موقع السينما- برخصة المشاع الإبداعي
لقطة من فيلم "واحدة بواحدة"

سرقات فنية.. متى يكون تمصير الأفلام جيدًا؟

منشور الاثنين 3 أبريل 2023

أبديت إعجابي قبل سنوات على فيسبوك بصفحة فيلم ما لا أتذكره حاليًا، ربما كان كده رضا، أو الرجل الأبيض المتوسط. ردَّ عليّّ صديق بأن الفيلم مسروق، كنت أعلم أنه مقتبس/مأخوذ عن أصل أجنبي، لكنني لم أكن شاهدت الفيلم الأصلي حينها.

قلت له إن الفيلم أعجبني، وأنه مُمصر أو مقتبس بإتقان لدرجة أنني تصورت أنه نتاج سيناريو أصلي مكتوب خصيصًا لبيئة مصرية. لم يعجبه كلامي، قال "السرقة سرقة"، فقلت إن الأمر معقّد، لأن التأثر بأصل القصة وارد، واقتباسها وتمصيرها وارد، وهذا التمصير قد يكون جيدًا أو سيئًا، ويمكننا التعامل معه، إذا كان جيدًا، بصورة منفصلة عن الأصل.

لكنني بعد سنوات من ذلك النقاش لا أزال أفكر، هل فكرة التمصير في حد ذاتها جيدة أم سيئة؟

تعريفات تقنية

يجب علينا أولًا وضع تعريف للتمصير ومحاولة تمييزه عن الاقتباس. فالتمصير هو إعادة إنتاج فيلم أجنبي بالعامية المصرية، وتحويل عناصره إلى ما يتناسب مع "البيئة المصرية". بمعنى أن نحوّل مثلًا لاعب البيسبول إلى لاعب كرة قدم، لأن وجود لاعب بيسبول في مصر أمرًا غريبًا وبعيدًا عن واقع البيئة المصرية.

أما الاقتباس فكلمة تناسب وصف عملية تحويل النصوص إلى أفلام، أكثر ما تناسب إعادة إنتاج الأفلام بتفاصيل مختلفة.

ويوجد أيضًا نوع آخر يطلق عليه "أفلام الفورمات"، وهي الأفلام المنقولة عن أصل أجنبي بتغيرات بسيطة. والفارق بينه وبين التمصير أو التعريب هو محاولات الفورمات الحفاظ على الأصل الأجنبي والإشارة له والتأكيد أنه نسخة مترجمة عنه، مثلما حدث مع فيلم أصحاب ولا أعز (2022)، الذي أخرجه وسام سميرة، وهو النسخة العربية من الفيلم الإيطالي Perfect Strangers الذي أخرجه باولو جينوفيز (2016)، ونقل إلى ما يقرب من 25 نسخة بلغات مختلفة حول العالم.


لكننا في هذا السياق نتحدث تحديدًا عن التمصير، وهو أمر قديم جدًا، قِدم السينما المصرية ذاتها تقريبًا.

حدث قديم

لا يوجد تأريخ واضح لبداية التمصير في السينما المصرية، لكن يمكن رصده في فيلم سلفني تلاتة جنيه (1939)، بطولة علي الكسار وتأليف وإخراج توجو مزراحي، والمأخوذ عن فيلم شارلي شابلن الشهير City Lights الذي عُرض عام 1931، مع تغيير السبب الذي يدفع البطل للبحث عن الأموال، ففي الفيلم الأجنبي يساعد شابلن فتاة كفيفة أحبها على إجراء عملية جراحية لعينيها، أما في النسخة المصرية فالدافع وراء جمع الأموال هو الاحتفاظ بالمنزل الذي يعيش فيه البطل مع زوجته وحماته. لكن رغم تغيير الدافع الرئيسي، أبقى مزراحي على عدد من المشاهد الأساسية، منها على سبيل المثال مشهد الملاكمة الشهير.


لدينا أيضًا حالة من حالات التمصير المتسلسل مع أفلام المخرج عيسى كرامة وبطلها إسماعيل يس، اللذان حولا عدد من أفلام الثنائي الأمريكي الشهير Abbott and Costello إلى نسخ مصرية، دون الحاجة حتى إلى تغييرها لتناسب البيئة المصرية، مثلما حدث مع ثاني أفلامهما حرام عليك (1953)، والممصّر عن فيلم Abbott and Costello Meet Frankenstein المعروض عام 1948، وهو بدوره نسخة هزلية/parody من فيلم عرض عام 1943 بعنوان Frankenstein Meets the Wolf Man.

لم يحاول الفيلم تغيير تيمات الرعب غير المصرية أو يستبدل بها أخرى من الثقافة الشعبية، بل أبقى على وحش فرانكنشتاين، والمستأذب، وأيضًا دراكولا الذي أدى دوره استيفان روستي. لا يعني هذا أنه ليس بإمكاننا استعارة تيمات رعب أجنبية، ما قصدته هو أن محاولة التمصير في الفيلم اقتصرت على اللغة دون الأدوات الأخرى وتطويعها لتناسب بيئة العرض.


هل يعني هذا أن الفيلم سيئ لأنه غيّر اللغة فقط دون تغيير التيمات الأساسية؟ لا، لكن الأفلام السيئة عادةً ما تلتزم بالحبكة غير المناسبة لبيئة العرض.

سرقة أم اقتباس

يقول الرسّام بابلو بيكاسو "الفنانون الجيدون يقلدون، والفنانون العظماء يسرقون"، وهي جملة لها تفسيرات عديدة، الأقرب لمعناها هو أن التقليد قد يجعلك فنانًا جيدًا، لكن الناس سيعلمون أن إنتاجك متقن النقل، لكن السرقة تعني أنك تعرف قيمة الثمين من الشيء، وتأخذ منه بذكاء قبل أن تضيف إليه.

يحدث هذا الأمر في السينما أيضًا، ويمكنك أن تراه بوضوح في أفلام المخرج كوينتين تارانتينو مثلًا، حيث يقدم الكثير من الإحالات لأفلام قديمة أحبها عندما شاهدها خلال فترة عمله في محل تأجير شرائط الفيديو. لكنه مع ذلك استطاع خلق أسلوب خاص به، حتى أن الناس لن تشك في أن بعض المشاهد مأخوذة عن أفلام أخرى قديمة.

هل يمكننا اعتبار الأمر سرقة؟ لا، يمكن أن يكون الأمر تحية لأفلام أحبها المخرج أو السيناريست، أو أن الفنان لا يزال في بدايته ويحاول تجربة أسلوب مخرجه المفضل، أو حتى محاولة أخذ الفكرة العامة من أحد أفلامه وبناء فيلم مختلف، كما فعل المخرج محمد خان في فيلمه ضربة شمس (1980) الذي أخذ فكرته الأساسية من فيلم مخرجه المفضل مايكل أنجلو أنطونيوني Blow up المعروض عام 1966. 


إنتاج عالمي

هل السينما المصرية هي الوحيدة في العالم التي تعيد إنتاج الأفلام الأجنبية بما يتناسب مع البيئة المحيطة؟ لا، يحدث ذلك في عدد كبير من الدول، تعيد هوليوود إنتاج الأعمال الفرنسية واليابانية والإنجليزية منذ زمن بعيد، بعض هذه الأعمال جيدة مثل The Departed المعروض عام 2006، والمأخوذ عن الفيلم الصيني Infernal Affairs المعروض عام 2002. وبعضها لاقى نقدًا لاذعًا وتحول إلى نكتة للجماهير مثل Oldboy المعروض عام 2013، والمأخوذ بنفس الاسم عن فيلم كوري عرض عام 2003.

والعكس صحيح أيضًا، فالسينمات حول العالم أعادت إنتاج الأفلام الأمريكية بأمثلة جيدة وأخرى سيئة أيضًا، نسخ هندية من أفلام The Godfather المعروض عام 1972 وItalian job النسخة الأمريكية المعروضة عام 2003، وهي في الأساس نسخة عن نسخة أخرى بريطانية عُرضت عام 1969. 

كمالة عدد

تواجه فكرة إعادة الإنتاج عن أفلام أجنبية عادةً سمعة سيئة، فإذا نجح الفيلم عامله المشاهدون على أنه تجربة أصيلة، وإذا لم ينجح عاملوه كتقليد رديء عن أصل أفضل، وهم محقون تمامًا في ذلك. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن التعامل مع التمصير ككل باعتباره إفلاس فكري أو حتى سرقة وجريمة، بل يمكننا أن نتعامل مع كل فيلم على حدة.

لذلك أقسّم الأفلام الممصرة إلى قسمين، الأول أفلام سيئة السمعة، وهي الأفلام التي لم يفهم صانعها فكرتها من الأساس لكنه قرر صنعها لأنها أعجبته أو حتى فُرضت عليه. وهذه النوعية من الأفلام زاخرة بالعديد من الأمثلة، مثل فرقة بنات وبس (2000) عن فيلم Some Like it Hot المعروض عام 1959، أو سمكة وأربع قروش (1997) عن فيلم A Fish Called Wanda المعروض عام 1988، والفيلمان للمخرج نفسه شريف شعبان، الذي يمكن التعامل معه كحالة للدراسة لأن جميع أفلامه تقريبًا ممصرة عن أصول أجنبية، ولم ينجح منها -جماهيريًا على الأقل- إلا فيلم واحد هو طأطأ وريكا وكاظم بيه (1995)، والمأخوذ عن فيلم Dirty Rotten Scoundrels المعروض عام 1988.

بعض أفلام المخرج شريف شعبان ممتعة، وموسيقى جميع أفلامه مميزة، لكن المشكلة في النقل الحرفي للأفلام الأجنبية، دون أن يعبأ بمحاولة تطويع أحداثها لتتناسب مع البيئة المصرية، تلك الأفلام مثال جيد على صنع فيلم سيئ عن نسخة أفضل.

سأضرب مثالًا بفيلم سمكة وأربع قروش، أولًا اختيار الممثلين في هذا الفيلم شديد الغرابة، أحمد آدم في دور المحامي الذي لعبه في النسخة الأصلية جون كليز، كاتب الفيلم والممثل البريطاني وعضو فريق Monty Python الشهير.

يلعب كليز دور محامي منضبط حياته جافة وعائلته لا تعبأ بأمره كثيرًا، تنزلق قدماه إلى علاقة مع إحدى عضوات عصابة السرقة، التي لعبت دورها في هذه النسخة جيمي لي كيرتس، فيتخلى عن انضباطه وتظهر شخصية أخرى منفلتة إلى حد ما.

طريقة تمثيل أحمد آدم والكوميديا الخاصة به ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالكوميديا الجافة البريطانية، بل إن نقطة قوة آدم بالتحديد هي استخدامه للحركة الجسدية بمبالغة، وهي طريقة تتماشى مع الشخصيات التي يقدمها مثل القرموطي والشاب سيد وغيرهم، شخصيات تتميز بالنصب/الكذب اللطيف، أو ما يطلق عليه شعبيًا "فوريجي"، حتى أنه قدّم مسلسل بعنوان "الفوريجي". هل يمكن لهذه الطريقة أن تعكس أي نوع من أنواع الكوميديا الجافة الهادئة؟ 

يمكننا تطبيق الأمر ذاته على آخرين، محمد هنيدي في دور فرد العصابة العصبي المتهور الذي يحب الأسلحة والفلسفة، علاء ولي الدين فرد العصابة المتلعثم، والملحن والموسيقي كامل الشريف في دور رئيس العصابة. حتى دور الفتاة المثيرة ذات الذكاء الثاقب لم يكن مناسبًا لجالا فهمي، وإن لم تكن أسوأ اختيار. هذا كله فضلًا عن التمسك بنوعية الكوميديا ذاتها المقدمة في الفيلم الأجنبي، دون التفكير في تطويعها لتناسب البيئة المصرية.

هل يعني ذلك أن نقل الأفلام حرفيًا عن الأصل الأجنبي ينتج فقط أفلامًا سيئة؟ لا، فبعض الأفلام الممصرة سارت على النهج ذاته وقدمت رؤية جيدة للفكرة ونجحت -على الأقل- جماهيريًا. والأمثلة هنا كثيرة ومنها واحدة بواحدة (1984) المأخوذ عن فيلم Lover Come Back المعروض عام 1961، وانتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط (1981) المأخوذ عن فيلم The Woman in the Window المعروض عام 1944.

الفيلمان من بطولة عادل إمام، وهذه معلومة ذات مغزى، كونه أحد أكثر الممثلين الذي قدموا أفلامًا ناجحة مأخوذة عن أصول أجنبية مثل شمس الزناتي (1991) المأخوذ عن The Magnificent Seven المعروض عام 1960، والمأخوذ بدوره عن Seven Samurai المعروض عام 1954. وأيضًا المشبوه (1981) المأخوذ عن فيلم Once a Thief المعروض عام 1965، وغيرهما الكثير.

ميزة تلك الأفلام كلها، رغم اختلاف صناعها، أنها تحمل روحًا أصيلةً وإن كانت نسخًا من أفلامٍ أخرى، كأنها كُتبت خصيصًا بالعامية المصرية وليست باليابانية أو الإنجليزية أو الفرنسية. هذا ما جعلها بالضرورة أحد أنجح الأفلام الممصرة رغم احتفاظ صنّاعها بمشاهد طبق الأصل من النسخ الأصلية.

هناك نوع آخر من الأفلام الممصرة يجب ذكرها، وهي الأفلام التي تحتفظ بفكرة الفيلم الأصلي مع تغيير العديد من التفاصيل، لينتج عنها قصة مختلفة تمامًا. من الأمثلة الأوضح هنا فيلم كده رضا (2007) المأخوذ عن Matchstick Men المعروض عام 2003، والحرب العالمية الثالثة (2014) المأخوذ عن Night At the Museum المعروض عام 2006، والرجل الأبيض المتوسط (2002) المأخوذ عن Nothing To Lose المعروض عام 1997. 


جميعها، على اختلاف صنّاعها، ينطبق عليها أنهم غيروا كثيرًا في الحبكة والنهاية والشخصيات، ما أنتج سيناريو شبه أصيل بملامح مصرية تمامًا. تحول بطل Matchstick Men إلى ثلاثة توائم بشهادة ميلاد واحدة، وتحولت مشكلات الأفارقة الأمريكان في Nothing to Lose إلى مشكلات محدودي الدخل وأصحاب الابتكارات العلمية في مصر، وتحولت التماثيل شبه الحقيقية في Night At the Museum إلى نسخ شديدة الهزلية في متحف شبه مهجور. هذه التغيرات أعطت نكهة خاصة للأفلام جعلتها تبتعد كثيرًا عن النسخ الأصلية.

الشاهد في الأفلام الممصرة جيدًا أنها فهمت فكرة التمصير، أو السرقة بالمعنى الذي قصده بيكاسو، أن تأخذ الفكرة كقطعة طين وتشكلها حسب رؤيتك وبما يتناسب مع البيئة المحيطة بك، لتصنع منتج مستقل بذاته إلى حدٍ بعيد، يضيف إلى رصيد السينما، دون أن يصبح عبأ ثقيلًا عليها أو كما نقول بالعامية المصرية "كمالة عدد".