظره، لكنَّ الاكتفاء بصوته يعني أنَّ روايته ذاتية، وبالتالي لا تتورط في إصدار رأي تجاهه، وإن كانت تنتقده بشكل مبطن.
في نهاية القصة عقب فوز الأب بالإجماع، قرروا انتخاب مجلس إدارة، وحصل على أعلى الأصوات الزوجة والابن الأكبر (يعني الانتخابات أسفرت عن البناء الهيراركي نفسه!)، ويقول الأب/الراوي "لم ننتخب مجدي، خفنا من تطرفه"!
ثم تنتهي القصة بعبارة "لقد أصبحت إمبراطورية ميم جمهورية اشتراكية ديموقراطية. والعمارة كلها تتحدث عن تجربتنا"، وهي عبارة تحمل من السخرية أكثر من الجدية!
في فيلم إمبراطورية ميم (1972، بعد وفاة عبد الناصر)، قام نجيب محفوظ بقلب القصة واستبدل الأم بالأب، وجعلها أرملة، وجعل الأبناء من الجنسين، ومن الطريف أننا نجد نقاشات حول أساليب التربية والحرية، خاصة البنات، وعالم المراهقين، تتلاءم مع ليبرالية بداية السبعينيات، وقد تبدو جريئة بمقاييس الانتاج الآن، وبمقاييس مسلسل إمبراطورية ميم، المحافظ للغاية!
على عكس عبد القدوس الذي يناقش السلطة الأبوية الذكورية، ويعيد تأسيسها، أو نقدها، حسب قراءتك للنص، فإنَّ نجيب محفوظ يعيد الأسرة (والمجتمع) إلى سلطة الأم، ويعمل على إعادة تثبيتها، بشرط أن تظل أمًا فقط في النهاية، متخلية عن أنوثتها برفض الخطيب المنتظر!
المسلسل الرمضاني الذي كتبه محمد سليمان عبد الملك، يجعل الشخصية الرئيسية هو الأب، كما في القصة الأصلية، ولكنه يأخذ من الفيلم عدة أشياء، منها تنوع جنس الأبناء، وكون البطل أرملًا.
ومن أجل إطالة عمر العمل إلى ثلاثين حلقة مملة، يضيف خطوطًا فرعية منها الثيمة النمطية حول رفض البطل لبيع "الفيلا" لشركة تقوم بغزو الحي لتحويله إلى مجمع سكني استثماري، وتروّع الملاك لاجبارهم على البيع على طريقة مسلسل "الراية البيضاء"، وبالطبع يمثل الأب قيم التمسك بالهوية والدفاع عن موطنه والتصدي للشركة ولأبنائه الطامعين.
وبهذا يتحول العمل إلى التشدق بمثالية الأب، وتصوير كفاحه ومعاناته من أجل أبنائه، خاصة الأكبر، ولكن مع نهاية الحلقات يكون تطويع الابن تم، ليعود إلى طاعة الأب معترفًا بحكمته.
الميراث القاتل
يبدأ كلٌّ من "بيت الرفاعي" و"مسار إجباري" بمقتل الأب. يرصد الأول صراع الأشقاء وأحد الأعمام وابن عم ثانٍ مات مبكرًا. يُتهم الابن الأكبر بأنه قاتل أبيه ويهرب لإثبات براءته التي تتحقق بعد ثلاثين حلقة مع اكتشاف أنَّ ابن العم وراء كل الجرائم. أما في "مسار إجباري" فتقتل عصابة إجرامية الأب لمنعه من الاعتراف بأنه تقاضى رشوة لإلصاق تهمة قتل فتاة بشخص بريء. ويتبين أنَّ هذا الأب متزوج على زوجته الأولى، دون علمها، ولديه ابن من زوجته الثانية. ويتعين على الشقيقين و"الضرتين" التحالف ضد هذه العصابة.
في كلا العملين، وعلى طريقة فيلم العار، فإنَّ الأب الميت مجرم، لا يعلم أبناؤه شيئًا عن أخطائه. في "بيت الرفاعي" هو تاجر آثار خطير، وهي جريمة يتعامل المسلسل معها بخفة، بل ينتهي بمشهد فلاش باك للأب في شبابه، مع شقيقيه وزميليه في تجارة الآثار، يستمعون إلى نصائح أبيهم العصامي بأن يعيشوا في بيت واحد، ويتوحدون حتى لا يستطيع أحد هزيمتهم، ويبرز المسلسل بشكل خاص الابن المطيع الذي يتوحد مع كلمات أبيه، ويصبح لاحقًا كبير العائلة تاجر الآثار!
يدين "مسار إجباري" الأب، ولكن بما أنه مات بالفعل، فلا تجوز عليه سوى الرحمة وطلب السماح، كما تردد الزوجتان والأبناء. على أي حال، تستكشف ثيمة ميراث الأب المجرم فكرة مدى قبول الميراث المتزمت وتأثيره المدمر على الأبناء، ولعل أفضل فيلم عالج هذه الثيمة هو "المومياء" لشادي عبد السلام.
من المناسب هنا أيضًا تتبع علاقات الأبناء بميراث الأب المجرم، والصراع بينهم، أو التوحد ضد عدو مشترك. الفكرة في "مسار إجباري" تبدو "هندية"، لعل أشهر مثال لها هو فيلم Amar Akbar Anthony، الذي لعب بطولته أميتاب باتشان، وهو فيلم عشقه الجمهور المصري في ثمانينيات القرن الماضي. وبالطبع ثيمة الإخوة الذين لا يعرفون بعضهم لها جذورها في ألف ليلة وليلة، والقصص الفرعونية واليونانية، وقصة موسى وأخيه هارون، وغيرها.
تستمد تلك الثيمة جذورها من الفكرة الدينية/الفلسفية بأنَّ كل الناس إخوة، وأبناء أب واحد، ولذلك عادة ما تستخدم دراميًا للتعبير عن الإخاء والإنسانية والوحدة الوطنية، ولكن كل عمل يحمل موقفَ وفلسفة كل صانع.
الأبوة والأمومة والبنوة مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالنسب البيولوجي
حين تدور القصة، مثلًا، حول علاقة النسب البيولوجي باعتبارها أهم رابط بين المرء وأبيه، أو أخيه، فإن المعنى هنا هو توحد الشقيقين البيولوجيين في مواجهة الأغراب أو أبناء العم، عملًا بالمثل الشائع "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".
وفي الحالتين تظل علاقة النسب هي الأساس، حسب درجتها. وهو تفكير تقليدي قبلي تحول إلى عماد المجتمعات الأبوية القائمة على صلة النسب الذكوري، وسوف تجد أمثلة كثيرة على هذا بجانب بيت الرفاعي، ومسار إجباري.
ترايلر مسلسل مسار إجباري (2024)
ولكن حين يعالِج الموضوع قصة نسب أمومي، فالمعنى يختلف. ومن أشهر النماذج على ذلك مسلسل هو "نجيب زاهر شركس" ليحيى الفخراني، الذي عرض قبل عامين، والمأخوذ عن مسرحية إيطالية بطلتها امرأة لديها عدد من الأبناء من رجال مختلفين، حيث يتعين على بطل المسرحية أن يبحث عن ابنه البيولوجي ثم يتعلم أن يحبهم جميعا بقدر متساو. طبعا فكرة المسرحية تم تدميرها في المسلسل المصري.
حدث ذلك هذا العام في مسلسل "صلة رحم"، حيث تم إعلاء شأن البيولوجيا فوق أي نسب أو انتماء آخر. فهذا العمل الذي يجري الاحتفاء به يكرس فكرة النسب البيولوجي، إذ كان بإمكان الزوجة التي حُرمت من الانجاب عقب حادث تسبب فيه الزوج، أن تتبنى طفلًا، ولكن بما أن المجتمع لا يفضل النسب البيولوجي، بل لا يعترف بالتبني أصلًا، فإن الحل الوحيد الذي يصبح متاحًا أمام الزوج هو التلقيح الصناعي من خلال امرأة أخرى، ولكن بما أن التلقيح الصناعي مرفوض دينيًا، بفتوى رسمية داخل المسلسل على لسان الداعية خالد الجندي(!)، فإن الزوج في إصراره على عمل هذا التلقيح الصناعي يُصوَّر كمجرم زنيم يلقى مصرعه في النهاية، نتيجة ارتكابه فعلًا حرامًا.
"صلة رحم" يكرس النسب البيولوجي باعتباره النسب الوحيد الممكن، ولكنه أيضًا يحرّم "تأجير" رحم آخر يتم من خلاله هذا النسب البيولوجي.
على أي حال، كان يمكن للمسلسل أن يكون محركًا للتفكير والنقاش لو لم يعتمد ميلودرامية ثقيلة تنزع إلى أخلاقية زاعقة في نهاية المطاف.
استثناء مدهش!
من الطريف أيضًا المقارنة بين مسار إجباري وعمل رمضاني آخر هو "بدون سابق إنذار". الأول يوطد فكرة النسب الأبوي، حتى لو كان هذا الأب شخصًا سيئًا، بل مجرمًا، وبموته ينتقل الشر كله إلى أبناء العم أو الأغراب، وهي أفكار تتردد، كما ذكرت، عبر أعمال أخرى مثل "بيت الرفاعي" وغيره.
لكن المدهش في "بدون سابق إنذار"، بجانب المستوى الفني المدهش في العمل، كتابة وإخراجًا وتمثيلًا.. إلخ، هو أنه يُعلي من قيمة الرابط غير البيولوجي، ويستطيع، عبر حبكة بالغة الذكاء، أن يَعرِض فكرة ربما تصدم الكثيرين من مهاويس النسب الذكوري.
يكتشف زوجان شابان عقب مرض ابنهما أنه ليس ابنهما، بل استُبدل به في المستشفى بعد الولادة، وفي نهاية رحلة طويلة من البحث يعثران على ابنهما الحقيقي بالفعل، مع أم أخرى لم تكن تعلم أيضًا بما حدث. ولكن سواء بالنسبة للزوجين أو الأم، فهم يشعرون بالحب والارتباط بالابن الذي عاشوا معه، وليس لديهم أي استعداد للتخلي عنه.
يكرس العمل هنا لأنَّ الأبوة والأمومة والبنوة مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالنسب البيولوجي، ولكن من خلال العلاقة الإنسانية، وينتهي بتكريس أن بإمكان الحب أن يتجاوز هذه الاختلافات، بل أيضا بإنشاء أسرة جديدة مشتركة بين الثلاثة لا تقوم على النسب الذكوري البيولوجي!
أخيرًا، قد لا يقدم هذا المقال عرضًا كاملة لصورة الأب في الدراما الرمضانية، لأن اكتمال هذه الصورة يقتضي أن نقارن هذه الأعمال بغيرها من المسلسلات التي تلعب بطولتها نساء، وبصورة النساء في هذه الأعمال بشكل عام، وهو موضوع آخر شرحه يطول.