قناة Film Square على يوتيوب
سكرين شوت من ترايلر فيلم سيكو Siko، من إنتاج 2025، 24 مارس 2025

سيكو Siko.. الانتشاء بالدم وسطوة النص المحاذي

منشور الخميس 22 مايو 2025

هل يمكن أن تتغير استجابتنا وانفعالاتنا تجاه الموقف الواحد أكثر من مرة إذا أعدنا صياغة خلفية الحدث نفسه وإطاره وعنوانه؟ الإجابة عن هذا السؤال موجودة في فيلم سيكو Siko الذي كتبه محمّد الدبّاح وأخرجه عمر المهندس، من إنتاج عام 2025.

أوّل ما يفاجئنا به صناع الفيلم هو العنوان، وطريقة كتابته بالحروف العربية والإنجليزية مكوِّنةً المَقطع نفسه، وفي تقديري أن هذا الملمح من ملامح النّصّ المُحاذي/Paratext لا يجب أن يفوتنا، وأنّ له دلالتَه المهمة، سواء أكانت مقصودةً أو لا.

الإضافات الأساسية

وفق الناقد الفرنسي جيرار جنِتّ (1930 - 2018) في كتابه النصوص الموازية: عتبات التفسير/Paratexts: Thresholds of Interpretation، فإن النصَّ المُحاذي هو تلك الأشياء التي تصاحب النص في عملٍ منشورٍ، من قبيل اسم المؤلِّف، وعنوان النص، والمقدمة والرسوم التوضيحية وما إلى ذلك.

مشهد يجمع عادل إمام وآثار الحكيم وأنور إسماعيل، من فيلم النمر والأنثى، من إنتاج عام 1987

وتكمن أهميته في كونه يمثل "منطقة بين النص وخارجه، وهي ليست منطقة انتقال فحسب، لكنها منطقة تفاعل"، كما يمثِّل "خطة للتأثير في الجمهور، وهو تأثير يخدم هدف التلقي الأفضل للنص، والقراءة الأفضل له".

سيتذكر جمهور السينما العربيّة، فورَ سماع اسم الفيلم، المرّة الأولى التي صيغ فيها في فيلم سينمائيٍّ هذا التركيبُ اللفظيُّ "سيكو سيكو" بدلالته على شيء خطير لا يريد المتحدث أن يطلع عليه أحد إلا من يفهم سياق حديثه، تبعًا لاتفاق ضمني يمنح التركيب هذه الدلالة.

كان هذا في فيلم النمر والأنثى، من تأليف إبراهيم الموجي وإخراج سمير سيف عام 1987، حيث يحدث الطفل تامر (الذي قام بدوره ماهر عصام) ضابط المباحث وحيد (عادل إمام) عن عصابة المخدرات، فينتهره وحيد، فيقرر تامر أن يشير إلى العصابة بتركيب "السيكو سيكو"، وهو بالفعل المصدر الذي استلهم منه المخرج عمر المهندس اسم فيلمه الجديد. 

ولأن الفيلم القديم (النمر والأنثى) حقق نجاحًا جماهيريًا لافتًا في وقت عرضه، سرعان ما سار هذا التركيب على ألسنة الجميع، وعلى ألسنة الشباب والأطفال، خاصة متى قرّروا الحديث عن شيءٍ خطيرٍ من وجهة نظرهم، يريدون أن يُضفوا عليه طابَع السرِيَّة.

هكذا، من خلال هذا التناص العنواني، أو الإشارة الضمنية إلى رمز معروف قديم، يؤسس الفيلم بنوَّته لأحد أفلام الحركة والجريمة المهمّة من ناحيةٍ، ويكرِّس انتماءه إلى قاموس الجيل الذي يُفترَض أن ينتمي إليه بَطَلاه يحيى وسليم من ناحيةٍ ثانيةٍ، ويهيِّئنا من البداية لاستقبال حكايةٍ خطيرةٍ، في قلبها سِر رهيب.

ثمّ تأتي طريقةُ كتابة العنوان بحروفٍ عربيةٍ وأجنبيّةٍ، لنكتشِف من واقع الأحداث أنّ لها ظِلالًا عَولَميّةً جديرةً بالالتفات إليها: فاللُّعبة الحاسوبيّة التي يبتكرُها سليم ليروِّج من خلالها تجارة الحشيش ليست إلّا امتدادًا للنفوذ التقنيِّ الغربيِّ الذي أسَرَ العالَم بأكملِه، ومِن ثَمَّ فإنّ "سيكو" الجريمة المصريّة التي تتّخذ من الإبداع التقنيّ الحديث مطيةً ليس إلّا انعكاسًا لـ"siko" الأفلام الغربية عن الجريمة والمرض النفسي.

هندسة المشاعر 

فضلًا عن هذا الظِّلِّ العولميِّ على مستوى الحكاية، فهناك ظِلٌّ آخَر على مستوى صناعة الفيلم، قد نتّفق حوله أو نختلِف، إلّا أنّه يظَلُّ مطروحًا، وأقصِد به طريقة توظيف الموسيقى التصويريّة.

لدينا هنا مشهدٌ مهمٌّ، لعلّه الأعنف في مسار الفيلم، حيث يَحدث تبادلٌ لإطلاق النار في مقرّ العصابة التي يزورها يحيى وسليم لتُصرِّف لهما مخزون الحشيش الذي ورثاه عن عمِّهما الراحل، ويموت كثيرٌ من أفراد العصابتين المتراشقتين.

التفاعل ببرود مع مشاهد القتل في السينما ربما يجعلنا نفكر بعلاقاتنا الباردة في العالم الحقيقي

فالمعتاد في مثل هذه المَشاهد في السينما المصريّة هو استخدامُ موسيقى سريعةٍ مهتاجةٍ، وهو الاختيار الذي ربّما يقفز فورًا إلى ذهن صُنّاع الفيلم فورَ قراءة مخطَّط هذه المَشاهد. لكنّ الموسيقى التي استعان بها المُخرج عمر المهندس هنا هي مقطوعة الرّاعي الوحيد The Lonely Shepherd التي ألّفها الألمانيُّ جيمس لاست واشتُهِر الروماني جورج زامفير بعزفها على الپانفلوت، وهي مقطوعةٌ هادئةٌ لا توحي أصلًا بالعنف.

https://soundcloud.com/mahmoud-sami-cherif/kill-bill-ost-14-zamfir-the-1

وفي هذا الاستخدام شكلٌ من أشكال التجاوُب مع استخداماتٍ مشابهةٍ لمُخرجين أمريكيِّين، لعلّ أبرزها وأوثقَها اتّصالًا بموضوعنا هو استخدامُ كوينتين تارانتينو لهذه المقطوعة نفسها في مشهد المبارزة المميتة في فيلم اKill Bil.

أوما ثورمان في مشهد قتالي من فيلم Kill Bill: Vol. 1، (2003)، إخراج كوينتن تارانتينو

الشّاهد أنّ هذا الاستخدام يُعيد قراءةَ عنصر العنف، وبناء علاقة المتلقّي به، ليُنتج شعورًا لدينا بالغُربة عمّا يَحدث من قتلٍ على الشاشة، الأمرُ الذي يَدخل ضمن أثر التغريب كما وصفَه الكاتب المسرحي والشاعر الألماني برتولد بريخت (1898-1956).

وبدلًا من أن نتماهى مع مَن يموتون أمامنا باعتبارهم بشَرًا، نتعاطى المَشهد ببرود أعصابٍ، بل قد نضحك من قلوبنا نتيجةً للمفارَقة بين الموسيقى وما يَحدث في المَشهد، ما يجعلنا نفكِّر في علاقتِنا الباردة بما يحيط بنا من عنفٍ في العالَم الواقعيّ، لنكتشِف أنّ هذا الضحك هو "ضحكٌ كالبُكا". وباختصارٍ فهذا المَشهد بموسيقاه يمثِّل انعكاسًا لسلبيّتنا إزاء الدمويّة والعنف في واقعنا.

الضحك في ذروة التوتر 

يقوم الفيلم على مجموعةٍ من الإكراهات، أي الحقائق التي تبدو صُدَفًا في مسار الأحداث، والتي أرادها صانعُ العمل هكذا لتنبني عليها الحكاية ويتولَّد منها الإضحاك، ومنها أن ثروة العمّ الذي لا يَظهر في الفيلم تؤول إلى ابني أخوَيه اللذَين يعاني كلٌّ منهما عدمَ التحقُّق ماليًّا واجتماعيًّا، فيحيى موظّفٌ غير قادرٍ على الانضباط في الشركة التي يعمل بها، وسليم مطوِّر ألعاب حاسوبيّة تضيع منه فُرصة ترويج اللعبة التي ابتكرها.

وابنا العمّ لديهما تاريخٌ من العِراك في طفولتهما، يجعل كلًّا منهما لا يطيق صحبة الآخَر! وحين يذهبان إلى المكان الذي تحدِّده الوصيّة للميراث، يكتشفان أنّ الميراث حشيش! وتشاء الصُّدفة - أو بالأحرى يشاء كاتب السيناريو - أن يكون والد حبيبة سليم لواءً في مكافحة المخدّرات/باسم سمرة!

من هذه الإكراهات/المصادفات تتولّد طاقة الإضحاك، فكلُّ اقتراحٍ من أحد ابنَي العمّ يقابَل من الآخَر بسخرية/ قفشة، وكلّ موقِف يَجمع أحد البطلَين باللواء يفوح منه الترقُّب ويَحتمل افتضاح أمرهما.

لكنّ الإكراه/المصادفة الأهمّ على الإطلاق هو إساءةُ القراءة أو إساءةُ فهم نَصّ الوصيّة، فبدلًا من أن يُحرِّك البطلان الشاحنة التي يختفي الميراث تحتها، يبحثان داخل الشاحنة عن الميراث فيعثران على الحشيش. والأنكى أنّ يحيى لا يكتشف هذا الأمر إلّا بعد أن يُسجن هو وسليم ثلاث سنواتٍ، ثمّ يخرج من السِّجن ليعاود البحث عن وظيفةٍ، فيسمع جملةً على لسان شخصيّةٍ ثانويةٍ، تتقاطع مع نَصّ الوصيّة في ظرف المكان (تحت).

هكذا فقط! يَحدث ذلك، فيَذهب البطلان إلى موقع الشاحنة ويحركاها ليكتشفا الميراث الحقيقيّ الذي لم يهتديا إليه، وكانت نتيجة ذلك أن ضاع من عمر كلٍّ منهما ثلاث سنواتٍ وتلطّخَت صحيفة سوابقه بالحبس في قضيّة اتّجار في المخدّرات!

ومع أنّ إساءة القراءة هنا قد تمرُّ بصفتها مجرَّد قفشة أراد الكاتب أن يبني عليها مخطَّط الفيلم، فالواقع أنّها تمثِّل إشارةً إلى دور سوء التأويل في توجيه حياتنا الواقعيّة، فإغفالُ لفظٍ عابرٍ أو عدم الانتباه إلى تفاصيل نَصٍّ قد يتكفّلان برَسم حياتنا على نحوٍ يختلف تمامًا عمّا كان يمكن أن يَحدث لو قرأنا النصَّ بطريقةٍ أخرى أو انتبهنا إلى ذلك اللفظ العابر!

الملامح في خدمة الإقناع

الملمح الأبرز في البطلَين هو الفوارق الجسديّة الظاهرة بينهما، فعصام عمر في دور يحيى شابٌّ مفتول العضلات، عيناه حمراوان طيلة الوقت، إيماءً إلى نمط حياته غير المنضبط وتعاطيه المخدّرات، فيما نجِد طه دسوقي في دور سليم شابًا ضئيل الجسم يرتدي نظّارةً طبيةً، ما يتوافق والصورة الشائعة عن العبقريّ المجتهِد، ومن هذا التقابُل الراسخ بدَوره في بناء الكوميديا تتولّد احتمالات الإضحاك.

 كما أنّ دور عصام عمر هنا يُعَدّ نقيضًا لدَوره الأشهر قبل الفيلم، تحديدًا في مسلسل بالطو الذي جسّد فيه دور طبيبٍ مكلَّفٍ في وحدةٍ صحيةٍ قرَويّةٍ، يتّسم بالبراءة والمًسالَمة، وقد نجح عصام عمر هنا في الخروج من هذا القالَب.

 كذلك جاء دور باسم سمرة في دور اللواء وائل الكردي جديدًا نسبيًّا على مسيرة الفنّان، وقد استغلَّ المُخرج قدراته على التعبير بملامحه عن الانفعالات مع الاحتفاظ بهدوء الصوت في تجسيد دور ضابط المباحث القلِق على مستقبَل ابنته.

هذا، فيما تكرَّسَت صورة تارا عماد لدى المُشاهِد بصفتها تجسيدًا مستمرًا للفتاة الأرستقراطيّة هنا، كونها جسّدَت دور داليا صاحبة الشركة التي يعمل فيها يحيى، وواصَل خالد الصاوي في دور تاجر المخدرات حاتم حرفوش، والفنان الراحل سليمان عيد، في دور المحامي سليمان، تألُّقهما، حتى في الأدوار الصغيرة المساحة كدَوريهما هنا.

واستغلّ الإخراج ملامح محمود عزَب الحادّة وقدرته على تلوين صوتِه ليَرسُم دور أبو ليلة تاجر المخدّرات الدمويّ الذي يميل إلى السخرية. كما استغلّ ملامح ديانا هشام البريئة في تجسيد دور غادة ابنة اللواء وائل التي تظلُّ غير واعيةٍ بحقيقة سليم إلى النهاية، وملامح علي صبحي المصرية إلى الصميم في تجسيد دور تاكس الفهلوي الذي يعمل في تجارة المخدّرات لحِساب تجّارٍ أكبر. والفيلم إجمالًا جدير بإعادة المشاهدة، وإعادة القراءة من زوايا أخرى ومن منظورٍ أوسع.