منذ أيام، خطر لي أن أدشن هاشتاج #افتحوا_سينمات_الصعيد بعد أن تملكت مني فكرة أن السكوت على غلق السينمات شيء مرعب. فكلما تذكرت رحلتي مع والدتي رحمها الله لسينما أسيوط، وتخيلت أنه كان من الممكن أحرم من تلك الذكرى، ارتجف. وكلما فكرت أن هناك عشرات الآلاف من الشباب والفتيات يحرمون من هذه المتعة، في دولة كانت يومًا هي المُنتج الأول للفنون في العالم العربي؛ ينتابني خوف يتخطى الأسف.
كنت صغيرة جدًا، في السادسة تقريبًا عندما دخلت مع أسرتي الصعيدية السينما لأول مرة بمدينة الأسكندرية، حيث كنا نقضي الإجازة الصيفية بعد عام ممل طويل بإحدى دول الخليج.
كان الفيلم المعروض هو "آيس كريم في جليم". لا أنسى أبدًا شعوري وقتها بالانبهار والسعادة بتلك الشاشة الكبيرة وصوت الموسيقى العالي المبهج، ليصبح من وقتها دخول السينما كالحلم الجميل، أدخل من الباب وأسلم نفسي للشاشة، لأنفصل عن قبح العالم في الخارج.
بعد العودة من الخليج والاستقرار في الصعيد، في محافظة سوهاج تحديدًا، كانت المدرسة تنظم رحلات، ظلت السينما دومًا جزءًا مهمًا من برنامجها.
في بداية الألفينات، كبرنا أنا وأخوتي وأصبح التنزه معنا أقل شقاء، فكانت والدتي تصحبنا أنا وأخوتي في أحيان كثيرة من سوهاج، إلى سينما "رينسانس أسيوط"، لتعلقها بالمدينة التي تلقت فيها تعليمها. وهناك؛ كنا نقضي يومًا جميلاً، لحرص أمي على اختيار يوم يُعرض فيه فيلم كوميدي، غالبًا من بطولة عادل إمام.
دخلت الجامعة في محافظة المنيا التي تحوي قاعتي سينما، كنت أفضل منهما سينما النصر التي أقامتها القوات المسلحة في المنيا الجديدة. وبعد الجامعة بدأت السفر المنتظم للقاهرة، وهناك كنت أدخل السينما وأعوض ما فاتني من تجارب المشاهدة المريحة في القاعات المُجهَّزة، التي دفعتني للانقطاع تمامًا عن سينمات الصعيد لتدهور أوضاعها.
سلسلة إغلاقات
بعد أحداث رابعة تلقيت خبر تخريب سينما رينسانس أسيوط بحزن بالغ، شعرت بأن جزءًا مهمًا من ذاكرتي تعرض للهجوم.
ولكن؛ ظل بي أمل أن يعاد افتتاح السينما بعد ترميمها مما أصابها، حتى علمت من أحد أصدقائي بأسيوط أن هناك شائعات قوية تفيد بأن المبني بيع بالفعل، ويجري الإعداد لإقامة مول تجاري في موضعها، ولا ندري إن كانت ستُلحق به دار عرض على عادة المولات التجارية في القاهرة أم لا.
ما جرى في أسيوط لم يتوقف هناك، بل امتدت العدوى لكثير من محافظات الصعيد التي كان يحوي بعضها داري عرض كمحافظة بني سويف، التي أغلقت بها داري سينما النصر، وقصر ثقافة بني سويف. الفيوم أيضًا أُغلقت بها كافة دور العرض العاملة، لتصبح بلا سينما. وهو عين ما جرى في سوهاج التي أُغلقت بها دار العرض التجارية "أوبرا"، بينما بقي نادي السينما بقصر ثقافة سوهاج "يُقام الثلاثاء من كل أسبوع" بلا إقبال جماهيري يذكر، في ظل عرض النوادي لأفلام –غالبًا- عرضت بالفعل على شاشات الفضائيات.
وفي قنا، صمتت شاشتي دار عرض "سينما ومسرح قنا"، وسينما فاتن حمامة الواقعتين بقلب مدينة قنا. وفي الأقصرأيضا؛ تظل سينما "سيتي مول" خارج الخدمة. أما المنيا وأسوان فكانتا أوفر حظًا، فما زالت بكل منهما دار عرض وحيدة، تعمل وتعرض أفلامًا جديدة.
فتش عن الفقر
في نهاية التسعينات اعتادت مدرستنا على تنظيم رحلة شبه دورية لزيارة أهم الأماكن بالمحافظة، وكانت زيارة سينما "أوبرا سوهاج" هي الفقرة الثابتة في نهاية برنامج كل رحلة.
كانت-كغيرها من سينمات الصعيد- دار عرض غير مجهزة، تعرض أفلامًا انتهى عرضها في سينمات العاصمة. ورغم ذلك؛ رغم إدراكنا أننا نرى الأفلام التي انتهت منها القاهرة، وأن هناك أفلامًا أخرى تُعرض في المركز لن نراها إلا بعد أسابيع؛ كنّا نغادر دار العرض الفقيرة في سعادة، ويظل الفيلم ومشاهده وموسيقاه يشغلون أحاديثنا لأيام.
أتذكر جيدًا رحلة بعينها، انتهت بحضور فيلم "أصحاب ولا بيزنس". أتذكر جيدا كم أحببنا الفيلم وتأثرنا بموت عمرو واكد "الجهادي الفلسطيني". كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أوجها، وعلى عكس المشاعر الشعبية -المتجاهلة على أقل تقدير- لما يجري في فلسطين الآن، كان التعاطف الشعبي مع الانتفاضة ملتهبًا. وبالطبع أثر هذا الفيلم في وعينا كمراهقات صغيرات، يرين ملامح فلسطين على الشاشة في حكاية إنسانية عذبة، غير تلك المشاهد المختزلة التي نراها في نشرات الأخبار.
كنّا في سن المراهقة، خجلنا من مشهد القبلة البريئة بين الجهادي الفسلطيني وحبيبته، أعجبتنا الأغنية وظللنا نردده كلماتها لأيام في المدرسة .تأثرنا وبكينا ضحكنا وتمنينا أن نعيش قصص حب مثيلة لتلك التي رأيناها داخل الفيلم هذه هي السينما التي يحرم منها اليوم ملايين من سكان الصعيد.
قد يظن البعض أن غياب السينما عن الصعيد وضع مستحدث تأثرًا بالأوضاع الأمنية عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة. لكن في الحقيقة؛ لم تتعرض أي من دور العرض في الصعيد للهجوم والتخريب في أعقاب الفض إلا سينما "رينيسانس أسيوط"، التي كانت متوقفة عن العمل بالفعل، لسبب آخر معلن هو ضعف الإقبال.
لكن؛ ضعف الإقبال لم يكن دومًا قاعدة في سينمات الصعيد، فمنذ وقت طويل سبق الثورة ما تلاها، تعرضت سينمات الصعيد للإهمال بعد انتشار الإنترنت وسهولة تحميل الأفلام ومشاهدتها، في مجتمعات ترتفع فيها نسبة الفقر التي تجعل من الذهاب للسينما تكلفة يمكن – إن توافرت البدائل- الاستغناء عنها.
ويعزز من هذه الفرضية حقيقة أن الفئات العمرية الأكثر إقبالا على السينما هم الشباب، الذين يعانون من قلة فرص العمل وأحيانًا انعدامها تمامًا، خاصة في الصعيد الذي تبلغ نسبة البطالة فيه 12.5%، وهو المعدل الأعلى بين أقاليم مصر وفقًا لدراسة للباحث سعيد أحمد علي، صادرة عن جامعة جنوب الوادي. وترتفع هذه النسبة إلى 16% بين الشباب في دراسات البنك الدولي.
وإلى جانب الفقر الذي يصل معدله إلى 60% في محافظات الصعيد؛ تلعب العادات والتقاليد إلى جانب التراخي الأمني دورًا في إحجام بعض فئات الشباب عن الذهاب للسينما في الصعيد. فهناك صعوبة شديدة في ذهاب البنات بمفردهن – دون أحد أفراد الأسرة- إلى السينما، مع تخوف الأسر من تعرض بناتهن للتحرش، أو لما يدور في الأحاديث عن "سوء سمعة" السينمات غير المجهزة، التي كانت تُستغل من بعض الفئات للقيام بأفعال لا يتقبلها المجتمع الصعيدي.
وفي المقابل؛ هناك محاولات من بعض قصور الثقافة لتفعيل نوادي السينما، وهي محاولات تجري على استحياء إما لضعف الإمكانيات داخل القصور وبيوت الثقافة، أو لضعف الإقبال الذي يرجع - من وجهة نظري- لغياب التوعية بأهمية السينما أو الفن.
ومع إهمال التوعية من خلال مؤسسات الثقافة التي تشرف عليها وتدعمها الدولة بهدف أساسي هو نشر التنوير والثقافة ومحاربة الأفكار الرجعية المعادية للفنون والثقافة والحريات، تعلو الأصوات داخل المدارس والبيوت الصعيدية بحرمانية الفنون وعلى رأسها السينما، واتهامها الدائم بنشر الفساد. بينما تحاول أصوات مغايرة على استحياء، أن تبحث عن منافذ للتعرض للفنون. في الوقت الذي تنعدم فيه الدعاية ولا تبذل مؤسسات الثقافة الحكومية جهدًا يُذكر لجذب الجمهور المتعطش لأنشطتها وخصوصًا نوادي السينما.
رفاهية ولكن..
عقب تدشين هاشتاج #افتحوا_سينمات_الصعيد، جاء تفاعل الناس بطيئًا خجولًا. وبدأ البعض يتحدث بنبرة يأس قائلين "يعني هي جات على السينما؟". نعم جات على السينما. السينما لا تقل أهمية عن أية خدمة أخرى. فقط المجتمعات التي فقدت بوصلتها نحو الحداثة تتجاهل الفنون والثقافة وتعدهما رفاهية زائدة، بينما هي ضرورة لا تقل بحال عن ضرورات الحياة من غذاء ومسكن وتعليم وصحة.
قد تكون السينما -في ظل ارتفاع معدلات الجوع في مصر، خاصة في الصعيد- رفاهية، في ظل استمرار غياب خدمات مهمة للبقاء على قيد الحياة كالمياه النظيفة والتعليم والطرق.
في ظل هذا كله، قد تكون السينما رفاهية؛ لكنها "رفاهية مطلوبة". فلو لم تقدم السينما للصعيدي شيئا سوى الخروج المؤقت من واقعه القاسي، والكشف عن عوالم بعيدة يطمح لأن يتطابق واقعه معها يومًا، لو لم تقدم السينما للصعيدي سوى ذلك الشعور بخفة الروح والإقبال على الحياة، لكفاها.