لقطة معدَّلة، المنصة، 2025
المعالج النفسي في مسلسل "لام شمسية" إخراج كريم الشناوي (2025)

المعالِج النفسي في الدراما.. سقوط صورة الرجل الغامض منكوش الشعر

منشور الأحد 25 مايو 2025

ثبَّتت الدراما المصرية، على مدار سنوات، صورةً نَمطيةً للمُعالِج النفسي باعتباره شخصًا غريبَ الأطوار، منكوشَ الشعر، يتحدث لغةً غامضةً أو يُعامل كمصدر للفكاهة والسخرية. هذه الصورة تعكس وعيًا شعبويًا عن العلاج النفسي، وتُعيد إنتاج الوصمة المرتبطة به في المجتمعات العربية.

لكن في السنوات الأخيرة، خصوصًا في الأعمال التي تعاونت فيها الكاتبة مريم نعوم مع المخرج كريم الشناوي، شهدنا تحولًا لافتًا في صورة المُعالِج النفسي والعلاج النفسي.

لقطة من مسلسل الهرشة السابعة، إنتاج 2023، 11 أكتوبر 2023

في مسلسلات مثل خلي بالك من زيزي (2021)، والهرشة السابعة (2023)، ولام شمسية (2025)، رأينا أخيرًا المعالج النفسي شخصيةً متزنةً، واعيةً، وذكيةً، حيث تعكس هذه الأعمال وعيًا مختلفًا للصحة النفسية، وتُسهم في كسر الصورة النمطية، وتقديم صورة أكثر قربًا من الواقع، بل وأكثر قبولًا اجتماعيًا.

التورط بدل الفُرجة

لاقى مسلسل لام شمسية للمُخرج كريم الشناوي والكاتبة مريم نَعُوم نجاحًا وأحدث صدى مجتمعيًا. وهذه النتيجة لم تَكُن مُفاجئةً! فهذا العمل جاء ضمن سلسلة تعاونات ناجحة بين هذا الثنائي، على رأسها مسلسل خلي بالك من زيزي والهرشة السابعة.

بالنَظَر في المُسلسلات الثلاثة سنجد تقاطعات واضحة، ليس فقط في الأحداث والقضايا، لكن أيضًا على مستوى المشاعر والأفكار التي تُحاكيها، فلا تُبقيك مجرد مُشاهد للأحداث تُحافظ على مسافة فاصلة بينك وبين الشاشة، وإنما تورطك فتجد نفسك شَريكًا في ما تُشاهدُه وكأنك تَقف أمام مرآة.

تتناول المسلسلات الثلاثة قضايا نفسية تخلق مساحة للاشتباك معها، فرغم تركيز خلي بالك من زيزي على معاناة مرضى فرط الحركة وتشتت الانتباه/ADHD، فإنه يَمس كل الأشخاص، حتى أولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن هذا الاضطراب، فالمسألة ليست أن تتناول قضية ما، بل في كيفية تَناوُلها وطرحها.

تحاول الشخصيات في المسلسلات الثلاثة تفكيك ما يحدث في داخلها ولا تكتفي فقط باتهام الآخرين

في هذه الأعمال، نَشعر أن الشخصيات حَية تعيش داخل السيناريو أكثر من كونها تتحرك وفق ما يريد كاتبه باعتبارها مجرد أدوات للتعبير عمَّا يُريد  إيصاله؛ هذا الفخ الذي يقع فيه الكثيرون، حين يرغب كاتب السيناريو أو المُخرج في طرح قضية ما، فيسخِّر كل العناصر الدرامية لإيصال رسالته، مما يُشعر المُشاهد بأن الأحداث والشخصيات في المسلسل مُقحَمة ومفتعلة. 

صورة واقعية 

 كثير من الأعمال الدرامية المصرية بدأت تنقل عدستها من الخارج إلى الداخل. لم تعُد القصة فقط "ماذا يحدث"، بل "كيف يشعر الناس بما يحدث". الداخل النفسي أضحى مادة درامية قائمة بذاتها، وما يدور في ذهن الشخصية لا يقل أهمية عن الحدث الخارجي.

في الهرشة السابعة نرى تمثيلًا لهذا التحول من "دراما الخارج" إلى "دراما الداخل" في العلاقة الزوجية بين آدم ونادين، إذ لا تُعرض من زاوية الخيانة أو الأزمة فقط، بل من خلال المساحات النفسية المسكوت عنها؛ الملل، فقدان الشغف، الشعور بعدم الأمان، وتراكم الأسئلة التي لم تُطرح. وفي لحظات كثيرة، يتحول الحوار إلى ما يُشبه جلسة علاج نفسي، حتى في غياب معالج فعلي.

تحاول الشخصيات تفكيكَ ما في داخلها، دون الاكتفاء باتهام الآخر، بالأخص في الجلسات العلاجية؛ فنادين في جلساتها مثلًا لا تحكي عن زوجها فقط، بل تحاول تفكيك إحساسها بالخذلان، وارتباكها في العلاقة مع ذاتها كأم، كامرأة، كفرد يعيش وسط توقعات اجتماعية متناقضة.

المحيط مرايا لذواتنا

في خلي بالك من زيزي، تُستخدم تقنية الانعكاس في العلاقات بين الشخصيات بطريقةٍ ذكيةٍ وعاطفيةٍ، حيث تتحول الشخصيات في المسلسل إلى مرايا تعكس الجروح القديمة لشخصيات أخرى، مما يسمح لها بخلق تجربة مصححة تُعيد من خلالها تعريف ماضيها والتعامل معه بشكل أكثر وعياً وشفافية.

يظهر الانعكاس من خلال الطفلة التي تعاني من اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، وهي ابنة أخت مُراد  المحامي. هذه الطفلة تصبح نقطة تحول في رحلة زيزي، حيث ترى فيها انعكاسًا لطفولتها المضطربة، لكنها في هذه المرة ليست تلك الطفلة العاجزة عن الفهم أو المواجهة، بل شخص ناضج قادر على تقديم الدعم وتفكيك عقد الماضي.

أما في لام شمسية، فتظهر أمينة خليل في تجربة مشابهة لكنها أكثر عنفًا داخليًا، حيث تستعيد صدمة التحرش التي تعرضت لها في الماضي عندما يمر ابن زوجها بالتجربة ذاتها. الحدث يُصبح مرآة عاكسة للماضي الذي لم تتجاوزه، لكنه هذه المرة لا يمر بصمت، بل يتحول إلى قوة دافعة للانتقام، ليس فقط من المعتدي، لكن من العجز الذي شعرت به حينما تعرضت للتحرش في طفولتها.

في الحلقة الأخيرة، حين بكت، لم يكن بكاؤها مجرد رد فعل على ما حدث، بل كان تفريغًا لمشاعر مكبوتة منذ سنوات؛ انتقامًا داخليًّا من الماضي بقدر ما كان انتقامًا من المعتدي. هذا الانعكاس بين التجربتين لم يكتفِ بتحريك الحبكة، بل سمح للشخصية بإعادة صياغة حكايتها واستعادة جزء من ذاتها التي سُلبت منها في الماضي.

https://www.youtube.com/watch?v=O5RlHcKvQBE

فُرصة للتصالح مع الماضي

فيما يتعلق بالعلاج النفسي، فلم يعد يُطرح باعتباره عمليةً تقليديةً قائمةً على تصحيح اضطراب أو تعديل سلوك وفق معايير ثابتة، بل يُقدم على اعتبار أنه نشاط إنساني متجذر في التجربة الحياتية، ويصبح جزءًا من التفاعل اليومي وليس مجرد جلسات تُعقد داخل غرفة علاج معزولة. وكأن الكاتبة والمخرج يعيدان التفكير في مفهوم العلاج النفسي، ليقدماه كمسار تحرري يتجاوز الحياد العلاجي والتصنيفات الطبية الصارمة، ويعتمد بدلًا من ذلك على التفاعل الإنساني والتجارب المشتركة، مما يجعل الشخصيات نفسها عوامل فاعلة في شفاء بعضها البعض.

في خلي بالك من زيزي، يتجلى هذا النهج البديل في الطريقة التي يتعامل بها المعالج النفسي مع زيزي. بدلًا من التركيز على تشخيص اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) على أنه خلل يحتاج إلى تصحيح، وإنما يتعامل معه على أنه ليس مرضًا بقدر ما هو بقايا تطورية من حياة الإنسان القديم الذي احتاج إلى يقظة دائمة للبقاء. هذا المنظور لا يُحرر زيزي من وصمة المرض فحسب، بل يفتح أمامها مساحات جديدة لفهم ذاتها بعيدًا عن الشعور بأنها "حالة تحتاج إلى إصلاح".

تصبح العلاقات أدوات علاجية والحياة اليومية مساحة لإعادة بناء الذات

الأكثر من ذلك، أن المعالج لا يكتفي بالتوجيه النظري، بل يقترح على زيزي مرافقة الطفلة ابنة أخت المحامي، التي تعاني من الأعراض نفسها كشكل من أشكال العلاج. هذا الحل غير التقليدي يُخرج العلاج النفسي من إطاره الفردي المغلق إلى تجربة تفاعلية، حيث تصبح الطفلة نفسها جزءًا من رحلة تعافي زيزي.

في لام شمسية، يتجسد هذا الطرح مجددًا، من خلال شخصية يوسف، الطفل الذي تعرض للتحرش، حيث لا يكون العلاج محصورًا في جلساته مع المعالج النفسي، بل يصبح الأشخاص المحيطون به جزءًا من عملية شفائه.

تتحول العلاقة بين الطفل يوسف وزوجة أبيه/أمينة خليل عاملًا محوريًا في تعافيه، هنا، يصبح العلاج تجربة جماعية، وتتداخل قصص الشخصيات وتؤثر في بعضها البعض، مما يخلق سلسلة من التفاعلات التي تُعيد تشكيل وعي الشخصيات بذواتها وبتجاربها المؤلمة.

هذه المقاربة لا تكتفي برفض التصنيفات النفسية الجامدة، بل تقدم تصورًا أكثر رحابة للعلاج النفسي، قائمًا على التعاون، التجربة، والمشاركة العاطفية العميقة بين الشخصيات.

وبالمثل يتحول تكرار مشاهد طلب الدعم النفسي في المسلسلات الثلاثة إلى دعوة مقصودة ورسالة يجري التأكيد عليها بوصفها فُرصة لولادة نسخة جديدة من الذات وإنقاذ العلاقات الاجتماعية والتصالح مع الماضي.