يوتيوب
مشهد من مسلسل بالطو

كوميديا "بالطو" التي لا تثير ضحك الأطباء

منشور الاثنين 20 مارس 2023 - آخر تحديث الثلاثاء 21 مارس 2023

مواطن مهزوز قليل الخبرة محدود الدراية، لا يعلم الكثير عن العالم خارج غرفته، ولم يلتق أنماطًا مختلفة من البشر أو يعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، بل لم يوضع في مسؤولية من قبل، ناهيك عن التزامه بمنظومة إدارية يجهل كل حرف فيها. لا بد أن يكون وجود مسؤول بتلك الصفات كابوسا حقيقيًا، لكنه الواقع اليومي للأسف.

انتهى عرض مسلسل "بالطو" على منصة WatchIt الأسبوع الماضي. المسلسل مأخوذ عن كتاب بالطو وفانلة وتاب، للمؤلف أحمد عاطف الذي قام لاحقًا بكتابة السيناريو والحوار للعمل الدرامي، وهو يروي يوميات طبيب شاب يصبح مديرًا لوحدة صحية نائية فور تخرجه.

الكتاب ساخر، والمسلسل كذلك، أما الواقع فكارثي. يبدأ الطبيب في مصر رحلته من سن الخامسة أو السادسة عشر، تحديدًا قبل بداية مرحلة الثانوية العامة. إنه نفق طويل سيترك فيه ذلك الشاب، بل المراهق، حياته خلف ظهره لينشغل بشيء واحد حتى منتصف الثلاثينيات، أي الاقتراب من الكهولة، ألا وهو المذاكرة، ثم المذاكرة، ثم المذاكرة. امتحانات تتلو بعضها البعض مثل موج البحر، من الثانوية العامة، إلى الكلية ذات السنوات الست، ثم الدراسات العليا، حتى يمكنه القول بأنه قد بدأ الكارير.

ترايلر مسلسل بالطو


وسط ذلك المشوار الطويل تأتي مرحلة الوحدة الصحية مثل نكتة هزلية، إنه الآن في أوائل العشرينيات من عمره، وقد صار موظفًا حكوميًا، وإذا حالفه الحظ وكان الطبيب الوحيد في الوحدة، فهو الآن مدير، كما حدث مع بطل المسلسل والكتاب، ومعي.

إدارة الكارثة

مدير حتة واحدة، دون ترقية أو تدرج وظيفي أو خبرة من أي نوع. ماذا يعرف ذلك الإنسان عن الإدارة كفن؟ وماذا يعرف عن الموظفين الذين يتعامل معهم؟ بل ماذا يعرف عن اللوائح المنظمة لتلك المؤسسة التي "يديرها"؟

يذكر المسلسل، على سبيل المثال، أنه في حالة فقدان الختم الرسمي فيجب على المدير أن يحرر محضرًا بذلك حتى يتم تغيير شكله منعًا لسوء استخدامه. كما يذكر أنه ليس من حق المدير أن يمنح إجازات لأكثر من ثلث قوة الوحدة. هل تعلم كم من مديري الوحدات لم يكن على علم بتلك اللوائح التي قد تنقذه من كارثة يومًا ما؟

يزداد الأمر سوءًا حين نضيف إلى الخبرة الإدارية الخبرة الفنية والتقنية. فذلك الطبيب في النهاية هو حديث تخرج، يقف أمام مريض لأول مرة وحيدًا، عليه أن يقوم بالتشخيص والعلاج. ليس هناك من يرجع إليه أو يطلب استشارته.

يبدو الأمر أبسط إذا وضعناه في حجمه الطبيعي، فهو "طبيب وقائي"، مهمته أن يتولى الحالة الطارئة وأن يوصل المريض إلى طبيبه المتخصص. لكن ذلك لا يحدث هنا، فالمريض لا يراك إلا "دكتور"، طبيب ببالطو وسماعة، لا ينقصك شيء. سيعمل المريض على جذبك لتلك المنطقة. أنت طبيبه النهائي. طبيب الباطنة والجراحة والأطفال والنساء والتوليد.

العرض مستمر

مع توالي حلقات المسلسل تضاربت ردود الأفعال، فمعظم الأطباء تعاطفوا معه، رغم أنه يُظهر الطبيب الشاب في صورة الأبله المستهتر السلبي عديم المسؤولية، في حين أننا نشاهد كيف تنتفض بعض المهن الأخرى للهجوم على عمل فني يظهر صاحب المهنة في صورة ربما أقل سوءًا من تلك. أما غير الأطباء فأخذوا موقفا سلبيًا من الشخصية، فصفاتها السلبية تكفي وزيادة.

تحتاج هذه التجربة، شديدة الخصوصية، إلى أن تجربها بنفسك لتحكم عليها وعلى من خاضها. أن يتم وضعك في موقع مسؤولية فنية وإدارية دون تأهيل أو تدريب، أو حتى حماية. ففي تلك الظروف الهزلية يتخذ الكثير من الأطباء رد فعل لا يقل هزلية، يتمحور حول "تمام ماشي".

يضع الطبيب أمامه هدفًا محددًا، وهو تمرير تلك المدة حتى يصل إلى مرحلة التخصص أو "النيابة". هنا يعود طبيبًا متدربًا في مستشفى، في وجود أخصائي واستشاري، لا إجازات أو أذونات أو أختام، طبيب وفقط.

ولتمرير الأيام لا يكون مستغربًا أن يرسم الطبيب روزنامة على حائط غرفته ليعد الأيام المتبقية، وأن يتجاوز عن الحزم في المسائل الإدارية حتى إن منح الإجازات للجميع، وأن يجزع من الجزاءات كما يجزع من الموت، وأن يتجنب العداوات الصريحة مع الموظفين الأقدم منه.

إنهم تحت سلطته، لكنهم أقدم منه، أي أكثر سلطة. إنه مسؤول نعم، ولكنها مسؤولية زائفة، تمثيلية سخيفة تم فرضها عليه، ومن الحماقة أن يأخذها على محمل الجد. لكنها في الحقيقة جدية إلى درجة كبيرة.

مشهد من مسلسل بالطو


الوحدات الصحية هي المنفذ الأساسي للملايين من المصريين غير القادرين على التردد المستمر على المستشفيات. تذكر الأرقام الرسمية أن عدد الوحدات الصحية في مصر تجاوز 5400 وحدة في عام 2022، يقع أغلبها في قرى ما بين الوجهين البحري والقبلي، إلى جانب المحافظات الحدودية، ويتردد عليها الملايين من المرضى شهريًا، الذين يعانون من أمراض مزمنة أو حالات طارئة، بالإضافة إلى متابعات الحمل والولادة.

هذا الوضع يضع هؤلاء الملايين في خطر شديد، ويحرمهم من فرص النجاة من كثير من الأمراض التي ربما كان يمكن تجنبها. فالتعامل الصحيح مع الكثير من الحالات المرضية يجنب المريض الكثير من المضاعفات، الأمر الذي دفعت أهميته المجتمع الطبي إلى إنشاء تخصص خاص به وهو طب الأسرة أو طب المجتمع. إنه ليس أمرًا هينًا يُعهد به إلى الأقل سنًا أو خبرة من الأطباء، إنه تخصص مستقل، وله دور لا يقل شأنًا عن أي تخصص آخر، خاصة في خارج مصر، كما يمكنك أن تتوقع.

الواقع أسوأ

اللافت أن الوحدة الصحية المعروضة في المسلسل، هي أفضل من كثير من الوحدات الصحية الموجودة في القرى المصرية، من حيث الاتساع، والتجهيز، وعدد الممرضات. أذكر أنني حين حاولت خياطة جرح أحد المرضى، فوجئت بأن الإبرة المستخدمة شديدة السماكة، ولا يوجد بنج من الأساس. اقترحت على المريض الذهاب إلى مستشفى، لكنه لم يبد اعتراضًا على استمراري فيها، بدا مستسلمًا في أثناء "العملية" التي أصابتني أنا نفسي بالإرهاق.

الصيدلية كذلك لم تكن بهذه الحالة من الاتساع والتنوع، والأدوية التي تحويها كانت محدودة لدرجة أنني كان بإمكاني حفظها عن ظهر قلب، وبعضها كنت أفضل تجاهلها نظرًا لضعف تأثيرها، غير أن المرضى كانوا يتمسكون بها باعتبارها أدوية مجانية توفر عليهم الذهاب إلى صيدلية خاصة.

أما عن المسلسل، فتابعه المصريون، وسوف يتابعه ويضحكون عليه ويتبادلون الميمز والكوميكس بمنتهى الأريحية، عن ذلك الطبيب البائس التائه الذي يتعرض للألاعيب الإدارية من موظفيه والتثبيت من اللصوص والجزاءات من الإدارة الصحية. ذلك الطبيب الذي يغزل برجل حمار، ويستكشف اللوائح، ويمرر الأيام حتى يرحل.

لن يثير صدمة أحد أن مصير كل هؤلاء البؤساء من مرضى قرية طرشوخ الليف معلق بتلك المنظومة الخربة. ولن يتوقف أحد كي يسأل عن مصاير قرى مماثلة، ربما كانت أتعس حظًا بإغلاق وحداتها الصحية نتيجة عدم وجود أطباء على الإطلاق. هذه أمور تجري في الكواليس، بينما العرض مستمر.