في الأيام التالية للقبض على أحمد وزينب المتهمين بإساءة معاملة ابنتهما، أعيد سرد الحكاية بتجرّد ينتزعها من سياق عام يشهد انتهاكات ممنهجة ويومية بحق غالبية الأطفال في مصر كثيرًا ما تصل حد الجرائم، لتصبح القصة في النهاية قصةً عن الظلم الذي سيتعرض له أب وأم فقط لأنهما مزحا مع ابنتهما مزاحًا ثقيلًا، من منّا لا يقوم بمثله.
انتزاع الأحداث من سياقها دون فهمها في ظل توازنات القوى القائمة في المجتمع الذي تحدث فيه، يؤدي في النهاية إلى قراءات خاطئة وأحكام مضللَة لما يجري، تمامًا كما يحدث في أي تناول سطحي لقضايا الأقليات أو الفئات المهمشة في المجتمع، فالانتهاك الذي تعرضت له ابنة زينب وأحمد يحولها بلا شك إلى مجنيٍّ عليها بالمفهوم القانوني، ليس فقط عندما صبغت الأم وجهها بالأسود لتفزع ابنتها وتتسبب في بكائها، ولكن أيضًا بتصوير هذا البكاء ونشره على الإنترنت.
يجرّم قانون العقوبات المصري التقاط صور الأشخاص في أماكن الاجتماع الخاصة وكذلك نشرها، دون موافقتهم، إذ يعاقب بالحبس كل من "التقط أو نقل بجهاز من الأجهزة أيًا كان نوعه صورة شخص في مكان خاص"، بحسب المادة 309 مكرر، ويعاقب بالحبس أيضًا كل من "أذاع أو سهل إذاعة أو استعمل ولو في غير علانية تسجيلًا أو مستندًا متحصلًا عليه بإحدى الطرق المبينة بالمادة السابقة أو كان بغير رضاء صاحب الشأن" كما جاء في المادة 309 مكرر (أ).
وفي واقع الأمر، فإن هذه المواد القانونية هي التي تمكّننا من حماية خصوصياتنا وتضمن لنا ممارسة حقنا في اختيار صورنا التي نرغب في نشرها للعامة، وتضع بين أيدينا آليات نستطيع بها منع تداول هذه الصور في أوضاع قد نرى أنها غير لائقة أو تحط من قدرنا أو مكانتنا الاجتماعية أو كرامتنا.
ومفهوم أن كثيرين لن يوافقوا على نشر صورهم في لحظات الفزع والارتباك والخوف والبكاء، لن يختار أحد أن يكون بالنسبة لقطاع عريض من الجمهور ذلك الطفل الذي يبكي على يوتيوب، ومن أجل ماذا؟ أن يكسب أحدهم بعض المال. وحتى إذا كان هناك من سيقبل بذلك، فإن هذه مسألة يجب أن يُمنح فيها الإنسان حق الاختيار الواعي.
ويبدو بديهيًا أن يحمي الآباء والأمهات حقوق أبنائهم في الخصوصية والكرامة طالما أنهم ما زالوا قصرًا؛ تمامًا كما يحمون بقية الحقوق التي لا يستطيع الأطفال حمايتها بحكم السن وحجم الإدراك ومحدودية القدرة على التصرف. بعض الشخصيات العامة مثلًا لا ينشرون صور أبنائهم مطلقًا حتى وإن كانت لائقة ويستبدلون بها رموزًا تعبيرية (emojis) في صورهم العائلية، حماية لحق أولادهم في اختيار تداول صورهم على نطاق واسع من عدمه. كان هذا التزامًا يقع على عاتق أحمد وزينب، كشخصيتين عامتين، نحو ابنتهما؛ وبالتالي يبدو مهمًا أن تكون هنا آليات جادة للمحاسبة وضمان حماية الطفلة.
ولكن اللافت أكثر في "السردية المجرّدة" لقصة زينب وأحمد مع ابنتهما، هو ارتكازها بشكل أساسي على الوالدين وبحثها عن مصلحتهما دون الالتفات إلى الطفلة إلا مرة واحدة، عندما تعلق الأمر بحماية أبويها؛ "مجرد مزحة سخيفة لا تستحق عقابًا بل تقويمًا، ودور الرعاية خيار سيئ للطفلة إذا أبعدت عن أبويها". طرح عابر لخيار التقويم بدلًا من العقاب، دون أي حديث جدّي عما قد يحدث لطفلة يجمع والداها المال بتخويفها واستخدام صور بكائها لإضحاك الآخرين، بعد أن يعرفا أن ارتكاب مثل هذه الأشياء سينتهي بهما في أسوأ الأحوال إلى جلسة لتقويم السلوك.
ليست هذه دعوة لسجن أحد، ولكنها محاولة لفهم كيف تعمل العدالة، وفهم لماذا لا يجب أن يعاقب أحمد وزينب لأنهما أساءا معاملة ابنتهما ونشرا صورًا غير لائقة لها دون إرادتها ولكنهما سيعاقبان لو أنهما أساءا معاملة أي شخص آخر واستخدما صوره للتربح. محاولة لفهم الاستدعاء الانتقائي لمآسي حياة الأطفال في دور الرعاية عندما يتعلق الأمر بجريمة ارتكبها آباء بحق أبنائهم وإهمالها في غير هذه الأوقات، تمامًا كما حدث في العام الماضي عندما استُدعي الحديث نفسه بعد أن لاحت في الأفق احتمالات معاقبة سيدة أجبرت ابنها على أن يتدلى معلقًا من شرفة المنزل، لإحضار مفتاح ألقاه في مكان ما.
حكاية أحمد وزينب مع ابنتهما يجب أن تُقرأ في سياق اجتماعي يضفي شرعية على جرائم كثيرة يرتكبها آباء بحق أبنائهم؛ بدءًا من تلك المقبولة على نطاق واسع كالتعنيف والضرب وإساءة المعاملة، وانتهاءً بجرائم كالختان وتزويج الأطفال، أصبحت مقبولة على نطاق أضيق بعد التوسع في إعلان رفضها. ويجب أن تُقرأ أيضًا في سياق اجتماعي يكثر فيه استدعاء آيات عواقب عقوق الوالدين ولكنه لا يلتفت كثيرًا إلى أن أكثر من 60% من الأطفال بين سن 13 إلى 17 سنة يتعرضون للعنف البدني ونحو 75% منهم يتعرضون للعنف النفسي، بحسب استطلاع أصدرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونسيف عام 2015 بالتعاون مع المجلس القومي للأمومة والطفولة.
ما يخبرنا به أيضًا هذا الاستطلاع الذي جرى على عينة من الأطفال في محافظات القاهرة والإسكندرية وأسيوط، أن نحو 10% فقط من الأطفال على علم بالخدمات التي قد تساعدهم عندما يتعرضون لسوء المعاملة، وأن غالبية الأهل والمدرسين والقيادات الدينية بل وبعض الأطفال أيضًا، يرون في العقاب الجسدي "أسلوبًا مقبولًا" للتأديب، وأن نصف المدرسين تقريبًا أعربوا عن رفضهم لحظر العقاب الجسدي في المدارس وأيدوا قصره على حالات محددة.
ولكننا في النهاية لن نلتفت لكل هذا، نحن فقط نعرف أننا سنلوم هذا "الجيل البايظ"، إذا كبر أحد هؤلاء الأطفال الذين تواجه غالبيتهم العظمى الضرب والتعنيف، دون أن يكون بارًا بوالديه.