تصميم المنصة

ظاهرة الإنفولونسرز والنظر إلى ما هو أخطر من الجنس

منشور السبت 14 يونيو 2025

في فيلم ريستارت الذي طُرح في دور العرض نهاية الشهر الماضي ويلقى "نجاحًا مبهرًا" حسب حملات الدعاية التي تروج له، يلعب تامر حسني شخصية محمد؛ فني الموبايلات الذي يوقِّع وخطيبته عفاف/هنا الزاهد، وهي إنفولونسر محدودة الحضور على الإنترنت، وعدد من أفراد أسرتيهما، عقدًا مع "الوكيل الرقمي" باسم سمرة للعمل إنفولونسرز يبثون كل ما هو مثير وغث وسخيف، ما سيدر أموالًا طائلةً، لكنه أيضًا يجلب عواقب تدفعهم إلى الغوص في أعماق البحار لقطع خطوط الإنترنت عن مصر.

في "ريستارت"، كغيره من الأعمال التي ناقشت الفكرة نفسها في السنوات الأخيرة مثل صدفة وفراولة وأعلى نسبة مشاهدة وعتبات البهجة، تتلخص مخاطر السوشيال ميديا في جانب واحد منها؛ ذلك المتعلق بالجنس وفضائحه. ربما باستثناء مسلسل كامل العدد +1، الذي كان لافتًا تناوله للآثار الوخيمة لظاهرة استخدام الأطفال للعمل إنفولونسرز.

تكتشف عفاف ومحمد أن الوكيل/الكفيل الرقمي، يستخدم أفراد الأسرة في صناعة "محتوى إباحي"، وأنه يحتفظ لبعضهم بصور عارية لابتزازهم، ولا يكاد يخلو فيلم أو مسلسل مصري اليوم من شاب يبتز فتاة بصورة عارية حقيقية أو مفبركة.

يعكس ذلك في تصوري هوسًا جنسيًا لم يزَل يعاني منه هذا المجتمع، رغم مرور عقود من الانفتاح على العالم وفيضان المعلومات والمحتوى والصور والأفلام "الإباحية" وما بعد الإباحية.

ولا أقصد، طبعًا، أن التوسع في بيع الإنفولونسرز محتوىً جنسيًا على السوشيال ميديا ليس خطيرًا، ولكن أقصد أنه قد يكون أقل خطورة من جوانب أخرى مثل ترويج الخرافة والجهل والإضرار بالصحة ونصائح التربية والتنمية البشرية الخاطئة وترويج المخدرات والسلع المغشوشة إلخ إلخ إلخ!

ولست أقصد، قطعًا، أن أناقش حق صناع الأفلام والدراما المصريين في معالجة الموضوع من الزاوية التي يرغبون فيها، لكنني أرى أن تركيز الجميع تقريبًا على الجانب الجنسي فقط من هذه الظاهرة يعكس هوسًا عصابيًا عامًا، غالبًا ما يتسبب في التعمية على الجوانب الأخرى، الأكثر خطورة.

https://www.youtube.com/watch?v=thdQ5IyPJD0

مخاطر أخرى مدمرة

في حوار له مع الصحفية اللبنانية جمانة حداد، يقول الأديب وعالم اللغويات الإيطالي أمبرتو إيكو "الكمبيوتر، على غرار كل الأدوات الأخرى (التي اخترعها الإنسان)، يولّد عصابه النفسي الخاص. هناك مثلًا فيما يتعلق بالإنترنت ظاهرة 'الإبحار القهري' التي يغدو معها الإنسان غير مهتم بما يراه بقدر ما هو مهتم بالقفز من مكان إلى مكان إلى حد يفقد معه السيطرة على نفسه. ويذكّرني ذلك بظاهرة الـzapping المرضية التي برزت مع اختراع الريموت كونترول".

إيكو، الذي قال هذا الكلام منذ عقدين تقريبًا عام 2004، رحل عن عالمنا في 2016، مع بداية صعود ظاهرة الإنفولونسرز وتحوّل مصطلح influencer إلى وصفٍ لمهنة. ولو أن العمر امتد به أكثر، أتصور أنه كان سيعتبر هذه الظاهرة ذروة "العصاب النفسي الجمعي" الذي تتسبب فيه وسائط التكنولوجيا الحديثة وعصر وسائل التواصل الرقمية.

في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة Morning Consult عام 2021 على 2000 أمريكي من جيل زد؛ المولودين من منتصف التسعينيات وحتى النصف الأول من الألفية، تبين أن 57% منهم يريدون العمل إنفولونسر إذا سنحت الفرصة، بينما يرغب 86% منهم في وضع محتوى للحصول على مقابل مادي إذا أتيح له ذلك. وأتصور أن الاستطلاع نفسه لو جرى اليوم فإن هذه النسب، غالبًا، ستكون أعلى.

هذه مهنة يصعب أن يرفضها أحد. ليس فقط من أجل المال، لكن أيضًا لأنها تحقق الشهرة وتملأ ذات من يمتهنها بشعور بالقوة والسلطة الناتجين عن التأثير في الآخرين، حتى لو كان هذا التأثير هراءً بلا فائدة أو هواءً سرعان ما يتبخر، أو حتى، وهو الأسوأ، لو كان ضارًا أو مدمرًا أو قاتلًا.

التأثير المتزايد للمؤثرين والآثار الناتجة عنه، ناقشته أعمال فنية مهمة مثل المسلسل التسجيلي The Age of Influence/عصر المؤثرين (2023) الذي أنتجته منصة Hulu، ويرصد عبر 6 حلقات عددًا من أشهر حالات النصب التي سطا أصحابها على مئات الملايين بطرق مختلفة، متسببين ليس فقط في خسارة الناس أموالهم، ولكن أيضًا صحتهم وطاقتهم وضياع حياتهم في أوهام.

https://www.youtube.com/watch?v=u2Yj_rmCzhE

وعلى Netflix، هناك عدة أعمال معظمها تسجيلي تناقش المسألة نفسها، من بينها The Influncer/المؤثر (2024)، الذي يرصد مسابقة محمومة بين الإنفولونسرز ، يربحون فيها الملايين، ويفقدون الكثير من القيم بينما تتحطم نفوسهم بفعل التنافس الشرس والممارسات غير الأخلاقية. 

المنصة نفسها أنتجت هذا العام Bad Influence: The Dark Side of Kidfluencing عن التأثير السيئ أو ما يسميه عنوان الفيلم "الجانب المظلم لعمل الأطفال إنفولونسرز "، ونتائج ذلك الوخيمة على حياتهم، بجانب استغلالهم، من الأقارب غالبًا.

أما الإنفولونسر الأسترالية بيل جيبسون، التي ذاع صيتها منذ عدة سنوات وهي تروِّج "عن تجربة" لنظام علاج للسرطان عن طريق الغذاء الصحي وممارسة التأمل واليوجا، فتدهورت حالات العشرات من متابعاتها في أنحاء العالم ممن اتبعوه، قبل أن يتبين أنها محتالة، كذبت فيما يتعلق بإصابتها بالسرطان، وبوسائل العلاج الوهمية التي روجت لها، وحتى بادعائها أنها طباخة ماهرة ومبتكرة!

المسلسل الأول تسجيلي أنتج عام 2023 ويحمل اسم Belle Gibson: The Search for Instagram’s Worst Con Artist، أو "البحث عن أسوأ نصابي إنستجرام". أما الثاني فهو Apple Cider Vinegar/خل التفاح، إحدى وصفات بيل التي خدعت بها الآلاف.

ولعل أهم ما يكشف عنه العملان هو تورط دار نشر كبيرة وذات مصداقية مثل Panjon Ltd بنشر كتاب طبخ لها حقق مبيعات هائلة، كانت الناشرة تعلم أنه مجرد هراء صحي!

الهراء الصحي والطبي حولنا في كل مكان، وللأسف يساهم الإنفولونسرز في الترويج لكل أنواع الغش التجاري لأنهم يحصلون على الملايين مقابل هذه الدعاية المقنعة. وتكفي نظرة سريعة للمبالغ التي تنفقها الشركات على الإنفولونسرز  سنويًا لنعرف حجم هذه "الصناعة".

في 2023 وصل حجم ما أُنفق على الإنفولونسرز  إلى ما يقرب من 7 مليارات دولار، من المتوقع أن تصل إلى 22.2 مليار هذا العام (2025) وفق موقع Statista، المتخصص في الإحصاءات. وإذا كنت تعتقد أن الأمر لا يمسك شخصيًا، فوفقًا للموقع نفسه، يُتوقع أن يصل إجمالي الإنفاق على الإنفولونسرز  المصريين إلى 42.22 مليون دولار بنهاية هذا العام!

الهراء على المواقع المصرية أكثر وأكبر من أن يحصى، وتكفي إشارة عرضية إلى ظاهرة محمود صلاح، ذلك الدجال الذي يخدع ويوهم الملايين بخرافات "علمية" قاتلة. ومثله العشرات من الإنفولونسرز  السلبيين الذين يحتاجون إلى عشرات الأفلام والمسلسلات، لولا أن صناع الأفلام والمسلسلات لدينا مستغرقون في الهلع من الجنس، واستعراض فضائحه.