بإذن خاص للمنصة
مروان سعادة

مع مروان سعادة| أكبر مما تحتمله أغنية واحدة

منشور الخميس 22 يونيو 2023

في عام 1979 كان الملحن الفرنسي من أصل مصري جيف بارنيل، يبحث عن أغنية باللغة العربية لتغنيها داليدا، فكتب لشعراء من مصر ولبنان يطلب منهم كلمات مناسبة، وفي الوقت نفسه طلب من صديقه المصري مروان سعادة أن يساعده بصياغة كلمات بالعربية تصلح لأغنية تتدرب عليها داليدا، حتى يصل ما سينتجه الشعراء ليختاروا من بينها واحدة.

كان سعادة في ذلك الوقت يحضّر للدكتوراه بجامعة السوربون في فرنسا، دون أن يستطيع العودة للقاهرة التي غاب عنها لفترة طويلة بسبب مشكلات تتعلق بالتجنيد. ومدفوعًا بالحنين ووحشة الغربة، أمسك القلم وكتب ما يعبر عن اشتياقه لبلده، وخلال دقائق قليلة كان قد انتهى وأرسل الكلمات إلى صديقه بارنيل.

ورغم ذلك الإنجاز في الوقت، كان مروان متشككًا تجاه ما كتب، فرغم أنه يمتلك تجارب سابقة في الكتابة والتلحين إلا أنها كانت كلها بالإنجليزية، وكانت تلك التجربة "أول مرة أكتب فيها بالعربي"، كما يقول في حواره مع المنصة.

المفارقة في الأمر، كما يقول الشاعر المصري، أنه أثناء التدريب "وقعت داليدا في غرام الأغنية" واستغنت بها عن أي كلمات أخرى مفترضة لمشروعها. فكانت أغنيتها الشهيرة "حلوة يابلدي".

يمكن عند الحديث عن تجربة مروان سعادة أن نقول بسهولة أن الأغنية كانت لكاتبها مثل فرصة لا تكرر في العمر غير مرة، فاقتنصها وحصد منها نجاحًا لا يزال يجني ثماره حتى اليوم.

غير أنه من المجحف إلصاق عملية الإبداع بالصدف، وإن صاغتها ملابسات كثيرة غير مخطط لها. في الواقع، لم تكن هناك غير عاطفة شديدة تصيغ الحكاية، بدءًا من جملة مروان الرنانة "أملي دايمًا كان يا بلدي إني أرجعلك يا بلدي وأفضل دايمًا جنبك على طول"، مرورًا  بتعلق داليدا بها مقابل الكلمات الأخرى، بعدما داعبت مشاعر حنينها إلى مصر حيث ولدت "لأنها شعرت بكل حرف فيها"، كما يقول سعادة.

لا أنكر حب الجمهور للأغنية، إنما كنت أنتظر تقديرًا من بلدي

 

العاطفة بداية كل شيء

يمكن أن نقف هنا في حكاية سعادة أو حكاية الأغنية، فهناك مبدعون حققوا نجاحًا وتأثيرًا بعمل واحد. ليس هناك أبرز من جيروم ديفيد سالينجر، الذي دخل قائمة أفضل الأعمال الأدبية في التاريخ بعمله الوحيد الحارس في حقل الشوفان.

لكن حياة سعادة كانت أغنى من اختصارها في أغنية أو عمل واحد، مهما أدرك ذلك العمل من نجاح.

فالموسيقي والمسرحي المصري المولود في القاهرة، الذي عاش في حي جاردن سيتي، بدأ اهتمامه بالفن في سن الـ17، وللمفارقة، كان السبب دفقة عاطفية أخرى أحدثها فقده لأبيه، فأمسك الجيتار وعزف كيفما اُتفق، بينما يبكي أباه في حرقة، ومنذ ذلك الوقت والموسيقى هوايته الأفضل. فبدأ في التردد على نادٍ كان يعزف فيه  الجيتاريست الشهير عمر خورشيد، ليتلقى منه ما يحتاجه من نصائح تقنية.

في المرحلة الثانوية لم يستطع مروان، وكان طالبًا في مدرسة العائلة المقدسة الفرنسية/الجيزويت، الحصول على مجموع يؤهله للالتحاق بجامعة مرموقة داخل مصر، ففضلت عائلته أن يُكمل دراسته في باريس مع أخيه الذي كان يعيش هناك.

وفي باريس التحق الموسيقي، الذي سيُعرف بعد ذلك بأغنياته الإنجليزية، بدراسة الهندسة، وتخصص في العمارة ومكث في قسمها نحو سنتين، قبل أن يدرك أنه غير قادر على مجاراة المواد الدراسية "قررت أن أنتقل إلى كلية الآداب بجامعة السوربون لدراسة اللغات، وحصلت على الليسانس واستكملت الدراسات العليا فحصلت على الماجستير في الترجمة، وفي نفس الوقت بدأت دخول الوسط الفني هناك"، يقول للمنصة.

غلاف أحد ألبومات مروان سعادة

كان مروان قبل مغادرته القاهرة يملك فرقة موسيقية من الهواة، "لكن الحفلات وأجواءها لم تكن تستهويني، فاكتفيت بالعزف مع أصدقائي. وعندما انتقلت إلى باريس استمر الأمر، وفي أحد الأيام كنت في زيارة لأسرة فرنسية وعزفت على الجيتار  وغنيت. وكان يزور تلك الأسرة في نفس الوقت أحد العاملين في الوسط الفني، الذي أصبح مدير أعمالي فيما بعد. طلب مقابلتي بعد الزيارة لعمل تجربة أداء، وسجلنا أغنية وعرضناها على أكبر شركات الإنتاج في فرنسا حينها، ونالت إعجابهم فقرروا إصدار أول ألبوماتي عام 1974 بعنوان  Anothor Time، ونجح نجاحًا كبيرًا فأنتجت لي الشركة أغان أخرى من غنائي، وبعضها من تأليفي، مثل Too Late ، Why Oh Why، Eternity ، Look Back (With Sadness)، وغيرها".

ومما يتضح من عنوان الألبوم، كانت الأغاني كلها بالإنجليزية، فمروان الذي عاش في باريس وشهدت ميلاده الفني، لم يغنِ مطلقًا باللغة الفرنسية. وهذه واحدة من مفارقات حياته اللافتة، التي يؤكدها للمنصة وتدحض في الوقت ذاته معلومات كثيرة متناثرة عنه على الإنترنت تشير إلى أنه كان يغني بالفرنسية "كان ذلك قرار  شركة الإنتاج التي تعاونت معها، وذلك نظرًا للنجاح الذي حققته تلك الأعمال في تلك الفترة. كانت الأغان تذاع على الراديو في الإذاعة الوطنية الفرنسية، واستضافتني برامج تليفزيونية كثيرة كي أقدم فقرات فنية. واستمر ذلك النجاح حتى منتصف الثمانينيات تقريبًا. بعدها تراجع سوق الإسطوانات، وشعرت بالتعب الشديد من الغربة بعد حوالي 15 سنة في فرنسا، فعدت إلى مصر".

وبالعاطفة أيضًا تتوقف الرحلة

رغم ما سبق ليس ما يتعلق بالأغنية من ذكريات الجيد فقط، فثمة منغصات أيضًا، فبعد أن صدرت "حلوة يا بلدي" وحققت نجاحها المدوي، تسببت في خلاف نتيجة خطأ، ربما يكون صدفة أيضًا، بين صلاح جاهين ومروان سعادة، الذي لم يملك بين المصريين حضورًا يماثل حضور شاعرهم الأشهر.

وقع الخلاف نتيجة لبس وقعت فيه زوجة صلاح جاهين، التي خلطت دون أن تدري، في إحدى اللقاءات المصورة بين أغنية داليدا التي كتبها جاهين، أحسن ناس، وأغنية سعادة. الأمر الذي جعل الأخير يغضب حتى أنه قرر مقاضاته، لولا أن تدخلت صديقة مشتركة فأصلحت بينهما بعد أن اعتذر جاهين إليه.

"ساعتها قلت له لا تعتذر، وأوضحت له موقفي أنني غضبت لأنها رصيدي الوحيد لم أكتب غيرها، إنما هو معروف بأعماله المهمة الكثيرة التي قدمها"، يقول مروان.

كذلك أخرت الغربة الطويلة صاحب "حلوة يا بلدي" عن اقتناص نجاح أغنيته بين المصريين ليخوض تجارب أخرى، وربما لذلك جاءت أعماله المتأخرة في مصر قليلة جدًا. فقدم بعد عودته عام 1988 الموسيقى التصويرية لفيلم امرأة للأسف (1991)، الذي لعبت بطولته يسرا وصلاح ذو الفقار، ولعب فيه نفسه دور جورج صاحب الفندق.

ثم شارك في مسرحية بالعربي الفصيح، آخر الأعمال التي جمعت بين لينين الرملي ومحمد صبحي، والتي كان من بين ممثليها الثابتين لثلاث سنوات متتالية. وقدم أيضًا عام 2002 دورًا صغيرًا في فيلم صاحب صاحبه، بطولة محمد هنيدي وأشرف عبد الباقي.  

وإلى جانب ذلك، عمل مروان مذيعًا في البرنامج الأوروبي، وشارك في تقديم برامج أخرى مثل فستيفال، مع المذيعة سوسن سامي، والذي استمر لـعشرين عامًا. كما عاد لتكوين فرقة موسيقية أسماها "حلوة يابلدي"، قدم معها حفلات في دار الأوبرا وساقية الصاوي في منتصف العقد الأول بعد الألفية الجديدة، واستمرت تلك التجربة حوالي 8 سنوات قبل أن تتوقف لظروفه الصحية "الوقوف على المسرح مبقاش سهل".

لم يتمكن سعادة خلال تلك الفترة من تقديم مزيد من الأغنيات، بسبب ما وصفه من "وسط فني منغلق على نفسه" قاوم دخوله بـ"حرب شديدة"، رفض سرد تفاصيلها. ولكنها رغم ذلك أسفرت عن أغنية أخرى كتب لها الكلمات ولحنها وهي حلوة يامصر، التي غنتها سيمون في ألبوم ميرسي، عام 1989.

يدرك سعادة أن "حلوة يابلدي" واحدة من العلامات البارزة في الأغنية المصرية، ولها شهرة عالمية. لكن ذلك لم يخفف من شعوره بالحزن والإحباط "لا أحب الحديث عن السلبيات، ولا أنكر حب الجمهور للأغنية، إنما كنت أنتظر تقديرًا من بلدي، ليس من الضروري أن يكون التكريم بعد الوفاة". 

مشوار مروان سعادة الذي انطلق بعد فقده أبيه وحزنه عليه، توقف أيضًا بفقد زوجته وحزنه عليها، لكنه لم يستطع في الأخير أن يترجمه إلى موسيقى "رحلتي الفنية هنا (يقصد مصر) لم تستمر؛ رحلت زوجتي وبعدها أصابني المرض، فسافرت إلى فرنسا مرة أخرى للعلاج". ورغم ذلك ما زال يحرص على العودة إلى مصر، حتى وإن كان ذلك عبر زيارات قصيرة.