مراوغة الجنون.. ولنا في الخيال حُب ورقص وجد ولعب
في عام 1888 وأثناء وجوده في مصلحة للعلاج النفسي، رسم الفنان الهولندي الشهير فينسنت فان جوخ (1853-1890) لوحة ليلة النجوم تعبيرًا عن العالم الخيالي الذي يعيش فيه العشاق.
حسم فان جوخ قراره واختار أن ينفصل عن الواقع ويعيش في الخيال بشكل كلي، بينما اختارت سارة رزيق التوتر والتشتت بين الواقع القاسي والخيال الوردي في فيلمها ولنا في الخيال حب، من بطولة مايان السيد/وردة وأحمد السعدني/د. يوسف مراد، إنتاج 2025.
تحية سارة للفن وناسه
في أول أعمالها الطويلة، قدّمت المخرجة الشابة سارة رزيق شافع تحية للفنون بشكل عام؛ الباليه، والنحت، والموسيقى، والمسرح، والديكور، مستفيدة من دراستها الموسيقى في الكونسرفاتوار، ثم الإخراج السينمائي في معهد السينما بأكاديمية الفنون، وعملها مساعدة مخرج في عدد من الأفلام.تعي سارة جيدًا قيمة صهر الفنون في بوتقة واحدة على شاشة السينما لتصنع مزيجًا يعيد إلى أذهاننا ما اشتقنا إليه من الأفلام المصرية القديمة ذات الحبكة الإنسانية البسيطة.
يتسع الفيلم لأكثر من Genre بين الرومانسية والكوميديا والدراما مع الاستمتاع بمشاهد الرقص والغناء والاستعراض، وهنا نشير لأداء عمر رزيق/نوح راقص الباليه الذي أعاد للأذهان الصورة السينمائية العادية للبطل الذي يشبهنا، غير مفتول العضلات لا يتحدث بصوت جهوري من منطلق القوة المفرطة، مذكرًا المشاهدين بالفنان الاستعراضي محسن محيي الدين.
هذا النوع من الأفلام -المزيج- لم يعد يستهوي المنتجين المصريين فيما يبدو؛ فحصروا إنتاجهم في سينما العنف والأكشن والجريمة، أو كوميديا الإيفيه المُرتجَّل والاسكتشات البلهاء، حتى الاستعراض الغنائي أو الراقص التجاري منذ بداية الألفينيات ركَّز على الأفراح الشعبية وأغاني المهرجانات.
ربما كانت آخر أفلام السينما التي قدَّمت هذا النوع من السينما الميلودرامية ذات لمحة "ميوزيكال" هو فيلم سكوت .. هنصور ليوسف شاهين (2001)، وكذلك فيلم رشَّة جريئة للمخرج سعيد حامد (2001)، الذي يدور في معهد السينما بين طلابه المُحبَطين في وسط فني خانق لا يسمح بالإبداع الحقيقي.
وهنا فرصة للإشادة بالشركة المنتجة ريد ستار، والتي برز اسمها مؤخرًا على الساحة باختياراتها الفنية التي تتبوأ مكانة مميزة في المهرجانات السينمائية، وربما هذا الفيلم هو من باكورة إنتاجاتها التجارية بمعنى التوجه به لجمهور أوسع من جمهور المهرجانات المحدود، بينما كان اختيار هذا النص لكاتبته ومخرجته التي تخوض أولى تجاربها الإخراجية، هو مغامرة حقيقية تحتاج لجسارة وشجاعة منتج فنان مؤمن بالإبداع، يخرج عن تقاليد السوق ويكسرها، ويقف وراءه بميزانية تناسب متطلبات هذا النوع الخاص من الأفلام كي تخرج للمشاهد بأفضل جودة ممكنة.
أرادت سارة أن تقدم تحية للسينما وأفلامها ومبدعيها سواء في مصر أو من العالم، فنجد ظلالًا لأفلام ميوزيكال شهيرة مثل LA LA LAND تظهر في لقطةٍ مطبوعةً على جاكيت حبيبها نوح، وكذلك (1952) Singing in the rain وهو الفيلم الذي اختارت مايان/وردة أن تشاهده مع أستاذها الدكتور يوسف في السينما.
كما تستعيد فيلم علموني الحب (1958) عندما يريد نوح أن يتواصل مع حبيبته المُتخَيَّلة، يجد الإجابة حاضرةً في الفيلم "كلمها بطريقتها .. ابعت لها جواب"، والإيمان بالحب الخيالي الذي انتصر له الفيلم، لتقول بطلته إيمان "لو راح الخيال هيفضل إيه في الدنيا جميل"، كأنّ سارة أرادت أيضًا أن توجِّه انتقادًا لهذا التراث السينمائي الذي عزز أفكارًا وهمية رسخت في المخيِّلة الجمْعية وساهمت بدورها في تشكيل تصوراتنا عن الحب.
كوبيليا.. الدمية
ينطلق "ولنا في الخيال حب" من استعارة كلاسيكية تعود إلى أسطورة وباليه كوبيليا الدمية التي تدب فيها الروح ويقع في غرامها شاب، قبل أن تكتشف محبوبته أن هذا الحب ليس سوى وهم مصنوع من الخيال. خلاصة الحكاية، التي يضعها الفيلم في سطر واحد واضح: الحب غير المتبادل وهم مرضي، والشفاء منه ضرورة.
لصياغة هذا الوهم بصريًا، اختارت المخرجة أن تستعين بلوحات فان جوخ، الفنان الحالم الذي قال "أنا أحلم لوحاتي، ثم أرسم ما أحلم به". يبدأ الفيلم باستيقاظ البطل الصغير نوح داخل لوحة Starry Night، التي تتحول إلى موتيفة بصرية ممتدة، تحدد باليتة الألوان (الأصفر، الأزرق، الأبيض)، وتؤسس لعالم من الحلم والخيال. يتجلى هذا الهوس باللوحة في تفاصيل يومية؛ حقائب، دفاتر، وإكسسوارات، فيما تحضر لوحة Sunflowers وتهدي البطلة وردة من زهور عباد الشمس إلى الدكتور يوسف تعبيرًا عن بداية الانجذاب.
إلى جانب التشكيل، تتضافر الفنون داخل الفيلم: التصوير (مهنة نوح)، النحت (تمثال الزوجة المتوفاة)، الباليه، التعبير الحركي، والموسيقى، حيث يشكّل البيانو مساحة حميمة تجمع وردة ويوسف.
وكنت أتمنى أن يدخل الاستعراض في بنية السرد، ولا يكتفى به في نهاية الفيلم بعرض جميع الاستعراضات، مع الاعتماد عليها كجزء من فهم أكثر للعلاقات ورسم الشخصيات ربما عزز من Genre الميوزيكال دون الاكتفاء بلمحة منها.
بحكم كونه فيلمًا موسيقيًا، قدم الموسيقار خالد حماد موسيقى أصلية منسجمة مع تحولات الدراما، مدعومة بمقطوعات عالمية مثل The Lonely Ballerina، التي عززت نوستالجيا الرقة المفقودة في عالم معاصر قاسٍ.
ينفتح الفيلم كذلك على شوارع القاهرة وبيوتها الحقيقية وقاعات الدراسة وأكاديمية الفنون ومعهد السينما ودار الأوبرا والكونسرفتوار بما يمنح العمل صدقًا بصريًا ووجدانيًا.
اليقظة مقابل الحلم
دراميًا، تتحرك الشخصيات بين طرفي نقيض؛ أحمد السعدني/د. يوسف الغارق في اكتئاب الفقد، وعمر رزيق/نوح المندفع في بهجة خيالية مفرطة، بينما تقف مايان السيد/وردة في المنتصف، منجذبة إلى العالمين.
يسلط الفيلم الضوء على وهم المثالية في الحب، والبحث عن صورة كاملة متخيلة بدل مواجهة عيوب الإنسان الحقيقي، وهو ما يقود إما إلى الهروب من الحياة، أو إلى نشوة بهيجة زائفة، بعيدًا عن وسطية الحب الصحي.
يستحضر النص مفهوم "الغرابة" كما شرحه الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه الفن والغرابة: مقدمة فى تجليات الغريب في الفن؛ "حالة قلق بين الحياة والموت، بين الألفة والوحشة، بين الوعي وغيابه"، فيجسد يوسف الخيال الموحش المرتبط بالفقد، بينما يمثل نوح "الخيال المضيء" القائم على أحلام اليقظة. وكلاهما غريب بطريقته.
صرح أحمد السعدني بأنه استعان بطبيبه النفسي لبناء شخصيته في الفيلم؛ صوت منخفض، جسد منكمش، نظرات متجنبة، كلها تفاصيل تجسد هشاشة إنسان فقد رغبته في الحياة.
وليس اختيار فان جوخ مرجعية صامتة في الخلفية سوى تأكيد على هذا الخط؛ فالحزن الذي يدوم إلى الأبد، كما وصفه الباحثون في سيرة فان جوخ، ينعكس بوضوح على يوسف، ليقدّم الفيلم جلسة علاجية فنية عن الفقد، والاكتئاب، وأوهام الحب، ويصل إلى خلاصته الراقصة البسيطة حد واحد في الحقيقة.. أحلى من مليون خيال.
أحد مقاييس نجاح العمل الفني أن يسكن وجدان مشاهديه لأيام وشهور وسنوات، و"لنا في الخيال حب" فيلم يسعد المشاهد إنسانيًّا ويثقفه فنيّا؛ تبحث عن قطعة مزيكا، أو مرجعًا للوحة، عن رقصة باليه، عن كتاب أو رواية.