
النيدل دروب.. أغاني زمان في أفلام اليومين دول
ما تخبرنا به الموجة الحالية من الأعمال المصرية عن تغير ذائقتنا الفنية
تضيف الموسيقى أبعادًا وامتداداتٍ جديدة للأعمال الفنية، وتملأ فجواتٍ شعوريةً وتعبيريةً، وبينما جرت العادة على أن يختصَّ كلُّ فيلم أو مسلسل بأغانيه وموسيقاه، فإن صيحةً بدأت في الإنتاج الفني بنهاية الألفية الماضية، واستمرت خلال العقود الثلاثة الأولى ولا نزال نعيشها من القرن الجديد، هي النيدل دروب/Needle drop.
حلت Needle drop في السينما الأمريكية محل الاستعمال التقليدي للأغاني من خلال التخلي عن تأليف أغانٍ وموسيقى خاصة بكل فيلم، ليحل محلها استجلاب أغانٍ كلاسيكية أو حتى سابقة على الفيلم الجديد بفترة زمنية قصيرة، في سبيل إحداث تأثير عاطفي وشعوري في المتلقي.
تُؤثر Needle drop على طريقة تعاطينا مع العمل الفني، ويضفي اختيار الأغنية المناسبة طبقات من المعاني على المشهد، من خلال استدعاء لحظات خاصة من ذاكرتنا الثقافية.
من خلاله نسافر عبر الزمن دون الحاجة إلى تصميم مشهد خاص بديكور وأزياء قديمة وميزانية إنتاج ضخمة. يُمكن لأغنية كلاسيكية واحدة أو مقطع منها أن يغير توقعاتنا ويؤثر على تعاطفنا بفاعلية أقوى من التدفق الدرامي الأساسي للعمل.
على سبيل المثال، عبّرت أغنية المراية في فيلم آسف على الإزعاج، من بطولة أحمد حلمي ومنة شلبي، وإنتاج 2008، عن اللحظات الدرامية الأشد حزنًا؛ هذه الأغنية التي كتبت خصيصًا لفيلم حلمي، لجأ لها صناع فيلم آخر لمنة شلبي، هو الهوى سلطان لتعبر عن أكثر لحظاته حزنًا.
واستعيدت أيضًا أغانٍ لمحمد منير، في فيلمي ٦ أيام، والبحث عن منفذ لخروج السيد رامبو، ومسلسل إخواتي، وجميعها أعمال فنية من إنتاج 2025. ولجأ آخر مسلسلين للفنان الشاب طه دسوقي، حالة خاصة وولاد الشمس لأغاني فرقة المصريين، التي أسسها الموسيقار هاني شنودة عام 1977.
وفي أكثر من مرة جرى استدعاء أغاني الشيخ إمام، من بينها أغنية إذا الشمس غرقت في ولاد الشمس، كما احتوى أحدث عمل درامي للفنانة أمينة خليل لام شمسية، من إنتاج 2025 على cover أغنية عصفور طل من الشباك، بعدما أعادت الفنانة نوران طالب غناء الأغنية التي قدمتها الفنانة عايدة الأيوبي عام 1991.
https://www.youtube.com/watch?v=f_--Gqvw8Z8من الاستعراضات إلى الفيديو كليب
على مدار تاريخها، اشتهرت السينما المصرية بموسيقاها وبالأغاني والاستعراضات والفقرات الغنائية، وهو ما شهد تغييرًا في تعامل مخرجي السينما والدراما المصريين مع فكرة الأغاني وتوظيفها وطبيعتها في العقود الأخيرة.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الجديد، ومع سيادة الفيديو كليب، لجأت السينما للكليبات كجزء أساسي من الدعاية، بالأخص في أفلام أحمد حلمي ومحمد هنيدي وأحمد مكي وتامر حسني وغيرهم. حيث كانت تذاع فيديو كليبات هذه الأغاني قبيل عرض الفيلم، مع شريط أسود فوق الصورة يعلن عن أن الفيلم سيُعرض قريبًا في مصر والوطن العربي.
هذه كلها كانت أغاني أصلية، كُتبت للفيلم بالأساس، سواء غناها بطل الفيلم بنفسه، أو مغنٍ آخر معروف مثل حلمي الذي فعل الشيئين؛ غنى أغاني أفلامه "قول ألو" في فيلم ظرف طارئ أو أنا لما حبيبتي هتكبر في فيلم مطب صناعي، واستعان بمحمد حماقي وشيرين عبدالوهاب ليغنيا أغاني فلميه جعلتني مجرمًا وآسف على الإزعاج بالترتيب نفسه.
بعد ثورة يناير، تغيرت كثيرًا شكل وطبيعة السينما والدراما المصريين، فمع موجة أفلام "المهرجانات" الشعبية السبكية، جرى استعداء أغان مثل كوڤر على رمش عيونها، في فيلم القشاش، من إنتاج 2013، وهو من استعداء الأعمال القديمة الذي تكرر حتى وصل لزروته في العام الحالي.
لا تعني شيوع الـNeedle drop، غياب الأعمال الفنية التي تقدم خصيصًا بالفيلم أو المسلسل، فهي لا تزال موجودة في أفلام مثل سلسلة ولاد رزق، وتاج، حتى فيلما 6 أيام والهوى سلطان، المليئان بـNeedle drop فلكل منهما أغنية دعائية أصلية.
أكثر من مجرد الفخر والاعتزاز
يمكن النظر إلى Needle drop باعتبارها فخرًا واعتزازًا من صناع الأفلام بتراثنا المصري الغنائي من فنانين مصريين يستعملون فنًا مصريًا سابقًا ويسحروننا به.
ولكن لا تتوقف الظاهرة عند مجرد الاحتفاء بالكلاسيك المصري، ففي الهوى سلطان، تحمل الأغاني معنى أعمق من أن تكون مجرد اختيار جمالي، فهي تمثل الثقافة المشتركة بين بطلي الفيلم اللذين يجمعهما مثلًا حب أغاني بهاء سلطان.
الفيلم خطاب غرامي عن العديد من الكلاسيكيات الفنية التي شكلت هوية جيل بطليه الألفيناتي، قاموس من الإفيهات التي يكررانها لبعضهما والمزحات واللزمات المشتركة.
بينما في البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو، تمثل أغنية شجر الليمون لمحمد منير، من ألبوم شبابيك، الذي صدر لأول مرة عام 1981، قلبًا عاطفيًا وشعوريًا للفيلم، إذ يحتفظ بطل الفيلم عصام عمر/حسن بشرائط كاسيت قديمة تعود إلى والده الغائب عليها تسجيلات له وهو يغني له الأغنية بصوته، ليصبح صوت منير صوت الأب الغائب/المفقود؛ الرب الصامت عن عبد متضرع، صوت صدى قادم من زمن بعيد، تحمل طيفًا ووهمًا يتمسك به البطل بعد أن انطبق عليه قول منير "كل شيء بينسرق مني، العمر من الأيام، والضي من النني".
https://www.youtube.com/watch?v=8joKek5WbSwيشترك فيلم 6 أيام في ربط الأغاني بالماضي البعيد الذي فات بعد فقدان كل شيء مثل رامبو، إضافة إلى الواقع المعاش المشترك، الذي يربط بين حبيبين مثل الهوى سلطان.
فباختيار الأغاني، تشع الأفلام الثلاثة بالنوستالجيا؛ حنين دافئ، وإن كان حارقًا، لزمن أجمل لم يعد موجودًا، فتتعطر تلك الأعمال وغيرها من الأمثلة التي ذكرتها سلفًا بالنظر للوراء، وتحمل بقصد أو بدون الهاجسَ نفسه الذي يشعر به كثير من المصريين بأن الماضي كان أفضل وأفضل، وأنه "ولا يوم من أيام فلان أو علان".
لربما في المستقبل يأتي من ينظر لتلك الأعمال ويرى في حنينها إلى الماضي نقدًا وسخطًا على الحاضر، وربما تكون النوستالجيا داءَ العصر في جميع أنحاء العالم. فأعضاء فرقة المصريين في مسلسل "حالة خاصة" يتذكرون ويغنون "لما كان البحر أزرق"، ولدينا منير في البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو يعبر عن أثر مرور الزمن على شجر الليمون، ولدينا صوت عبد الحليم حافظ في 6 أيام "شوف بقينا فين يا قلبي، وهي راحت فين".