Red Star Films، فيسبوك
من بوستر دعائي لفيلم شكوى رقم 713317، للمخرج ياسر الشافعي، 2025

ثلاجة معطلة وأسعار جنونية.. فحص فني لـ"شكوى رقم 713317"

عن العالقين في مصعد الهبوط من الطبقى الوسطى إلى بدروم الفقر

منشور الثلاثاء 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

لا تصلحُ أكثرية الأفلام المصرية التي تصور أحداثها الفترةَ الحاليةَ لتعاملَ باعتبارها شهادةً عن واقع المصريين المعاش؛ فواحد من أبرز ملامح حياة الأغلبية غائبٌ عن المشهد السينمائي، وهو أثر الغلاء على الجميع. نرى أفلامًا منفصلةً عن الواقع عدا عن أعمال قليلة، أحدثها شكوى رقم 713317 للمخرج ياسر شفيعي، بطولة محمود حميدة وشيرين وهنا شيحة ومحمد رضوان وتامر نبيل، مع ظهور مميز لإنعام سالوسة.

يقف "شكوى رقم 713317"، الذي يُعرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة والأربعين في منطقة وسطى على الكثير من الأصعدة، هو فيلم كوميدي، لكن لا يمكن إنكار اللمسة الواقعية التي تغلف أحداثه، هو مضحك لكن بلا إفيهات، أبطاله مشاهير ولكن ليسوا نجوم شباك في العصر الحالي.

يتحول عطل الثلاجة فجأةً إلى دليل على أن الأشياء التي نظنها "تعيش للأبد" يمكن أن تنهار في لحظة

اختار ياسر شفيعي، الذي كتب الفيلم وأخرجه، شقة سما/شيرين ومجدي/محمود حميدة مكانًا واحدًا تدور فيه الأحداث. كلا الزوجين على المعاش، وينتميان إلى طبقة وسطى مهددة بالزوال، إضافة لكونهما من كبار السن يعانون بطبيعة الحال من انخفاض شديد في معدل دخليهما بعد تقاعدهما، في مقابل ارتفاع جنوني في أسعار كل شيء لتتمحور حياتهما حول محاولات البقاء طافيين على السطح في الوقت الذي يدفعهما كل شيء إلى الغرق في لُجّة قلق لا ينتهي، خوفًا من خسارة "الستر" الذي يحلم به أغلب المصريين اليوم.

تبدأ الأحداث بحفل عيد ميلاد سما الستين، إذ تتعطل الثلاجة بشكل مفاجئ؛ ثلاجة صغيرة تشبه كثيرًا تلك التي يمتلكها آباؤنا وأمهاتنا، والتي كان يتوقع الجميع أن تعيش للأبد، ولا تلفظ أنفاسها قبل سكان المنزل على الأقل.

توقف الثلاجة المفاجئ يفجّر أزمة عميقة في المنزل الهادئ؛ رغم بساطة الحدث الظاهري في الفيلم، فإنه يفتح بابًا رمزيًا واسعًا، فالجهاز الذي عاش مع الزوجين عقودًا بدون شكوى، وكان جزءًا ثابتًا من البيت مثله مثل الحوائط يتحول فجأةً دليلًا على أن الأشياء التي نظنها "تعيش للأبد" يمكن أن تنهار في لحظة.

هذا الانهيار الصغير يشبه ما يحدثُ للمسلّمات القديمة التي بنت عليها الطبقة الوسطى حياتها؛ الاستقرار، القدرة على الادخار، وضمان وجود حد أدنى من الأمان المادي. ومع اهتزاز هذه المسلَّمات، يصبح تعطل الثلاجة أكثر من مجرد عطل منزلي؛ إنه إعلان عن مرحلة جديدة تتحطم فيها ثوابت كانت غير قابلة للمساس، ويجد أصحابها أنفسهم مضطرين لإعادة ترتيب حياتهم في عالم لم يعد يشبه ما اعتادوه.

في سياق الفيلم، تتحول الثلاجة خطًا واضحًا يفصل بين مرحلتين في حياة الزوجين والطبقة الوسطى بالتبعية؛ ماضٍ بسيط ومفهوم ومستقر، وحاضر يزداد اضطرابًا وتعقيدًا. في الماضي، كانت الثلاجة رمزًا للثبات؛ شيء يعمل بصمت، يواكب الأيام دون أن يفرض أي عبء. أما في الحاضر، ومع تعطلها المفاجئ، تصبح علامةً على عالم جديد يهدد هذا الاستقرار القديم، فالأشياء التي شكّلت إحساسهما بالأمان لم تعد مضمونة، ويدركان أنهما يعيشان في زمنٍ يتغير بسرعة أكبر مما يستطيعان مواكبته.

شخصيات تحارب الزمن

 مبادرات تخفيض أسعار الأجهزة الكهربائية

يعكس الفيلم مدى فداحة الأزمة الاقتصادية على الزوجين، فالاضطرار لشراء ثلاجة جديدة يمثل الآن حالة طوارئ جيم. كارثة لا يمكن حلها إلا بمعجزة من السماء، أو الاتكال على مدخرات قديمة مخبأة للمستقبل، والحلان غير متاحين لمجدي، الذي يرفض استخدام مكافأة نهاية الخدمة الخاصة بزوجته، ما يضطره للبحث عن شركة لإصلاح الثلاجات، وهو ما يدخله في صراع لا ينتهي طيلة شهور.

الشركة شبه النصابة، مثلها مثل كثير من الشركات المشابهة، تعمل على امتصاص أموال وطاقة أبناء الطبقة الوسطى، لتُظهر كيف أصبح الزوجان على هامش الهامش في المجتمع، والأسباب متعددة؛ كبرهما في العمر، ابتعاد ابنهما الشاب عنهما، وبالطبع تراجع مستواهما الاقتصادي.

في أحد مشاهد الفيلم، يطلب موظف شركة الإصلاح من مجدي مبلغ 3200 جنيه، لنراه يبحث في أرجاء المنزل ليجمع المبلغ؛ بعضه من المحفظة، وبعض من الأدراج المخفية. معضلة حقيقية لم يستطع حلها، فكل ما جمعه كان 2400 جنيه فقط.

تكشف المشاهد التالية مدى إحساسه بضخامة المبلغ وضآلة حاله، فحين تسأله زوجته عن تكلفة إصلاح الثلاجة يكذب عليها ويخبرها أنها 600 جنيه فقط، فتؤنبه بأن هذا المبلغ كبير. فكلاهما لا يزال يعيش في زمن كان فيه الـ3200 جنيه يعني مئات الدولارات، وليس أقل من 100 دولار كما الحال اليوم.

تخبر الجارة زيزي/هنا شيحة الزوجين أن ثمن الثلاجة الجديدة 18 ألف جنيه، وهو الرقم الذي يؤكده الإعلان التليفزيوني على الشاشة، ومن بعد ذلك نكون أمام لحظات ذرى متتالية فيما يخص الزيادات الجنونية في الأسعار، فهذا المبلغ يزيد على مدار الأحداث التي تمتد شهورًا من المحاولات غير المنتهية لإصلاح الثلاجة في قفزات مجنونة حتى يصل إلى 50 ألفًا.

هذه الإعلانات تطارد مجدي في كوابيسه، وتزيد كل يوم من شعوره بالتقزّم أمام معاشه الضئيل، الذي لا يكاد يكفي فواتير المنزل وبعض المأكولات البسيطة، التي ستفسد لأن الثلاجة لا تعمل على أي حال.

حافظ المخرج طوال الأحداث على التوازن بين الكوميديا والمأساة، فلم يجعل الكارثة المحورية مرض أحد الزوجين أو تهديدًا بالطرد من المنزل، وهي مخاوف يقع تحت رحمتها الكثير من المسنين اليوم. يعزز طابع الطرافة وجود شخصيات مثل عبير/إنعام سالوسة، مالكة شركة الصيانة التي تديرها بأسلوب عفا عليه الزمن، وفني الثلاجات/محمد رضوان الذي يسخر من التناقض الذي يعيشه الزوجان حين يذكرهما بأنهما من سكان المعادي ولا يستطيعان شراء ثلاجة جديدة.

لم يخش ياسر شفيعي تقديم الواقع والإشارة إلى أزمة يصر صناع الأفلام الآخرون على تجاهلها، ما يجعل أعمالهم فقاعات منعزلة عن حياة الناس؛ أفلام يمكن إدراجها تحت مصطلح أفلام التليفون الأبيض التي ظهرت في فترة مبكرة من السينما المصرية، وتميزت بتركيزها على قصص الطبقة الغنية التي تعيش في القصور، وربما نشاهد الآن ما يمكن تسميته "سينما الآيفون الأبيض".