في عام 1979، وقّع السادات معاهدة السلام مع بيجن وكارتر بعد شهور قليلة من اتفاقية كامب ديفيد. كانت المسارح في ذلك العام منتعشة بالمسرحيات الكوميدية والهزلية؛ بدأ عرض العيال كبرت ولاقت نجاحًا لافتًا، كما استمر عرض شاهد ما شافش حاجة لعامها الثالث على التوالي، وحجز محمد نجم مكانًا لنفسه كأحد نجوم المسرح التجاري بأشهر أعماله عش المجانين، إضافة إلى الجوكر لمحمد صبحي وجلال الشرقاوي، وإنها حقا عائلة محترمة لفؤاد المهندس وشويكار، والدخول بالملابس الرسمية لأبو بكر عزت وسهير البابلى وإسعاد يونس.
فن الوادي الآخر
السينما كانت ما تزال متخبطة بعد حلّ المؤسسة العامة للسينما في مطلع السبعينيات وأفول نجم العديد من أبطال الأبيض والأسود، وصعود جيل شاب متردد بين تراث الماضي والبحث عن لغة سينمائية مناسبة لعصر جديد في ظل مجتمع يتغير ومزاج يتقلب وعالم يعاد تشكيله، لكن شكل الأفلام القديم كان لا يزال سائدًا حتى تلك اللحظة، حيث شهد ذلك العام عددًا من الأعمال الميلودرامية التي تتضح طبيعتها بداية من عناوينها: خائفة من شيء ما، لا تبكي يا حبيب العمر، أقوى من الأيام، ولا يزال التحقيق مستمرًا، وتمضي الأحزان، ويمهل ولا يهمل، بينما عادت النجمتان سعاد حسنى وفاتن حمامة بفيلمي المتوحشة للأولى ولا عزاء للسيدات للثانية، وكان إسكندرية ليه من أبرز أفلام العام وإحنا بتوع الأتوبيس من أكثرها إثارة للجدل، حيث سار على نهج أفلام سابقة دأبت على فضح ممارسة الأجهزة السيادية في الحقبة الناصرية، وهي موجة لاقت استحسانًا وتشجيعًا من النظام السياسي في حينها، فيما أطلق عليه موجة الكرنكة نسبة إلى فيلم الكرنك، وكذلك تواجد المطرب الشاب عماد عبد الحليم بفيلمين، هما كرامتي وحياتي عذاب في ظل محاولته القصيرة وغير الموفقة ليحل محل عبد الحليم حافظ، حتى إنه قام في العام ذاته ببطولة مسلسل باسم العندليب الأسمر مجسدًا شخصية عبد الحليم.
غير أن الوضع في التلفزيون كان أفضل حالًا من السينما وأكثر جدية وفنية من المسرح، فأنتج مسلسلي الأيام والعملاق عن سيرتي طه حسين وعباس العقاد، وقدم الكاتب الصاعد وقتها وحيد حامد مسلسل أوراق الورد من بطولة وردة الجزائرية، كما عُرض مسلسل الشوارع الخلفية عن رواية عبد الرحمن الشرقاوى، ومسلسل هي والمستحيل لإنعام محمد علي، أما أكثر أعمال العام نجاحًا فكان أبنائي الأعزاء، شكرًا.
ويبدو من استعراض الأعمال الفنية التي شهدها ذلك العام أن ثمة انفصال متعمد قد حدث بين الداخل المصري والهموم العربية التي كانت في أوج اشتعالها، حيث حرص النظام السياسي آنذاك، كما ذهب كثير من المحللين والمؤرخين، على إبعاد مصر عن محيطها الجغرافي وقضاياه، أو ربما إبعاد المصريين عن القضايا جميعًا إن تسنى ذلك، فسيطرت الميلودراما الزاعقة على السينما، وهيمن الإضحاك على المسرح، أما التليفزيون فوجه جل اهتمامه للقضايا الاجتماعية، باستثناء مسلسل واحد فقط قرر الخروج على ذلك الخط المألوف والآمن.
ليلة الأندلس
كان الشاب الثلاثيني محفوظ عبد الرحمن اشتهر بكتابة المسلسلات التاريخية أو المستلهمة من التراث والسير الشعبية، فقدم مسلسلات سليمان الحلبي والزير سالم وعنترة، وكون ثلاثيًا مع الممثل عبد الله غيث والمخرج الأردنى عباس أرناؤوط، لكن أغلب تلك الأعمال كانت بإنتاج خليجي، ما بين تليفزيونات الإمارات والكويت، بعد أزمة نشبت بين محفوظ وإدارة التليفزيون المصري وأبعدته عنه على خلفية معارضته لنظام السادات.
قرر محفوظ في ذلك العام 1979، وبعدما سافر السادات إلى إسرائيل ومن بعدها إلى كامب ديفيد ثم عقد اتفاقية غامضة للسلام، أن يقدم مسلسلًا عن ليلة سقوط غرناطة، عن الأمير أبي عبد الله محمد، الذي لقبه شعبه بـمحمد الصغير تقليلًا من شأنه. كان محمد الصغير آخر حكام الأندلس وهو من سلم مفاتيح غرناظة إلى إيزابيلا وفرديناند، ملكي قشتالة وأراجون، بعدما عقد معهما اتفاقيتين، إحداهما علنية والأخرى سرية. سرد القائمون على المسلسل تفاصيل تلك الليلة من خلال ثلاث عشرة حلقة، مستعرضين كيف مر الوقت على الأمير المستسلم وعائلته، وكيف استعد الملكان لاستلام غرناطة، وكيف كان حال وزراء الأمير وقيادات جيشه وعامة الشعب في تلك الليلة التي غاب عنها النوم.
https://www.youtube.com/embed/WHAYJDSu0lc أفرد العمل مساحة واسعة لإبراز الصراع بين الأمير الخائف والمائل إلى الاستسلام والنجاة بعمره وثروته، وبين قائد جيوشه موسى الغساني المُصر على القتال حتى آخر لحظة وحتى آخر قطرة دم، والغساني شخصية غامضة تاريخيًا، لم يُكشف عن دوره أو اسمه إلا متأخرًا، وحدث ذلك عبر كتب المستشرقين الأجانب، وليس الكتَّاب العرب، كما تعددت الروايات الخاصة بنهايته وموته واختلفت فيما بينها.
ورد ذكر موسى الغسانى لاحقًا في رواية ثلاثية غرناطة للروائية رضوى عاشور، التي كتبت "قال البعض إن أبي غسان خرج من اجتماع الحمراء وقد قرر أن يقاتل القشتاليين، وقاتل جموعهم وحده، ولما أصابوه وكادوا يظفرون به ألقى بنفسه في النهر، وقال البعض الآخر، بل قتله محمد الصغير لينفذ ما يريد دون مخالفة ولا معارضة، سلم الشقيتو ( أي الصغير) المنحوس البلد وباعها، وما كان بإمكانه أن يفعل وابن أبي غسان يقف له بالمرصاد. وقال فريق ثالث لا أغرق نفسه ولا قتلوه، بل صعد إلى الجبال ليدرب الرجال ويستعد. وقال فريق رابع، غرق أم لم يغرق، لا فرق، ليس هذا زمانه ولا زماننا".
كان عبد الله غيث، أحد أضلاع المثلث، عائدًا لتوه من إنجلترا حيث قام بدوبلاج دور أنتوني كوين للنسخة العربية من فيلم عمر المختار، فتواصل معه محفوظ وعباس أرناؤوط وعرضا عليه عملهما الجديد الذي سيقوم فيه بدور موسى الغساني، لكن محفوظ عبد الرحمن قام بمغالطة تاريخية واعترف بها لاحقًا في كتابه، حين استخدم اسم غسان الغساني بدلا من موسى الغساني، لأنه أراد لاسم بطله أن يكون عربيًا خالصًا كي لا يتعارض مع ما يرمي إليه من معان.
أما دور الأمير أبو عبد الله محمد فقام أحمد خليل بتجسيده بمهارة وفهم لطبيعة تلك الشخصية الضعيفة المترددة، كما ضم الطاقم التمثيلي كل من أمينة رزق وعبد الرحمن أبو زهرة ومحمد وفيق وإبراهيم عبد الرازق وسميرة عبد العزيز ورغده وآخرين، غير أن أبرز ممثلي المسلسل كان الفنان الكبير حقًا توفيق الدقن في دور الزغل، عم الأمير والبطل العائد من الزمن الماضي آملًا في إنقاذ غرناطة؛ قدم الدقن أداءً استثنائيًا، كانت ذروته في مشهد بالحلقة الأخيرة، أدى فيه مونولوجًا طويلًا يتصاعد فيه بسلاسة بين انفعالات متداخلة، ينتقل بينها برشاقة وتمكن، دون مبالغة أو افتعال في واحد من أفضل المشاهد التمثيلية التي يمكنك مشاهدتها.
الإسقاط: خيانة
لم يُعرض المسلسل في مصر بطبيعة الحال، فالإشارة كانت واضحة لكل ذي عقل، ولم يكن هذا الإسقاط، إن أسميناه كذلك، ليفوت على السادات ورجاله، وهو الرجل الذي اهتم بعالم الفن منذ شبابه وتقدم لاختبارات التمثيل قبل أن ترفضه المنتجة عزيزة أمير، أو آسيا في رواية أخرى، مما أبعده عن مجال السينما. على أية حال، امتنع التليفزيون عن شراء مسلسل ليلة سقوط غرناطة، بل إنه رفض تلقيه ولو على سبيل الهدية.
بعد عامين أو ثلاثة من إنتاج ليلة سقوط غرناطة وعرضه على نطاق ضيق، اجتاحت القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية واندلعت حرب لبنان، باتت التليفزيونات العربية تبحث عن أعمال مناسبة للظرف القاسي الذي تمر به الأمّة، فعادوا إلى المسلسل الذي أهملوه سابقا. عُرض ليلة سقوط غرناطة، بحسب صُناعه، في العديد من القنوات العربية وتم الاحتفاء به في كثير من البلدان، تحديدًا بالمغرب العربي، كما طلب ياسر عرفات نسخة منه، ورغم تلك الحفاوة العربية لم يعرض المسلسل على التلفزيون المصري قط حتى يومنا هذا، غير أن هيئة قصور الثقافة أصدرت سيناريو المسلسل مطبوعًا في كتاب بمقدمة خطها محفوظ عبد الرحمن نفسه في عام 2015.
طاردت محفوظ عبد الرحمن في حينها تهمة الإساءة للرئيس، وطبقًا لما كتبه المؤلف في مقدمة كتابه أن مخرجا شهيرًا شهد تصوير أحد المشاهد في الاستوديو بالصدفة وهدد بتبليغ السلطات عنهم، ويبدو أن المخرج أو غيره تطوع بالقيام بالإبلاغ فعلًا، إذ استوقف أحد الضباط عبد الرحمن في مطار القاهرة وحقق معه متهمًا إياه بكتابة مسلسل به إسقاط سياسي ينتقص من الرئيس ويهاجمه.
لا يحب محفوظ عبد الرحمن تعبير "الإسقاط السياسي"، يقول إنه خيانة من الكاتب لنفسه وأنه لا يفعل ذلك، إنه يتناول قصته التاريخية بإخلاص، ولكن بعض الجمل التي يمكن تفسيرها بمعنيين قد تتسرب على ألسنة شخصياته، يرى محفوط أن هذا طبيعى وغير متعمد ولا يعتبر إسقاطًا، فهو كاتب متأثر بواقعه المعاش ومشغول بأفكاره ومواقفه وقد تنفذ إلى عمله دون قصد أو تخطيط، غير أن صديقه ورفيقه عبد الله غيث يختلف معه ويقول له في أحد الحوارات التليفزيونية إنه يكتب أعمالًا عصرية جدًا تناقش قضايا اللحظة الحالية ولكنه يلبسها عمامة التاريخ لينجو بعمله من الفخاخ.
ولكن الفخاخ في كل مكان، فلم يكن هذا المسلسل هو آخر أزمات محفوظ عبد الرحمن مع النظام، ففي مطلع الثمانينيات خالف محفوظ عادته وكتب مسلسلًا واقعيًا معاصرًا اسمه المرشدي عنتر، من بطولة كمال الشناوى ومحمد وفيق، وكان نقلة كبيرة للأخير، يقول نبيل الحلفاوي إن من يريد أن يعرف من هو محمد وفيق فعليه أن يشاهد المرشدي عنتر، لكن المسلسل الذي يناقش فساد ما بعد الانفتاح لم يعرض في مصر إلا مرة واحدة بعد ثماني سنوات من إنتاجه ثم عاد للاختفاء مجددًا، كما أن ثمة أزمة أخرى واكبت الانتهاء من تصوير فيلم ناصر 56، حيث انزعج مبارك من الفيلم وقال معلقًا "الله، هو مين اللى بيحكم البلد، إحنا ولا عبد الناصر؟" وقام بتعطيل عرض الفيلم لحوالى عام كامل قبل أن يمر إلى السينمات بعد بعض التدخلات.
لكن المسلسل الممنوع من العرض على مر عقود صار متاحًا للجميع، منذ عامين أو أكثر قليلًا قامت قناة دبي زمان، بإتاحة نسخة من ليلة سقوط غرناطة في قناتها على يوتيوب؛ عندما انتبهتُ للأمر أحضرت السيناريو الصادر عن قصور الثقافة من مكتبتي وبدأت في مشاهدة المسلسل على الفور، ورغم ضعف الإمكانيات الإنتاجية والأداء المسرحي في بعض الأحيان، لكنني وجدت نفسي متجاوبًا مع المسلسل السبعيني بشغف وتلهف، حيث قدم صانعوه قطعة فنية حقيقية وصادقة، لم ينغمسوا في الرمز والإسقاط، بل حافظوا على قوام العمل الدرامي ولم يتحول المسلسل إلى بيان سياسي كما يحدث أحيانًا.
في مناسبة السقوط
في مطلع القرن الحالي قدمت سوريا عددًا من المسلسلات البديعة عن الحقبة الأندلسية، أبرزها ربيع قرطبة وملوك الطوائف، وهي تكاد تكون أعمالا متكاملة، توفر لها بجانب الفنانين شديدي التميز إنتاجًا ضخمًا سمح بتقديم صورة تليق بالأندلس التي نتخيلها، وهي صورة لا يمكن مقارنتها بأجواء مسلسلنا ذا الإنتاج المتقشف، فتليفزيونات الخليج لم تكن باذخة الإنتاج كما قد تتخيل، اقتصر التصوير على استوديوهات فقيرة وقاتمة، ربما يتناسب ذلك مع لحظة سقوط كالتي يعرضها المسلسل لكن ذلك لم يكن مقصودًا بالطبع.
رغم هذه المقارنة الظالمة التي قد تقفز إلى مخيلتك أثناء مشاهدة مسلسل ليلة سقوط غرناطة، إلا أنك ما تلبث أن تنساها أو تتجاهلها، منجذبًا إلى المسلسل المتدفق ومتعايشًا مع أحداثه، حتى وإن بدت وكأنها تدور على خشبة مسرح بديكورات متواضعة، حيث أظهرت كل عناصر العمل إخلاصًا واضحًا إلى فنها أولًا، والفن الحقيقي قادر على أن يحيا عبر الزمن وأن يتجاوز السنين والفوارق التقنية، ولذا فإن المسلسل الذي أُنتج منذ أكثر من أربعين سنة ما يزال قادرًا على طرح الأسئلة حتى اللحظة الراهنة، وما يزال قادرًا على إثارة العديد من التأملات والأفكار والتساؤلات الشائكة والمخيفة، سواء المتعلقة بالماضي وبالتاريخ أو أخرى متعلقة بالعصر الحالي وبيومنا هذا وبأحداث جرت وتجري هنا والآن.