تصميم: يوسف أيمن- المنصة
الصعيد

متى يحكي الصعيدي قصته؟

أنا والصعيد ورفيع بيه

منشور الأحد 22 سبتمبر 2024

لأنني لم أكن أجيد لعب الكرة، أمضيت طفولتي في مدينة ملوي بمحافظة المنيا أمام التليفزيون، أشاهد الأفلام والمسلسلات المصرية. وفي تلك التي تصوِّر الصعيد، رأيت كيف جرت قولبتي في تصوِّرٍ نمطيٍّ. 

في تلك المسلسلات الدرامية لم أرَ نفسي وعائلتي ولا مدينتي ولا مدينة تشبهها. وعندما كبرت أكثر وبدأت أدرك العالم، أدركت معه حبي للسينما التي لم أعرفها صغيرًا، فصنعت فيلمي التسجيلي الأول عن غيابها في الصعيد. أصبحت شابًا عاديًا يعمل في المجالات الفنية والثقافية، ولست مطاردًا بثأر ولا أعيش وسط تجار السلاح والمخدرات، مثلما تصوِّر الدراما بلدياتي.

كان والدي تاجرًا، وفي شبابه كان من بين الملايين الذين سافروا للعمل في العراق. وعند عودته فتح محلًا لبيع الدهانات ومواد الطلاء حتى تقاعد. في كل عائلة صعيدية هناك واحد مثله على الأقل، لكنه طيلة حياته التي شاهد فيها مئات المسلسلات الصعيدية، لم يحدث مرّة أن رأى في أحدها رجلًا مثله. كلهم تجار آثار يلهثون خلف ثأر ما.

كصانع أفلام، دومًا ما طاردني فقر الخيال عن الصعيد، لأنني لم أعرف سوى الصورة النمطية التي تعرضها المسلسلات التليفزيونية عن الصعيدي، المحكوم عليه بالرجعية والبدائية. بإمكانه أن يصير نكتةً ويشتري العتبة الخضرا، أو صاحبَ عزبٍ وأراضٍ ومرشحًا للانتخابات، أو فقيرًا مُعدمًا يعمل في أرضٍ زراعية، أو فاحش الثراء يسكن قصرًا منيفًا يتوسط بقعةً خاليةً من الحياة ويربط عِمَّةً على رأسه مثل سلاطين العباسيين. ولكنك لن تراه إنسانًا عاديًا يسير في شوارع مدينته حاملًا همومه العادية في يومه العادي.

تحت وطأة هذا التصور الذي صاغة فنانون مصريون، من بينهم صعايدة مثل محمد صفاء عامر، ترسخ لديَّ ولدى من حولي فقر الخيال، فمبدعو الصعيد لا يعرفون كيف يتناولون قصصه الواقعية، وعندما يقدمون عرضًا مسرحيًا أو حتى فيديو على تيكتوك، فإنهم يقلدون صعايدة المسلسلات بدلًا من تقليد أنفسهم.

عندما كنا ننتج في مؤسسة مجراية برنامج محكى الجنوب، وهو برنامج يهدف إلى إنتاج سرديات مغايرة عن الصعيد، واجه الممثلون صعوبةً في التحدث حتى باللهجة العادية التي نتحدث بها في الشارع، بينما أجادوا تقليد لهجة المسلسلات ببراعة. استغرق الأمر وقتًا وجهدًا للعمل على ذلك، وحينها أدركت صعوبة أن يقدم صعيدي سرديته عن نفسه.

لا يكاد يمر موسم رمضاني إلا وفيه مسلسل صعيدي. قبل سنوات أُنتج مسلسل ولد الغلابة بطولة أحمد السقا، وأحداثه تدور في ملوي. تابعته باهتمام ولكني لم أجد فيه مدينتي. حتى اللهجة كانت خليطًا من لهجتيّ سوهاج وقنا، وغابت اللهجة المنياوية تمامًا. هذا النمط من المسلسلات متكرر، يُعاد فيه تدوير مسلسلات صعيدية أخرى دون الاهتمام بإجراء أي أبحاث.

وحتى مُخرج مثل عمرو سلامة، الذي يقدم نفسه باعتباره شابًا ذا رؤية متجددة تتناول أعماله فئات لا يتحدث عنها أحد، خاب ظني عندما تابعت مسلسله طايع الذي تدور أحداثه في الصعيد. أملت أن يكون مختلفًا، لكن ما وجدته نسخةً رديئةً من مسلسلات الصعيد المعتادة؛ نفس تجار الآثار يبحثون عن الثأر ويرتدون أزياء غريبة.

في الحقيقة، الصعيد ليس كتلةً واحدةً، فهناك كثير من "الأصعدة" مختلفة اللهجات والأزياء والعادات والممارسات اليومية، وحتى مظاهر الناس وطبقاتهم الاجتماعية. يحتوي الصعيد مدنًا وقرى ريفيةً وصحراويةً، تعج جميعها بفنون شعبية متنوعة اكتشفت الكثير منها عندما صرت شابًا. ولكن حتى هذه اللحظة، لا أزال أواجه صعوبةً في التعبير عن نفسي أو رواية قصتي الواقعية.

أول ما يطرأ في مخيلتي عند الحديث عن مسلسل أو فيلم صعيدي، لقطة عشوائية لرفيع بيه العزايزي/ ممدوح عبد العليم من مسلسل الضوء الشارد تقيِّد الوصف في مخيلتي، ومخيلة الآخر أيضًا. فعندما عرضت فيلمي للمرة الأولى في القاهرة، فوجئ كثير من المشاهدين أن في الصعيد مدينة، وأن كل مدينة كان بها سينما. بعضهم كان يظن الصعيد مناطق زراعية شاسعة يتنازع عليها أهلها الأقل تحضرًا.

عدم قدرة الصعيد على صناعة السينما والدراما، تعطي المركز سلطة إلقاء الخطاب وفرض السردية. الصعيد يشاهد فقط. ورغم أن أمي، ربة المنزل التي تسكن المدينة، تعرف جيدًا الفارق بين ما تعيشه وما تشاهده على التليفزيون، فإنها لا تزال مستمرة في المشاهدة، على سبيل استهلاك وسائل الترفيه المتاحة.

عندما شاهد أبي وأمي فيلمي الأول كانت المرة الأولى التي يشاهدان فيها فيلمًا تسجيليًا. وبعد أن شارك في مهرجان زاوية للأفلام القصيرة، توالت أسئلة كثيرة على شاكلة "هل سيُعرض الفيلم في التليفزيون؟".

لا يعرِض التليفزيون مثل هذه الأفلام، ولكن أبي حتى تلك اللحظة يعتقد أني سأُخرج مسلسلًا رمضانيًا في يوم ما. أما أنا فأتساءل إذا كنت حينها سأكون قادرًا أن أحكي قصتي، أم سأنجرف مع تيار مسلسلات الصعيد الفانتازية المليئة بالثأر والمخدرات والسلاح وتجارة الآثار، واللهجة التي لا يتحدث بها أحدٌ.

وبصفتي لست صعيديًا فقط بل مسيحي أيضًا، فأنا أعاني التهميش المزدوج. لم أرَ أيَّ تمثيل للمسيحيين في دراما الصعيد رغم وجود عدد لا بأس به هناك. تمثيل المسيحيين في الدراما عمومًا، كالصعايدة، نمطي، ويرتبط عادة بإقحامنا لإثبات الوحدة الوطنية، ولكن ذلك موضوع آخر.

انتهى بي المطاف كصعيدي يتجول في القاهرة يصحح مفاهيم أصدقائه ويحكي لهم عن الصعيد الذي لا ترصده الدراما أو السينما، في محاولة لمحو انطباعهم عني بأني عنيف ورجعي، أو في أفضل الأحوال محدود الذكاء، لأن "مرة واحد صعيدي..".